أسباب رفع وتيرة الحرب الأمنية عند حزب الله

امر "المواجهة" المكشوفة او الخفية بين "حزب الله" وجهاز المخابرات الاميركية ليس جديدا على الاطلاق، فهو قائم منذ فترة ظهور الحزب الى النور في مطلع الثمانينات، واتخذ الوانا عدة، ولكن السؤال الذي فرض نفسه في الايام الاخيرة هو: لماذا اختار الحزب من جهته هذا التوقيت ليعلن رفع وتيرة المواجهة بينه وبين هذه الاجهزة على هذا النحو، لا سيما بعدما بادر الى اماطة اللثام في الساعات الاخيرة عن كثير من الخفايا مع الاسماء المتصلة بما يسمى "محطة" هذا الجهاز في بيروت، وبالتالي يبني على هذا الشيء مقتضاه ويشرع في فتح ابواب المواجهة العالية النبرة مع هذا الجهاز، مما يوحي بأنها باتت عبارة عن معركة متعاقبة الفصول في المستقبل؟

حزمة من المعطيات والوقائع دفعت الحزب، الذي كان يحيط امر مواجهته وتعاطيه مع اي طرف يدرجه في خانة الاعداء والخصوم بستار من الكتمان ويختار ان يكون بعيدا من الانظار واجهزة الاعلام، الى رفع منسوب المواجهة الى هذا المستوى المكشوف والصدامي، وفق ما يقوله مقربون من دوائر القرار في الحزب، واولها ان الحزب يعتقد جازما ان الجانب الاميركي هو الذي اختار ان يبدأ بتصعيد أشكال المواجهة والتصادم مع الحزب وذلك عندما بدأ ينظم عملية "خرق" متعمدة ومدروسة لجسد الحزب "الجهادي"، اي الجسم المقاتل في الحزب. وقد وقف الامين العام للحزب السيد حسن نصرالله قبل اشهر قليلة ليعلن ان اجهزة مكافحة التجسس في الحزب كشفت عملية خرق مخابراتية اميركية للجسم المقاوم في الحزب عبر ثلاثة كوادر هم من قيادات الصف الثاني في هذا الجسم العزيز على عقل قيادة الحزب وموضع فخر واعتزاز بالنسبة اليه، وكونه عصيا على اي اختراق، لا سيما وان انتقاء عناصر هذا الجسم وقياداته تتم بعناية دقيقة جدا ووفق معايير ومقاييس عالية المستوى وبالغة التعقيد.
في ذلك الحين، انقسمت الآراء والتفسيرات، فالبعض اعتبر الكشف عن الخرق انجازا مشهوداً لجهاز المخابرات الاميركية ولقدرتها على اختراق "الحصن الحصين" لدى الحزب، ولا سيما ان الخرق كان على مستوى كوادر عليا متمرسة، امضى بعضها في مسالك القتال مع الجسم المقاوم للحزب اكثر من ثلاثة عقود.في حين ان البعض الآخر وضع الامر في خانة تسجيل الانتصار للحزب، كونه ملك الجرأة للكشف عن الموضوع، فضلا عن ان الخرق كان يعد في بداياته الاولى، اضافة الى ان الحزب لم يخش فتح باب المواجهة المكشوفة والمعلنة مع اقوى جهاز استخباراتي في العالم.
وبين هذا وذاك، اخذ الحزب قرارا فحواه أنه اذا ما اراد الاميركيون معركة على المكشوف وليست معركة "ظلال" فلتكن.
وأمر آخر اخذه الحزب في الحسبان، وهو ان امر الدخول الاميركي المباشر على المواجهة الامنية والاستخباراتية مع الحزب، لم يأت على هذا النحو الا بعدما نجح الحزب بالتعاون مع اجهزة امنية رسمية لبنانية خلال عامي 2008 و2009 في الكشف عن الغالبية العظمى من خلايا التجسس والتي نظمها الاسرائيليون في لبنان في مرحلة ما بعد حرب عام 2006 وقبلها، مما جعل الخبراء العسكريين الاسرائيليين يتحدثون صراحة عن مرحلة من العي الاستخباراتي مني به جهاز "الموساد" فاضطرت تل ابيب الى الاستنجاد بالحليف الاميركي الذي سار لملء الفراغ.
ورغم ان الاميركيين حاولوا آنذاك التقليل من اهمية ما كشف عنه السيد نصرالله من معلومات عن تورطهم المباشر في المواجهة مع الحزب في ساحته، على رغم ان السفيرة الاميركية مورا كونيللي سارعت في اليوم التالي الى زيارة زعيم "التيار الوطني الحر" النائب ميشال عون، طالبة منه نقل رسالة الى قيادة حليفه "حزب الله"، فإن ما شجع الحزب لاحقا على الاقدام على ما فعله أخيراً من تصعيد المواجهة مع الاميركيين على خلفية الموضوع اياه، هو ان الصحافة الاميركية نفسها بادرت من تلقائها قبل ايام قليلة الى الحديث عن "الضربة الامنية" الكبرى التي وجهها "حزب الله" الى مخابرات الدولة الاعظم في العالم، مما اعطى الحزب دافعا اقوى لاعادة الحديث عن الموضوع، ولرفع وتيرة المواجهة مع الجهاز الاقوى لدى الاميركيين من خلال توجيه ضربة اخرى الى "محطة" بيروت، بالكشف عن اسماء العاملين فيه كخطوة، علما ان ثمة في محيط الحزب من يقول بأن الحزب، وسيرا على المنوال نفسه، يحضّر لتوجيه ضربة اخرى الى الجهاز نفسه من خلال الكشف عن اسماء بعض "المجندين" اللبنانيين.

وبمعنى اخر، شكّل الكشف الاعلامي الاميركي عنصر ثقة بالنفس وتحفيزاً للحزب لكي يواصل فصول "حربه" المفتوحة مع الجهاز الامني الاميركي، ويمضي بها قدما الى مراتب تصعيدية غير مسبوقة.
الثاني: الواضح ان "حزب الله" عندما اختار طريق المواجهة مع المخابرات الاميركية على هذا النحو المكشوف انما كسر عن عمد قواعد اللعبة. ولا ريب في ان نظرة الى مشهد الصراع في الاقليم بعد اندلاع الاحداث في سوريا والعناصر الداخلية من الساحة اللبنانية على أفق هذه الاحداث، توحي بأمر واحد وهو ان هذا الفعل الهجومي من جانب حزب اتبع دوما نهج التكتم والروية في مواجهاته، انما جاء رد فعل على الاخرين الذين اختاروا ايضا عن عمد ومنذ نحو ثمانية اشهر، ان يكسروا قواعد اللعبة وهم يخوضون غمار معركتهم الشرسة ضد النظام السوري حليف الحزب، لا سيما انهم جندوا في هذه المعركة جزءا من الساحة اللبنانية. وعليه، لم يعد بمقدور الحزب ان يفرح بسره ويكشف الامر، عندما حقق ضربة استخباراتية ضد جهاز اختار ان يكون العين الرديفة للاستخبارات الاسرائيلية، فالمعركة باتت واحدة وممتدة الى اكثر من ساحة، وبالتالي كسرت فيها كل المحرمات وتم تجاوز كل الخطوط الحمر.

الثالث: ان الحزب يعتبر انه حقق "نصره" على جهاز استخباراتي عريق معاد له، ليس عبر الطرق الكلاسيكية في مواجهات من هذا النوع، اي التصفيات والتفجيرات واعمال الخطف وسواها من اعمال الاستفزاز، من خلال وسائل علمية تعتمد خرق حصون الخصم وكشف اسراره واماطة اللثام عن طرق عمله وتتبعها ورصدها، وهي في علم المواجهات الاستخبارية، اي مواجهات الظلال، تعتبر معادلة لعمليات التصفيات والتفجيرات وسواها.

الرابع: ان "حزب الله" وبعد ما حققه في حرب تموز 2006 وبعد تعاظم قوته اخيرا بات يدرك انه صار موضع ملاحقة وترصد من جانب دوائر استخبارية عدة، وبالتالي لم يعد بامكانه تجاهل هذا الترصد والتتبع، وخصوصا انه يعتبر انه بعد عام 2005 تعاظم تدخل خصومه وانتشارهم على الساحة اللبنانية، لذا كان الحزب مضطرا بعد احداث عام 2008 ان يبدأ مرحلة جديدة من المواجهة الامنية مع منظومات خصومه الاسرائيليين والغربيين عموما، لا سيما بعد اغتيال ابرز قيادييه الحاج عماد مغنية (رضوان). لذا عزز جهاز مكافحة التجسس لديه، وزوده معدات متطورة، ومن ثم زود السلطات الامنية الكثير من المعلومات ادت لاحقا الى "ضرب" ما يعتقد انه اكثر من 80 بالمئة من العين التجسسية الاسرائيلية، واخيرا فتح ابواب عملية المواجهة على مصراعيها مع جهاز المخابرات الاميركية.

ماذا بعد؟
بالنسبة الى الحزب، الامر يعتمد عل اقتناع خصمه الجديد بعدم العودة الى مرحلة عقد الثمانينات وضرورة الكف عن لعب دور "مخلب القط"، واذا لم يتحقق ذلك فالحزب، كما يقول صراحة، لديه من الجرأة للكشف عن مزيد من الاوراق المستورة التي هي بمثابة ضربات جديدة للفعل الامني للعدو، وهذا يعني استعدادا تاما لدفع المواجهة الى مداها الاقصى.  

السابق
عرقجي: للاسراع في استخراج النفط والغاز
التالي
عمليات سرقة وسلب في صفير وحرج القتيل وانطلياس