خطة إصلاحية أو..الدموع

من يدفع فاتورتي كهرباء في لبنان يعاني، شأنه شأن من يسرق الطاقة. الدولة غائبة عن تحصيل حقوق ناسها، وهي توقفت عن الاستثمار في إنتاج الكهرباء منذ زمن. الحلول موجودة، ووُضعت على طريق التنفيذ، لكن العراقيل تهدد بوقوع كارثة

منزله في الطبقة الثامنة من المبنى. وظروف العمل لا تسمح له بأن «يؤقلم» دوامه مع دوام التقنين. أصلاً، هو يرى أنه من المذلّ أن يتحكم التيار الكهربائي بأوقاته. لم يعد يقبل بالتبريرات التي حاول إقناع نفسه بها: لا ليست رياضة، إنه إذلال. يدفع أكثر من 300 ألف ليرة لبنانية ثمناً للكهرباء، الرسمية منها والأهلية (الاشتراك). لكن ذلك لم يمنحه بعد حق الوصول إلى منزله بمصعد كهربائي في بداية العقد الثاني من الألفية الثانية بعد الميلاد. في رحلة الصعود على الدرج، يتذكر كلّ من تولى وزارة الطاقة ورئاسة الحكومة منذ نهاية الحرب الأهلية حتى اليوم. حتى أولئك الوزراء المغمورون في الذاكرة، كسليمان طرابلسي وموريس صحناوي. في نظره، جميعهم مسؤولون عن إذلاله: عمر كرامي، رشيد الصلح، رفيق الحريري، سليم الحص، نجيب ميقاتي، فؤاد السنيورة، سعد الحريري، محمد يوسف بيضون، محمد عبد الحميد بيضون، جورج افرام، إيلي حبيقة، أيوب حميد، محمد فنيش، ألان طابوريان وجبران باسيل . يراجع نفسه. ثمة ما يدفعه لاستثناء جورج افرام.
لن يقنعه أحد في العالم بأسباب توقف الدولة اللبنانية عن الاستثمار في إنتاج الكهرباء. المعادلة بسيطة بالنسبة إليه. سكان لبنان يزدادون يوماً بعد آخر. واستهلاكهم للطاقة يرتفع. ولا مجال لتلبية الطلب إلا بزيادة الانتاج. فأي عقل تفتقت عبقريته وقفاً لإنشاء معامل لإنتاج الكهرباء؟ لا أحد يعلم. مناصرو رفيق الحريري يتهمون النظام السوري ورجاله في لبنان بعرقلة مشاريعه. وخصوم الحريري يتهمون الأخير بتدمير القطاع تمهيداً لبيعه وشرائه. هذا الجدال لا يهم الصاعد على الدرج مقهوراً. كلهم مسؤولون.

في إحدى البقاع النائية من لبنان، كان ثمة بلدة لا تنقطع فيها الكهرباء. لكن قبل أشهر، بدأت العتمة تتسلل إلى تلك القرية وأخواتها، بعدما تعطل محول الكهرباء الرئيسي الذي يغذّي المنطقة. لم يحتمل الضغط. ما العمل؟ أيام قليلة وظهرت الحقيقة. مشكلة هذه القرى زيادة الاستهلاك. الحل بسيط إذاً. تبديل المحوّل. لكن القصة لم تنته هنا. فقد بيّنت الإحصاءات التي أظهرها بعض العاملين في قطاع الكهرباء أن القرية التي تنعم بالكهرباء فيها هدر للطاقة بنسبة 80%. بكلام آخر، 80% مما تستهلكه تلك البلدة من الكهرباء مسروق. وفي القرى المجاورة، تراوح نسبة السرقة بين 40 و70%.

في بقعة نائية ثانية من لبنان، وقع خلاف بين رئيس المجلس البلدي لإحدى البلدات الكبيرة، وأصحاب المولدات، على خلفية التسعيرة. لم يجد رئيس البلدية سبيلاً للضغط على رؤساء البلديات سوى أن يقصد الموظف المسؤول عن توزيع الطاقة في منطقته، ليرشوه بمبلغ ألفي دولار أميركي، لقاء أن يمنح الموظف بلدة «الريس» الوقت الأقصى من الكهرباء خلال شهر كامل. علم أصحاب المولدات بما جرى، فتوجهوا نحو الموظف «لإكرامه». في اليوم التالي، اتصل الموظف بالريّس قائلاً: دفعوا لي 20 ألف دولار لأقطع الكهرباء عن بلدتك، هل تزيد؟

الفساد أينما كان. من الطبقة السياسية إلى المؤسسات العامة، وصولاً إلى جزء لا بأس به من المواطنين. «وينيي الدولة؟» الدولة قادرة على منع التعديات، يؤكد الوزير جبران باسيل. وثمة مشروع للتوزيع لا يضمن وقف التعديات فحسب، بل يسمح لمؤسسة الكهرباء بالتحكم بالطاقة، وخفض التعرفة في ساعات محددة من الليل، وخفض قوة التيار في غير ساعات الذروة. كل ذلك ممكن، وهو مشروع أنجز على الورق، ويحتاج إلى أربع سنوات لإنجازه على مساحة الأراضي اللبنانية. لكن المشكلة ليست هنا. وضع الكهرباء في لبنان لا يبشر بالخير. نزف مالي تجاوز عتبة الأربعة مليارات دولار سنوياً، ومرشح لأن يصل إلى 10 مليارات خلال سنوات قليلة. لكن الأرقام لا تهم من يذلّهم التقنين يومياً. فما الذي تعد به اللبنانيين خلال العام المقبل بعدما صار مبلغ الـ 1.200 مليار دولار في عهدتك بموجب قانون؟ «كل معاملة بحاجة إلى 20 توقيعاً. وفي كلّ دائرة نجد من يعرقل عملنا. والكارثة التي ستقع لن تترك أي مجال آمناً: المالية العامة، الاقتصاد وصورة البلاد، حياة الناس ومعيشتهم، والأكثر من ذلك، المشكلة الميثاقية». والعبارة الأخيرة هي تمويه للعبارة اللبنانية الشهيرة: «مشكلة طائفية». فبحسب باسيل، «المناطق المسيحية تسجّل النسبة الأعلى من الالتزام بدفع بدل الكهرباء». ثم يستدرك قائلاً: «لكن هذا لا يعني بأن المناطق الأخرى لا تدفع. أنا أتحدث عن النسب الإجمالية. فبعض المناطق ذات الغالبية المسيحية لا تدفع بنسبة مرتفعة. والأمر ذاته ينطبق على مناطق تسكنها غالبية من الطوائف الاخرى».
ويرى باسيل أن ما يحول دون الانفجار هو التعاون بين جميع الوزارات المعنية، وبين الحكومة ومجلس النواب، وتنفيذ عدد من المشاريع الملحة، كخط الغاز وخط المنصورية والمباشرة بخطة التوزيع، إضافة إلى استئجار البواخر. لا يعترف وزير الطاقة بوجود مشكلات مستعصية في بعض المناطق المحرومة من الساعات المخصصة لها ضمن برنامج التقنين: «ففي هذه المناطق، ثمة مشكلتان، إما الاعطال العادية التي تصلحها المؤسسة مباشرة، أو تلك الناتجة من التعديات على الشبكة. عملياً، وعدا المشكلة الوطنية العامة، لا توجد مشكلات إضافية سوى في مناطق التعديات». وبماذا يعد وزير الكهرباء اللبنانيين في العام المقبل؟ «إذا لم يتعرض المشروع للعرقلة، فسيشعرون في نهاية العام المقبل بتحسن ملحوظ، وسيرون المعامل الجديدة قد بوشر بناؤها. وأنا متأكد أننا سننجز خطتنا الإصلاحية لقطاع الطاقة على المدى البعيد. أما إذا عرقل البعض مشروعنا، فلا أعدهم سوى بالدموع».  

السابق
شربل: الاجهزة الامنية مستنفرة لمواكبة ليلة رأس السنة
التالي
وفود عديدة تحضر لتعزية الشيخ نبيل قاووق