…الشهرة التي لا تصنع نجوماً

ما زالت فرقة أبو سليم الطبل ملازمتنا منذ خمسين عاما. لكل الذين قدّر لهم أن يعايشوها هذا القدر من السنوات، كانت الفرقة الكوميديّة الأولى في حياتهم. كانت أوّل التلفزيون أيضا حيث لم يبق منه في ذاكرة تلك الحقبة إلاها. بل إنّ واحدنا يستطيع أن يقول مَن كان أوّل ممثّليها ومن استجدّ عليهم ومن رحل منهم ولم يعد. كوستي مثلا، اليوناني اللبناني الذي كان أبو سليم يعرّب إسمه، أو يلبننه، أو يدخله في لهجته الشماليّة فيقول له "كوسى" لكن بجعل الألف المقصورة في آخر الإسم أقرب إلى ياء مخفّفة. كوستي رافق البداية، ونحن، بعد رحيله، كنّا نقول إنّه ذهب إلى بلده اليونان، وحين كبرنا صرنا نقول إنّه غادر مع اليونانيّين جميعا إذ لم يعد يظهر أثر لهم لا في التمثيليّات ولا في الأفلام اللبنانيّة والعربيّة. أمين غادر الفرقة سنوات وعاد إليها سنوات أخرى. شكري شكرالله لم يغب إلا قليلا، وحين عاد كان عليه أن يوسع بدلته المرقّعة بمزق أقمشة كثيرة إذ كان غيابه عن أصحابه في الفرقه قد أكسبه كيلوات أسْمنته. درباس جديد، أقصد إنّه جديد في هذا لزمن المتطاول حيث نظلّ نقول إنّه جديد على رغم انقضاء خمسة عشر عاما على وجوده في الفرقة. مشكاح هو أيضا جديد. فهمان جديد أيضا، على رغم أنّ هذه الجدّة ترقى إلى أكثر من أربعين عاما. ذاك أنّنا بدأنا معه شابا صغيرا، وهو قد أمعن بالشيب حتى أنّنا لم نعد نذكر كم عدد السنوات، أو العقود، التي فارقه فيها اسوداد شعره. وهو أضحكنا من أوّل ما ظهر، الضحكات نفسها التي نضحكها الآن، أو التي ضحكها جيلان أو أكثر جاءا من بعدنا. كلّ المقالب التي يقوم بها، للنيل من أبو سليم أو من أحد من أعضاء الفرقة، ترتدّ عليه فينهال عليه الجميع ضربا وركلا. ومقلبه ينكشف في كلّ مرّة، سهلا هيّن الإنكشاف كأنّه لم يعدّه إلا لكي يوقِع نفسه فيه.
في كبره ظلّت تُضحكنا مقالبه وإن مستعيرين لذلك ذاكرتنا الطفليّة الماضية. ذاك أنّ فهمان، وأيضا أبو سليم وأعضاء الفرقة الآخرين، لم يغيّروا ما بهم طيلة العقود الخمسة. قليلة، في تاريخ الفرق والكوميديّات، تلك التي عمّرت هذا القدر من السنين وهي مبقية كلّ شيء على حاله. حتى الممثّلات اللواتي كنّ يلتحقن بالفرقة بقين على هيئاتهنّ ذاتها على رغم تبديلهنّ من أجل أن يبقين في العمر المعقول للتمثيل بالتلفزيون. حتى البيوت، وما فيها من ديكورات، ظلّت هي ذاتها، لكأنّ التمثيل ما زال يجري في مواقعه القديمة إيّاها. ولم ينزل أحد من أعضاء الفرقة عن دوره. أبو سليم الطبل ظلّ هم أبو سليم الطبل، الآدمي الناصح، والساذج أيضا لكثرة ما تنطلي عليه المقالب التي لا تتبيّن له أنّها مقالب حتى ما قبل ختامها بقليل. أسعد ظلّ هو أسعد، في طيبته وأصالته، الأصالة التي لا تعني إلا صعوبة التكيّف مع أيّ عمليّة عقلية، وإن هيّنة سهلة الإستيعاب. أمّا أمين الذي غاب عن الفرقة ردحا متطاولا من السنين، فلم يستطع إلا أن يكون هو بعد أن عاد.
أوجدت الفرقة كاراكتيرات وأبقتهم كما هم. لم يتزحزح أحدهم قيد أنملة عن السمت الذي تأسّس عليه. ربما هم لا يتعرّفون على بعضهم البعض إلا وهم في أدوارهم هذه. حين يلتقي أبو سليم وفهمان لا يستطيع شكري شكرالله إلاّ أن يكون هو شكري شكرالله، بدوره ذاته، بجاكتته وبنطلونه إيّاهما، المخاطَين كأنمّا من أوراق مالية ملوّنة. كان هذا هو السبب على الأرجح في بقائهم معا، لا يشتركون في التمثيل مع فرق أخرى إلا في النادر القليل. كان عليهم أن ينفكّوا عن وحدتهم هذه حتى يصير واحدهم مقبولا في دور آخر. وقد فعل ذلك فهمان أكثر من سواه. فقد شاهدناه في أدوار سينمائيّة بدا في بعضها مثقلا بالمتاعب. لكنّ مَن كانوا يشاهدونه في الصالة كان عليهم أن يجروا عمليّة تبديل للشخصيّة لكي يُخرجوه من معرفتهم الثابتة به ويقبلونه في هذه التي يقترحها عليهم.
لقد تخلّدوا في أدوارهم هذه، أو أنّهم تصنّموا بها إلى حدّ أن ما يؤدّيه واحدهم صار وجوده الثاني، أو شخصيّته التمثيليّة. بل إنّنا لطالما تساءلنا، ونحن بعد صغار، إن كان أبو سليم، أو فهمان، يتكلّمان هكذا في الحقيقة كما يتكلّمان في التلفزيون. وإن ذهبنا إلى صغر لنا أسبق كنا نتساءل إن كانا يظلان أبوسليم وفهمان، أو يظلّون جميعهم، في أشكالهم ذاتها حين يخرجون من مبنى القنال 7 إلى الطريق. وعلى رغم احتفاظ كلّ منهم بدوره على مدى أجيال تتابعت لم يملّهّم جمهورهم المتجدّد.
وقد اختبر بعضنا ذلك التطابق بين الشخص والممثّل حين فتح كلّ منهما، أبو سليم وفهمان، محلّين متقاربين لعصير الفواكه في وقت ما من الثمانينات. ذلك لم يكن يليق بمن يظهرون كلّ أسبوع على شاشة التلفزيون. لكن، بالنسبة لهما، لم يكن في اليد حيلة. ليست الشهرة مجزية على الدوام. ثمّ أنّ جمهور فرقة أبو سليم هو ذاك الذي بلا قوّة، أولاد صغار على الأرجح، لا يقيمون سهرات ليليّة ليجزلوا العطاء لنجومهم. ثمّ أنّ من المرجّح أنّ هؤلاء الأولاد هم الأكثر فقرا حيث لدى أقرانهم تمثيليّات وبرامج أخرى غير متاحة لهم.
إنّها الشهرة التي لا تصنع نجوما. وهم اكتفوا بما تحقّق لهم من دون تذمّر ومن دون احتجاج بالقول إنّ أحدا لم يَفِهِم حقَّهم، هكذا على غرار ما يشكوا مَن أَعطوا كثيرا ولم يأخذوا إلاّ قليلا. كان فهمان مسرورا بالتكريم الذي حظي به مرّة. بدا رافعا كأس التكريم أو نيشانه وهو يقول ها إنّه تكرّم مرّة قبل موته. كأنّه كان عارفا بأن ذلك سيحصل له مرّة واحدة ولن يتكرّر في ما سيعقب من سنوات حياته، التي تبيّن أنّها قليلة على أيّ حال. أبو سليم قال إنّه كتب مذكّراته لكنه لا يملك مالا لطباعتها. كان الأسهل عليه أن يرويها، أو يروي بعضها، لمستمعي الراديو الذي استضافه منذ نحو سنتين. في هذه المحاورات بدت الفرقة في خضمّ الحركة الفنّية اللبنانيّة وليست، كما قد يخطر لنا، مجرّد مجموعة من محبّي التمثيل، أو الطامحين إلى التمثيل كان يستدعيها التلفزيون كلّما قلّ ما في وفاضه من البرامج التي تملأ الأوقات.
لا أعرف ماذا حلّ بأولئك القدامى الذين كانوا بين أعضاء الفرقة وغادروا. كان على أبو سليم أن يخبرنا أين صار كوستي وكيف هي أحواله طالما أّنّ مصيره ما زال معلّقا ومحيّرا في ذاكرتنا. نظنّ أنّه في اليونان، ما دام أنّنا ما زلنا مصدّقين إلى الآن أنّه يوناني لأنّ إسمه يوناني ويتكلمّ بلكنة اليونان. خمسون سنة تعاقبت فيها أجيال من الفنّانين على نحو ما تعاقبت أجيال من المشاهدين. موت فهمان يدفعنا إلى تذكّر طول الزمن، مع أنّه لم يعش عمرا كثيرا.

السابق
67 بندا على جدول اعمال الجلسة التشريعية لمجلس النواب
التالي
القيادة الفلسطينية والتفكير باستحقاقات ما بعد أيلول