القيادة الفلسطينية والتفكير باستحقاقات ما بعد أيلول

ليست هذه هي المرة الأولى التي تحاول فيها القيادة الفلسطينية، عبر حملها الملف الفلسطيني إلى الأمم المتحدة، الخروج عن النص، أو التمرد على مسارات العملية التفاوضية الجارية مع الإسرائيليين، بهدف تغيير معادلاتها.
فقبل عقد من الزمن، وبعد إخفاق مفاوضات كامب ديفيد2 (تموز2000) وجدت هذه القيادة نفسها في وضع حرج، ذلك أن عملية المفاوضات وصلت إلى طريق مسدود، وليس ثمة في المعطيات العربية والدولية ما يفيد بإمكان الضغط على إسرائيل. هكذا لم تجد القيادة الفلسطينية، في تلك الظروف، بداً من الذهاب نحو الانتفاضة، ونحو المقاومة المسلحة، لزيادة الضغط على إسرائيل، وإشعارها أن ثمة ثمناً للاحتلال، وأن زمن الاحتلال المريح انتهى.
لكن هذه التجربة لم تنجح بسبب تغيّر الظروف الموضوعية، إذ أطلقت الولايات المتحدة وحلفائها الحرب العالمية على الإرهاب (بعد العملية الإرهابية التي ضربت في نيويورك وواشنطن في ايلول العام 2001)، حيث قامت بعدها بغزو أفغانستان والعراق، وباتت تنظر إلى إعمال المقاومة (لا سيما العمليات التفجيرية) باعتبارها أعمالاً إرهابية. وبديهي أن ضعف العامل العربي، الذي بدا مهتماً بتلافي تداعيات الحرب على الإرهاب عليه، أثر سلباً على هذه المحاولة الفلسطينية وأضعفها. أيضاً، فقد أدت هذه الأوضاع إلى تزايد نفوذ اليمين المتطرف في إسرائيل، ما كانت نتيجته عودة حزب الليكود بقيادة اريئيل شارون للحكم، ومعاودته فرض سيطرته على المناطق التي تسيطر عليها السلطة.
لكن عدم نجاح استراتيجية التمرّد على مسارات التسوية (بإملاءاتها الإسرائيلية) يعود، إضافة إلى كل ما ذكرناه، إلى عدم وضوح الاستراتيجية السياسية والنضالية للانتفاضة، وشيوع التخبط في إدارتها، وظهورها وكأنها بمثابة حرب بين طرفين، غير متكافئين (مع العمليات التفجيرية)، ما مكّن إسرائيل من استنزافها وتقويض قواها. وكلنا نذكر أن القيادة الفلسطينية لم تتوقف لمراجعة مسار الانتفاضة، التي انفلتت من دون حساب، والتي طغى عليها البعد العسكري، على حساب بعدها الشعبي، مثلما لم تتوقف عند تأثيرات الحرب على الإرهاب، وبعده احتلال العراق، على مكانة القضية الفلسطينية، وعلى عملية التسوية، وبالأخص تأثيراتها على كيفية التعامل مع الحركة الوطنية الفلسطينية.
الآن، تحاول القيادة الفلسطينية تجريب إمكانية الخروج عن المسار التفاوضي، لكن بالطرق السياسية الديبلوماسية، في هذه المرة، ومن خلال التوجه إلى الأمم المتحدة لتحويل عضوية فلسطين في المنظمة الأممية من مكانة المراقب إلى مكانة العضو الدائم.
واضح أن القيادة الفلسطينية لم تذهب نحو هذا الخيار الصعب، وغير الواضح (حيث كانت الفكرة في السابق تتعلق بجلب اعتراف دول العالم بدولة فلسطين في الأراضي المحتلة عام 1967) إلا بعد أن ملّت ويئست من العملية التفاوضية، وبعد أن باتت غير قادرة على الاستمرار على المنوال ذاته، أولاً، لأنها تيقّنت أن هذه العملية تأكل من رصيدها، من دون مقابل. وثانياً، لأن إسرائيل لم تبد، طوال الـ18 عاماً الماضية، أي توضيحات في شأن نهاية هذه العملية، لا على الصعيد الزمني، ولا من ناحية مآلاتها السياسية.
الآن، إذا كانت هذه القيادة، في محاولاتها التحرّر من أسر القيود التفاوضية الإسرائيلية، لا تراهن كثيراً على نوايا الدول الكبرى، لا سيما بعد تجربتها مع إدارة أوباما، التي تراجعت عن طلبها تجميد كامل الأنشطة الاستيطانية، والتي تجهر برفضها توجه الفلسطينيين إلى الأمم المتحدة، فعلى ماذا تراهن إذن؟
من متابعة التحركات والخطابات الفلسطينية من الواضح أن القيادة المعنية ليس بحوزتها ما تراهن عليه، في حقيقة الأمر، وأن الحركة باتجاه الأمم المتحدة، على أهميتها (في أي وقت وفي أي ظرف) هي مجرد نوع من "فشّة الخلق"، ومحاولة في تقطيع الوقت، لا أكثر.
وفي الواقع ثمة اليوم في العالم فائض من مشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية وبيئية، وثمة في البلدان العربية (لا سيما في هذه الظروف) فائض من كل ذلك، لا سيما مع اندلاع الثورات الشعبية العربية، وتضعضع استقرار النظام السياسي العربي.
الأنكى من ذلك أن التوقيت الفلسطيني لهذه المحاولة ليس مثالياً البتة، فثمة انقسام سياسي مزمن، والسلطة لا تسيطر على إقليمها، أو على دولتها المفترضة، وليس ثمة إجماع بين الفلسطينيين على استراتيجية سياسية أو نضالية لمواجهة الواقع المزري الذي يعتريهم.
والمشكلة الأكبر هنا أن القيادة الفلسطينية لا تعمل على استثمار أزمة الولايات المتحدة في العراق، وفي أماكن أخرى في العالم، كما ولا استثمار التحولات في البيئة السياسية العربية، في محاولاتها لفرض معادلات جديدة، لصالحها، في مسارات عملية التسوية.
لذا فإن المطلوب، على ضوء كل ما ذكرناه، أن تحسم القيادة الفلسطينية أمرها، ليس نحو تحسين شروطها في إطار اتفاقيات أوسلو، فهذا لم يعد كافياً لوحده، وإنما بالتوجه نحو مراجعة كل المعادلات التي جرت بناء عليها عملية التسوية.
في هذا الإطار من المفيد أن تبدي القيادة الفلسطينية نوعاً من الحزم بوقف العملية التفاوضية، المذلة والمهينة والعبثية، وحمل الوضع برمته، مع الدول العربية، إلى مجلس الأمن الدولي، وإن تعذر الأمر فإلى الأمم المتحدة، لتحميل المجتمع الدولي مسؤولية التسوية، وإنفاذ القرارات ذات الصلة التي كان اتخذها في شأن قضية فلسطين. وثمة قرارات كثيرة ومهمة، مثل القرارين 181 (القاضي بتقسيم فلسطين وإقامة دولة للفلسطينيين) و194 القاضي بحق العودة للاجئين وإيجاد حل عادل لقضيتهم، وكذا قرارات مجلس الأمن الدولي، من القرار 242 القاضي بانسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها (1967)، إلى القرار 1397 (لعام 2002) القاضي بإقامة دولة فلسطينية، إلى القرار 1515 الذي أعاد النص على إقامة دولة فلسطينية وفق خطة "خريطة الطريق".
وفي هذا الإطار لا شك في أن القيادة الفلسطينية معنية بتنشيط حركتها السياسية لحشد الدعم العربي والتأييد الدولي لها، ولكنها، وهذا هو الأهم، معنية أكثر بترتيب البيت الفلسطيني، وضمن ذلك بذل المزيد من الجهود لإعادة اللحمة إلى ساحتها، أو على الأقل التوافق على الأشكال المناسبة لحسم الخلافات والانقسامات الداخلية، والتقرير في شأنها، في إطار يحفظ سلامة التعددية والعلاقات الديموقراطية، ويكفل توجيه الجهود لمواجهة السياسات الإسرائيلية.
لكن السير في هذا المسار يعني أن هذه القيادة يجب أن تذهب به إلى نهايته، إذا لم تستطع تحقيق النجاح فيه (بإقامة الدولة المرجوة)، وإلى درجة الذهاب نحو حل السلطة، أو إنهاء دورها الوظيفي التفاوضي والأمني، وتقويض المعادلات التي قامت عليها اتفاقات أوسلو من أساسها، وكشف إسرائيل على حقيقتها كدولة استعمارية عنصرية وأصولية.
على أي حال ليس للفلسطينيين ما يخسرونه في هذه المحاولات (إذا استثنينا فئات محدودة تعايشت مع امتيازات السلطة)، ذلك أن هكذا سلطة لم تنه الواقع الاستعماري والاستيطاني والعدواني في الأراضي المحتلة عام 1967، بل إنها طمست هذا الواقع، من دون أن تتمكن حتى من إنتاج كيانية سياسية للفلسطينيين، قادرة على التواصل والصمود والتطور.
ولنفكّر في الأمر قليلاً بتأنّ ذلك أن إسرائيل (وليس الفلسطينيين) هي التي ينبغي أن تخشى انسداد كل الخيارات التي تؤول إلى إقامة دولة مستقلة للفلسطينيين، وانفتاح مسار التحول نحو خيار الدولة الواحدة العلمانية الديموقراطية (ثنائية القومية أو دولة المواطنين)، وهي التي ينبغي أن تخشى من التحولات والتغيرات في البيئة السياسية العربية. المعنى أنه يجب التفكير باستحقاقات ما بعد استحقاق أيلول، أكثر بكثير من التفكير باستحقاقاته.

السابق
…الشهرة التي لا تصنع نجوماً
التالي
50 سنة على رحيله، همنغواي: الكتابة عزلتني