هل ارتكب جوبيه وغوتيرون زلّتي لسان؟

بعد العاصفة التي أثارها كلام البطريرك الراعي في باريس، أسرَّ غبطته الى أحد زواره واثقاً: «لا تخش تلك الضجة. فكلما كان منسوبها مرتفعاً كان ذلك تأكيداً أن مواقفي موضع بحث وتشريح وتمحيص على طاولات أصحاب القرار…». وفي تأكيد لتوقع سيد الصرح، لم يلبث ان سجل تطوران فرنسيان على هذا الصعيد: أولاً عودة الكلام عن ضرورة تفعيل المهمة الموكلة من قبل رئاسة الوزراء الفرنسية حول مسيحيي الشرق، وثانياً طرح الموضوع مباشرة امام الجمعية الوطنية الفرنسية (مجلس النواب) عبر سؤال موجه الى وزير الخارجية الفرنسي حول أوضاع مسيحيي الشرق ومصيرهم. غير أن التطورين لم يخفيا قلقاً وريبة حيال المسألة، وخصوصاً في ظل الكلام المتسلل من المسؤولين المعنيين في الهيئتين.

ماذا عن هذه المهمة أولاً؟ منذ حزيران الماضي، وفي ظل تطورات ما تصر باريس على تسميته «الربيع العربي»، أصدر رئيس الوزراء الفرنسي، فرانسوا فيون، قراراً كلف بموجبه السيناتور أدريان غوتيرون، مهمة الاطلاع على أوضاع مسيحيي الشرق. مدة المهمة ستة اشهر قابلة للتجديد. أما نطاقها فيشمل مصر، إيران، اسرائيل، لبنان، سوريا، الأراضي الفلسطينية، تركيا والعراق. ولاحقاً ذكر أن بلداناً أخرى أضيفت الى المهمة، وصولاً الى باكستان وإثيوبيا. أما غوتيرون فهو عضو مجلس الشيوخ الفرنسي، ورئيس مجموعة الصداقة الفرنسية اللبنانية في المجلس نفسه، فضلاً عن كونه عمدة مدينة روزيير. وقد استهل مهامه بزيارة الفاتيكان للتشاور حول المطلوب منه. غير أن اللافت انه بعد انطلاقه في مهمته، ورغم انقضاء أكثر من نصف مدتها، اكتفى حتى الآن بزيارتين لكل من تركيا والعراق. فيما يتردد في أوساطه أنه ينوي لاحقاً إضافة محطتين في اسرائيل والأردن. علماً أن جميع المعنيين والخبراء والمسؤولين يدركون تمام الإدراك أن البلدان التي تثار فيها حالياً قضايا المسيحيين في الشرق، تتمحور حول سوريا ولبنان، وقد انضمت إليهما مصر أخيراً، بعد انتصار «ثورة» أوباما وساركوزي. لكن مؤشر القلق الأول البادي من مهمة غوتيرون، بمعزل عن وصف البعض له بأنه من «هواة» القضايا السياسية الخارجية، كان عبارة وردت على لسانه في تصريح له منذ مدة، حول طبيعة المهمة المكلف بها. إذ بعد سلسلة الإنشائيات المتكررة حول «حماية الأقليات» و«حرية العبادة» و«كرامة الشخص الإنساني»، اعترف السيناتور الفرنسي بأن الموضوع الذي يقاربه «شاسع وشائك جداً». قبل أن يدسّ بين كلامه البليغ عبارة تختصر كل القلق. يقول غوتيرون: «كل المسؤولين السياسيين والدينيين يقولون بضرورة تجنب الهجرة الجماعية من هذه المناطق»…
لم يكن الحق بالخوف والشك والريبة ليقف عند هذا الحد لو لم يأت لاحقاً وزير الخارجية الفرنسي ألان جوبيه، ليضيف إضاءة أكثر خطورة على كلام غوتيرون. ففي 11 تشرين الأول الجاري، مثل الوزير الشيراكي العريق أمام الجمعية الوطنية الفرنسية في جلسة مناقشة لسياسات حكومته. وعلى وقع مجزرة الأقباط في القاهرة، ورد إليه سؤال نيابي حول مسيحيي المنطقة وموقف باريس من قضيتهم. ووفق اللغة الدبلوماسية نفسها، أعاد تلميذ الشيراكية تكرار اللازمة الخشبية نفسها: «كما تعلمون، فرنسا لم تنفك تدين بشدة كبرى عمليات العنف الموجهة ضد مسيحيي هذه المنطقة، في العراق ومصر. تماماً كما فعلنا حيال ما حصل في القاهرة». قبل أن يتابع وزير خارجية ساركوزي: «نحن لم نكتف بالكلام، لقد استقبلنا على أراضينا الأشخاص المهددين الذين كانوا ضحايا أعمال العنف والإرهاب. هكذا في العراق، ومن ضمن برنامج استيعابي، قمنا باستقدام أكثر من 1300 مسيحي (عراقي) الى فرنسا». وكأن جوبيه قد استدرك زلة لسانه، أو قرأ هول المفاجأة الواقعة على النواب المستمعين الى إفادته، فانتقل بعد «اعترافه» الخطير هذا، الى الكلام عن رهان حكومته على «الربيع العربي»، بوصفه فرصة تاريخية كما سماها، لمشاركة تلك الأقليات في ديموقراطيات بلادها، كما قال…

ماذا لو طوينا كلام المسؤولين الفرنسيين الاثنين حول «المهمة» المكلفين بها وجمعنا طرفي تصريحيهما؟ غوتيرون يتحدث عن تجنب الهجرة الكثيفة. وجوبيه يؤكد وجود «برنامج استيعابي» لاستقبال المسيحيين المهددين. هل أخطأ الرجلان في التعبير عن مكنونات مخبأة، أو في الكشف عفواً ولاوعياً عن قرار سري ما متخذ؟ لا يفعلها الشيراكيون؟ بلى يفعلون. وقد فعلوها من قبل، وبصيغة واضحة وأكثر مباشرة. كان ذلك حين استدعوا بطاركة الشرق الى روما سنة 2006، وأرسلوا إليهم دبلوماسياً من عندهم، يقول لهم بالكلام الواضح: الحل لكلدان العراق هو بالرحيل عن بلدهم، ونحن جاهزون للاستيعاب.
هناك كانت «اللعبة» ــــ كما تقول اللغة الفرنسية ــــ هي النفط. في سوريا، وبعدها ربما لبنان، هل يكون الغاز هو ثمن المسيحيين؟  

السابق
بعد شاليط…هل يُكشف لغز رون اراد؟
التالي
عن رحلتي في بلاد الأميركان (4): لمن يهمه الأمر… هوليوود قصة خرافية بامتياز