نحن «الخارجات عن القانون» سنقضّ مضاجعكم

أدّت الراحلة الكبيرة سعاد حسني مشهد اغتصابها في فيلم «الكرنك» بروعة مشهودة، ويحكى أنها انهارت نفسياً من بعده، لكن قسوة المشهد ومرارته لا تعكسان الصورة الكاملة تماماً. فبشاعة الحدث في آنيّة وقوعه، لا تضاهيها سوى بشاعة التعامل معه بعد انتهائه.
تقع حادثة الاغتصاب، فتختار المرأة – إذا لم تصبح جثة – إما الإبلاغ عمّا حدث أو الصمت، وفي الحالتين عليها أن تخضع لنظام اجتماعي مكرّس لحراسة «المصلحة العامة» على حساب حاجاتها الفعلية بعد وقوعها في التجربة. فبدلاً من معالجة جذور الموضوع، يختار المجتمع دائما «لملمته» بسطحية استفزازية. وهذه المقاربة تنعكس في الفلسفة القانونية المهووسة بالتستّر على ما حدث وتدبير عريس للمرأة المغتصَبة هو المغتصِب بعينه. باختصار، القانون ومراكز الدرك وطواقمها في لبنان، غير مؤهلة البتّة للتعامل مع شكاوى الاغتصاب. فمن الفحوص الطبية التي تخضع لها المرأة المتقدمة بالشكوى، إلى أسلوب الدرك في التعاطي مع الأمر، ومن ثم عفن القوانين التي توفّر عشرات المخارج للمغتصِب، كل ذلك يدفع بالنساء إلى الكفر بالمنظومة القانونية والانكفاء عن تقديم الشكاوى. من جهتها، لا تعنى الفلسفة الإعلامية بالموضوع إلا إذا انتهى بجريمة قتل وجثة، أو تتناوله من منطلق دراميّ مسرحيّ لا يرقى إلى مستوى الحدث وصدق النية بإيجاد الحلول.
أما المجتمع بذاته، فيكشّر عن أنيابه إما ليطلب من المرأة السكوت حرصاً على السمعة، أو ليفتّش عن أسباب للومها ومعاقبتها، كونها موضع ضعف، كي يطمئن نفسه إلى رقيّ أخلاق أبنائه، وإلى سلامة «المصلحة العامة». ففي ما عدا اغتصاب طفلة، يهرع المجتمع للتساؤل: «ماذا كانت ترتدي؟ لماذا سلكت ذلك الطريق؟ في أي ساعة كانت عائدة؟ لماذا فتحت له المجال ليحادثها؟». وبالطبع، يعود هذا إلى الارتباك الأزلي للمجتمع في التعامل مع الجنس والجسد، وهوسه في تكريس سلطة الرجل الجسدية على كل ما حولها، فيغدو مضطرباً وقاسياً فباحثاً عن «مهرب سالم» من الاغتصاب، ما ينتج عنه قواعد اجتماعية ونصوص قانونية ودينية حازمة تمنع وتسمح، ترفض وتقبل، تصفّق وتعاقب، بعيداً عن أي مقاربة منطقية وعميقة للموضوع. لكن ما لا يعيه هذا المجتمع، أن ليس علينا نحن النساء أن ندفع ثمن التطور التاريخي للتسلط الاجتماعي والسياسي والقانوني على أجسادنا.
وفي خلال هذه العملية الجهنمية لـ«إصلاح ما انكسر»، تتجاهل هذه المنظومة حاجات المرأة تجاهلاً تاماً، فلا تجد نظاماً صحياً واجتماعياً وقانونياً ونفسياً مؤهّلاً لاحتضانها. كيف يمكن لهذا المجتمع أن يكون لامبالياً بامرأة تضطر للعيش في جسد واحد، مع جسد منتهَك، أو في بيت واحد مع منتهِكها؟ أما من مكان لمصلحة هذه المرأة، في إطار «المصلحة العامة»؟
وعندما يأتي الحديث إلى الاغتصاب الزوجي، تفقد الفلسفة الدينية – الاجتماعية صوابها، وتهرع لتتآمر وتتكاتف مجددا لحراسة «المصلحة العامة» و«سلامة الأسرة». وبالطبع، «المصلحة العامة» تعني إبقاء السطوة في يد الرجل، كربّ منزل، وكرجل دين، وكرجل سياسة، فيرضخ القانون لهذه الإرادة ويعتبر الاغتصاب الزوجي حقّاً شرعياً. ويكتسب هذا النوع من الاغتصاب حساسية فائقة، لأنه يحدث داخل المنزل، حيث يجب أن تكون سلطة الرجل غير خاضعة لأي مساءلة (من رجل آخر طبعاً)، وحيث يفوّض الزوج المغتصِب الصلاحية المطلقة للتصرّف بجسد زوجته، بقوة ورقة الزواج. وبما أنه أمر كثير الحدوث، وشديد الرفض من المجتمع، تختار الزوجة السكوت إما عجزاً، وإما خوفاً من الفضيحة أو الطلاق، وإما لعدم رغبتها في خوض ساحات القتال، بدءاً من مراكز الدرك وصولاً إلى المحاكم الشرعية والروحية. باختصار، يثير تجريم الاغتصاب الزوجي الهلع في نفوس رجال الدولة والدين، لأنه يسائل السلطة المطلقة للزوج في المنزل الزوجي، ويدعو المرأة لامتلاك جسدها والتحكم به، ويطرح سؤالاً مرعباً هو: أين تقف حدود «المصلحة العامة» عند حرية وسلامة جسد الفرد، لا سيما إذا كان جسد امرأة؟
لقد حمّلنا المجتمع خوفه مما يحدث لنا، بأن بتنا نخاف مما يحدث لنا. نخاف من أن نبدو ضعيفات أو شاكيات، نخاف من أن نعترف لأنفسنا بأننا اغتُصبنا. نخاف من أن نخجل من النظر في عيون أمهاتنا وآبائنا وصديقاتنا. نخاف من أن نخجل من النظر في أعيننا في المرآة، حتى إننا نخاف على حياتنا، فنختار الصمت. لكن هذا الصمت ليس خياراً طبيعياً، بل هو التواطؤ الذي يريدون فرضه علينا كي نستمرّ في هذه المسرحية الدموية راضيات بها، خائفات منها.
اليوم، لا أريد أن أقرأ كيف تعرّف «ويكيبيديا» الاغتصاب وآثاره النفسية والجسدية. لا أريد مطالعة قانونية جديدة عن عفن قانون الاغتصاب في لبنان. لا أريد أن أفتح التلفزيون أو الراديو لأسمع شيخا جديداً يعتبر إقحام جسد في جسد آخر عنوة، «حقا شرعيا». لا أريد أن أسمع رئيس الوزراء أو أيا من وزرائه، يطمئنون حرّاس العادات وحماة التقاليد من أن أي قانون يسيء إلى سلطتهم لن يمرّ لأنه «يمسّ بتقاليد المجتمع». أنا المجتمع، وهي المجتمع، وهما وأنتما وأنتنّ وأنتم، وكلّنا نريد قانوناً يجرّم كل أنواع الاغتصاب، وآخر ما نكترث له هو «المصلحة العامة». لا أريد أن أتسوّل اهتمام الدولة وتعاطف المجتمع بعد الآن، وآخر ما يهمّني هو إقناعهم بأن هوسهم المقتصر على حراسة الشرف لا يجدي نفعاً. اليوم، أريد أن أقول للمجتمع كل ما لا يريد سماعه.
اليوم، لن أروي قصة جديدة عني أو عن صديقاتي، كي يشعر الآخرون بالتعاطف أو بالغضب ويقرّروا التظاهر ضد الاغتصاب. فكلّها عواطف لحظية تزول عند أول ضحكة وثاني رواية. اليوم، الحق أقول لكم، إن المطالبة بتجريم جميع أنواع الاغتصاب والعمل على استيلاد نظرة مجتمعية جديدة لهذه الجريمة، هي جزء أساسي من نضالنا السياسي حتى آخر حبة من تراب حقوقنا. اليوم، بتنا على مفترق طرق، فالصمت والتزام الخضوع هو موقف مطبّع مع الوضع المخزي القائم، وانتزاع حقّنا بمساحة شخصية آمنة وجسد حرّ من كل الانتهاكات هو موقف سياسي، وليس أجمل من الإنسان حين يغدو كائناً سياسياً. ولا بد لهذا النضال السياسي كي يكون مدوّياً وجديراً بآلامنا، أن يشبه حقيقتنا ويومياتنا في الشارع. لا بد له أن يبدأ من الشارع يوم السبت المقبل، من أمام وزارة الداخلية اللبنانية في تمام الساعة 12 ظهراً.

السابق
قاسم هاشم: لا يمكن مناقشة الهواجس عن المنابر بل عبر الحوار
التالي
قرطباوي للـ”mtv”: السلاح بين أيدي الناس يختلف عن سلاح المقاومة وموقف “حزب الله” من زيارة بان الى بيروت لا يعدو كونه رأيا اساسيا