تساؤلات عن ثمن شليط وعن أسرى الحرية

أخيرا، تم التوصّل إلى صيغة اتفاق بين حركة حماس وإسرائيل، بوساطة مصرية، يتمّ بموجبه إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي جلعاد شليط؛ الذي تم أسره في حزيران (2006) بعد عملية فدائية بطولية جرت ضد موقع عسكري إسرائيلي على الحدود مع قطاع غزة.
بموجب هذه "الصفقة" ستقوم إسرائيل بإطلاق سراح نحو 1027 أسيرا فلسطينيا، نصفهم ممن تبلغ محكوميتهم عدة مئات من السنين، وثمة من بينهم نساء وأطفال، وبعض من القادة في عديد من الفصائل الفلسطينية.
معلوم أن المفاوضات غير المباشرة بين الطرفين، لإطلاق سراح الجندي الإسرائيلي، لم تنقطع منذ حدوث عملية الأسر من دون أن تكلّل بنجاح، بسبب غطرسة إسرائيل وعدم استجابتها لمطالب الفلسطينيين، بدعوى رفضها إطلاق من هم "أيديهم مضرجة بدماء الإسرائيليين". وكانت إسرائيل برّرت حصارها لقطاع غزة، وحربها عليه (أواخر العام 2008) بتحرير الجندي الأسير، من بين أسباب أخرى؛ وهو ما لم توفّق فيه أيضا.
وفي الحقيقة فإن قضية شليط باتت بمثابة قضية رأي عام إسرائيلي إلى حد أنها ضغطت على كل الحكومات الإسرائيلية، وحتى إنها قسمت الإسرائيليين على أنفسهم، فثمة منهم من كان يرى انه ينبغي تحرير شليط ولو بأي ثمن، وثمة منهم من كان يرى انه يجب عدم الرضوخ لمطالب الفلسطينيين، بدعوى أن شليط جندي ويجب أن لايتم التضحية بأمن إسرائيل في سبيل جندي.
على ذلك ثمة سؤال يطرح ذاته وهو: ما الجديد؟ أو ما الذي استدعى التوصل إلى الاتفاق؟ في الإجابة على هذا السؤال من الواضح ان ليس ثمة معطيات جديدة بين الطرفين المعنيين، وان الجديد هو مايحصل في المنطقة، وبالتحديد التحولات الآتية على رياح الثورات الشعبية العربية، فهذا هو السبب الأساس، على الأرجح، الذي ضغط على إسرائيل لوضع حد لغطرستها في هذا الموضوع. واللافت للانتباه أيضا أن هذه "الصفقة" حصلت في وقت يخوض فيه الأسرى الفلسطينيون معركة شرسة في مواجهة سلطات الاحتلال لتحسين ظروفهم في المعتقل.
لكن، ومع أهمية هذه "الصفقة" أو "الانجاز"، وهما تعبيران استخدمتهما قيادة حركة حماس، فثمة عديد من الأسئلة تطرح نفسها، وضمنها، مثلا: ما العمل بالنسبة للإفراج عن الأسرى الباقين، وعددهم يناهز الثمانية آلاف؟ فهل يمكن تكرار تجربة شليط بما لها وعليها؟ أو هل من الأجدى طرح ملف الأسرى كشرط لاستئناف المفاوضات مع الإسرائيليين (إلى جانب وقف الأنشطة الاستيطانية)؟
المعنى من ذلك أن الحركة الوطنية الفلسطينية معنية بالإجابة على هذه التساؤلات وتوضيح إستراتيجيتها في هذا الموضوع، لاسيما أن إسرائيل تعتمد الاعتقال كسياسة منهجية لكسر مقاومة الفلسطينيين، وإسكات مطالبهم الوطنية، حيث الاعتقال ربما يعتبر (من نواح معينة) أكثر وطأة من الاستشهاد، لأن المعتقل يبقى قيدا يثقل على عائلته، فهو بمثابة شهيد ولكنه حيّ.
وإذا تجاوزنا أن إسرائيل تقيّد حياة خمسة ملايين فلسطيني في الضفة والقطاع، وإنها تفرض حصارا مشددا على مليون ونصف من الفلسطينيين في قطاع غزة منذ خمسة أعوام تقريبا، فقد بلغ عدد الفلسطينيين الذين دخلوا المعتقلات والسجون الإسرائيلية منذ احتلال الضفة والقطاع (1967) نحو 750 ألفا، ثمة منهم حوالى 35 ألفا خلال الانتفاضة الأولى (1987ـ1993) وحوالى 15 ألفا خلال الانتفاضة الثانية (2000ـ2005)!
الآن، وعلى ضوء ماحصل، ومع تهنئة الأسرى المحررين وذويهم، والاحتفاء بهم، ومع التقدير للجهود المثابرة التي بذلتها فصائل المقاومة (حركة حماس واللجان الشعبية وألوية صلاح الدين…)، والتي أثمرت هذه "الصفقة"، فإن الفلسطينيين لايملكون تناسي الثمن الباهظ الذي تم دفعه، من عمرهم ومعاناتهم وتضحياتهم، ثمنا لهذا "الانجاز".
فمنذ أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شليط في حزيران (2006) استشهد نحو 2000 وجرح عدة ألوف من الفلسطينيين في القطاع، ضمنهم نحو 1400 شهيد و5400 جريح، فضلا عن تدمير 5350 منزل بشكل كلي و16 ألف منزل بشكل جزئي، جراء الحرب الوحشية العدوانية التي شنتها إسرائيل على القطاع الباسل، بدعوى تحرير شليط ووقف الهجمات الصاروخية (خلال الفترة من 27/12/2008ـ 19/1/2009). هذا إضافة إلى قيام إسرائيل باعتقال المئات من الفلسطينيين في القطاع ضمنهم 1078 في العام 2009 لوحده، فضلا عن ما كابده مليون ونصف من الفلسطينيين جراء الحصار الإسرائيلي المشدد الذي فرض على القطاع منذ صيف العام 2006.
أيضا فإن مشاعر الاحتفاء بالمحررين يجب أن لاتجعلنا نغفل عن مشاعر ذوي الشهداء والجرحى والمعاقين والمعتقلين الذين مازالوا رهائن في السجون الإسرائيلية، والذين دفعوا ثمن اسر شليط، منذ أكثر من خمسة أعوام.
أما بخصوص فصائل المقاومة فلاينبغي أن تؤخذ بهذا "الانجاز" لأن ثمنه باهظ جدا، ولأن الشعب هو من دفع ثمنه. وثمة سؤال مشروع اليوم وهو: هل كان اسر شليط حقا يساوي المعاناة التي تكبدها مليون ونصف من الفلسطينيين في قطاع غزة، جراء الحصار والاعتداءات والقتل الذي تعرض له من قبل إسرائيل؟
وعدا عن كل ذلك فإن الأهم بالنسبة للفصائل أن تجربة اعتقال شليط، والثمن الذي جرى دفعه من الفلسطينيين في قطاع غزة، ينبغي أن تخضع للدارسة لاستنتاج العبر المناسبة منها. ولعل في مقدمة تلك العبر أن على فصائل المقاومة أن تفكر مليّا بخطواتها، وأن تقارن بين الكلفة والمردود، وأن تحسب جيدا عملياتها، من جهة اختيار المكان والزمان وطبيعة الهدف وإمكانات الاستثمار ومدى قدرة الشعب على تحمل ردود الفعل، وبالتحديد مدى قدرة المقاومة على الاستمرار. لاسيما بالنظر إلى انحسار المقاومة المسلحة بكل أشكالها بعد هذه العملية، وأيضا بالنظر إلى أن حركة حماس بالذات ذهبت نحو التهدئة والهدنة بعدها

السابق
لبنان بين زمنين، بين ثورتين
التالي
عن حروب المقابر وعن الأسرى والمعتقلين أيضاً