بين الموالاة والمعارضة: نمطُ حكم مختلف

مذ نالت الحكومة الثقة بدأ يوم آخر. بعدما راهنت على عدم صمود الرئيس نجيب ميقاتي في التكليف، ثم على نزاعات حلفائه على التأليف، تخوض قوى 14 آذار رهان إسقاط حكومة الغالبية، من غير أن تملك أداة الإطاحة من داخل البرلمان، ومن غير أن تقرّر بعد استخدام الشارع

لم تنل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي الثقة الأعلى في مرحلة حكومات ما بعد خروج الجيش السوري من لبنان عام 2005. بل لعلّ الأصوات الـ68 حملت الثقة الأدنى. قبلها، بدءاً بالحكومة الأولى لميقاتي وصولاً إلى حكومة الرئيس سعد الحريري، مروراً بحكومتي الرئيس فؤاد السنيورة، كانت الثقة التي حازتها الحكومات المتعاقبة ثمرة توافق الكتل والقوى الرئيسية الممثلة في مجلس النواب، بما فيها الحكومة الأولى للسنيورة قبل انفراط عقد التحالف الرباعي بعد خمسة أشهر من تأليفها، وفي ما بعد استقالة الوزراء الشيعة عام 2006.

حازت الحكومة الأولى لميقاتي ثقة 109 نواب، والحكومة الأولى للسنيورة ثقة 92 نائباً، ثم حكومته الثانية ثقة 100 نائب، ثم حازت الحكومة الأولى للحريري ثقة 122 نائباً. ما خلا الحكومة الأولى لميقاتي التي وُلدت من توازن قوى مضطرب بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، انتهت الحكومات الثلاث التي تلتها، في ظلّ توافق القوى التي تألفت منها، إلى تعذّر ممارستها الحكم. كمنت التجربة الأسوأ في تعايش أكثرية وأقلية في حكومة الحريري بإسقاطها بالقوة، خلافاً لسابقاتها التي أوجبت استقالة رئيسها دوافع مختلفة، إما بعد انتخابات نيابية أو تنفيذاً لتسوية سياسية هي اتفاق الدوحة. لم يكن حجم الثقة الذي مثل قوة لحكومات السنيورة والحريري، ترجمة لتفاهم قوى 8 و14 آذار على ائتلاف وحدة وطنية، مؤشر نجاح تجربتي الحكم؛ إذ بالكاد أتيح للحريري، على مرّ 14 شهراً مكثها في رئاسة الحكومة، ممارسة السلطة تسعة أشهر.

لم تكن كذلك المرة الأولى التي يؤتى فيها بحكومة بأصوات الغالبية النيابية. خبرت عهود الرؤساء كميل شمعون وفؤاد شهاب وشارل حلو مراراً تجربة إيصال حكومة بالغالبية الموالية للرئيس، وفي ظلّ معارضة أقلية. كذلك على مرّ عهدي الرئيسين إلياس الهراوي وإميل لحود لأسباب اتصلت مباشرة بالنفوذ السوري في لبنان. وُلدت حكومات عهديهما من غالبية مرجّحة لدمشق، دانت لها بالولاء الكتل النيابية الكبيرة التي تزعّمها حينذاك الرئيسان نبيه برّي ورفيق الحريري ورئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط، وكذلك حزب الله الذي كان جزءاً لا يتجزأ من التحالف الموالي لسوريا، وإن ثابر على حجب الثقة عن الحكومات المتتالية، ورفض مراراً رغبة الحريري الأب في الانضمام إلى الائتلاف الحكومي، إلى أن كانت مشاركته الأولى إثر اغتيال الرئيس الراحل وخروج الجيش السوري من لبنان، في الحكومة الأولى لميقاتي.

في ظلّ أكثرية متضامنة تزعّمها هؤلاء، وتولت الحكم طوال عقد ونصف عقد من الزمن، لم تنجح تماماً تجربة الحكم الائتلافي بينهم. ظلّت سوريا مرجعية الاحتكام بين برّي والحريري، وبين الحريري والهراوي ولحود، فاقترن صمود حكومات تلك الحقبة ـــــ ونصفها ترأسها الحريري الأب ـــــ بإرادة دمشق في بقائها. بذلك كانت حكومات دمشق، إذاً، أكثر استقراراً من حكومات ما بعد خروجها من لبنان.

منذ عام 2005 تغيّر كل شيء في هذا البلد تقريباً إلا زعماء الائتلاف الحكومي. استمر برّي وجنبلاط وحزب الله، وخَلَفَ الحريري الابن أباه، ولم يدخل عليهم من خارج نادي حكم لبنان ما بعد اتفاق الطائف سوى الرئيس ميشال عون الذي أعاد، بالقوة، توزيع مواقع القوى والتوازن السياسي والشعبي في الداخل تبعاً لنتيجتين مباشرتين: أولاهما، تزعّمه منفرداً كتلة نيابية مسيحية هي الأكبر في الحياة البرلمانية اللبنانية لم يسبقه إليها، في ظلّ برلمان 99 نائباً حتى، الحلف الثلاثي. وثانيتهما تحالفه السياسي عام 2006 مع حزب الله فضاعف الانقسام الداخلي بين قوى 8 و14 آذار وأوجد لأول مرة توازناً بينهما، أجهز عليه جنبلاط عندما انتقل من موقع إلى نقيضه وأخلّ به.

هكذا، تختبر الحكومة الثانية لميقاتي نمطاً مختلفاً في ممارسة السلطة، وفي مراعاة توازن قوى يُرجّح الكفة لمصلحتها في البرلمان، ما دامت الأكثرية الحكومية منبثقة كلياً من الأكثرية النيابية. وفي الوقت نفسه، يربكها من الداخل بين أكثرية وأقلية كانت أولى إشارات هذا الارتباك تباين التصويت في مجلس الوزراء على البيان الوزاري للحكومة الجديدة.

رهان المعارضة

في صلب النمط المختلف في ممارسة الحكم وتلقف تداعياته الذي تواجهه حكومة ميقاتي، الدور الذي تعدّ قوى 14 آذار نفسها للاضطلاع به في مرحلة اختيار أحد حلّين:
ـــــ التخلّص سريعاً من حكومة ميقاتي، من دون أن تملك الغالبية النيابية المؤهلة لإطاحتها، ومن غير الإفصاح بعد عن رغبتها في اللجوء إلى الشارع.

ـــــ أو الانتظار، على مضض، لإجراء انتخابات 2013 التي تضعها عندئذ، ويكون قد انقضى على خروجها من السلطة، سنتان أمام امتحان مكلف.
بين صدور القرار الاتهامي في اغتيال الحريري الأب ونيلها الثقة، نجحت حكومة ميقاتي ـــــ بتعويلها على عامل الوقت في الأشهر المنصرمة ـــــ في تجاوز عقبتين كانتا رهانين بالغي الأهمية في خيارات قوى 14 آذار للحؤول دون تأليف حكومة الغالبية النيابية، وتتصرّف الآن بلامبالاة حيال الرهان الثالث:

1 ـــــ التداعيات الداخلية للقرار الاتهامي، على نحو يضاعف الضغوط على رئيس الحكومة ويحرجه حيال المجتمع الدولي. انتهى الأمر بالخلاصة الآتية: تأكيد الحكومة اللبنانية تعاونها مع الأمم المتحدة، وترك المحكمة الدولية تسلك آليتها بإجراء محاكمة غيابية للمتهمين الأربعة باغتيال الحريري، بعدما تعذّر تحديد أماكن وجودهم واعتقالهم. والواقع أن تواري هؤلاء سبق، بسنوات، مذكرات التوقيف التي أصدرها في حقهم المدعي العام في المحكمة، نظراً إلى كونهم ـــــ بسبب اتهامهم بالإرهاب قبل اغتيال الحريري ـــــ مطلوبين بصفة دائمة. يعيشون في الخفاء أولاً وأخيراً بعيداً من إسرائيل واستخبارات دول عربية وأوروبية معنية بتوقيفهم.

قاربت الغالبية القرار الاتهامي على نحو مشابه، ومقلوب في الوقت نفسه، لردّ فعل قوى 14 آذار، وهو استنفاد تداعياته الداخلية قبل إصداره، على مرّ شهور طويلة بما أفضى إلى تيقّن كل من الطرفين بأن القرار الاتهامي صدر كما كان يتوقعه. لم يفاجئ أحداً في الموالاة والمعارضة، ولا في شارعيهما خصوصاً.

2 ـــــ اعتقاد حكومة ميقاتي بتخطي تحفّظ المجتمع الدولي عنها. فلم يصدر، بعد نيلها الثقة كما في مرحلتي التكليف والتأليف، موقف غربي نعتها بحكومة حزب الله، أو حكومة أمينه العام السيّد حسن نصر الله برئاسة ميقاتي كما صوّرت المعارضة الأمر. لم يقل المجتمع الدولي إنه لا يريد التعاون معها، وإن سجّل ملاحظات مبكّرة لم تمسّ دستورية التكليف والتأليف وشرعيتهما، واقتصرت هذه على تشجيعها احترام القرارات الدولية، وهي العبارة التي كرّرتها وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون.
لم يؤخذ على حكومة ميقاتي تركيبتها، ولا سياستها التي تحدّث عنها مراراً رئيسها أمام زوّاره سفراء الدول الكبرى، وقرنها بطمأنات إلى علاقة لبنان بالمجتمع الدولي والتزامه تعهّداته الدولية. لم ينفِ ذلك موقفاً حكومياً موحّداً حيال سلاح حزب الله والعلاقة المميّزة مع سوريا، وأبرَزَ تصويت مجلس الوزراء على البيان الوزاري في موضوع المحكمة اختلافاً لافتاً بين أكثرية وأقلية من داخلها.

بل ينظر الموالون بكثير من الاهتمام إلى موقف بكركي من حكومة ميقاتي. رحب بها البطريرك مار بطرس بشارة الراعي، ثم حمل من الفاتيكان تهنئة البابا بنيديكتوس السادس عشر بتأليفها، ثم تمنى لها البطريرك على رأس مجلس الأساقفة الموارنة التوفيق. لم يُثر ما درج عليه غالباً سلفه البطريرك مار نصر الله بطرس صفير، عندما دعم باستمرار قوى 14 آذار في مواقفها السياسية، وأخذ بلا تردّد على حزب الله تلاعبه بالمعادلة الداخلية بالقوة وفرضه خيارات غير مألوفة للبنان. أشعر ذلك رئيس الحكومة، كما أشعر الموالين، بدور مختلف لبكركي في التعاطي مع توازن القوى الحالي، في ظنّهم أنه سيكون أكثر تعقيداً ودقة ـــــ وربما إحراجاً ـــــ في ظلّ صفير.

3 ـــــ فك الارتباط بين الاضطرابات في سوريا وتأليف الحكومة، على نحو كانت قوى 14 آذار قد أشعرت الفريق الآخر بأن سقوط نظام الرئيس بشّار الأسد يمهّد لسقوط غالبيته النيابية، وتبعاً لذلك حكومة ميقاتي. في المقابل، قارب الموالون هذا الموقف على نحو معاكس: منذ عام 2005، بعد خروج الجيش السوري من لبنان والضغوط التي طاولت الأسد ونظامه باتهامه باغتيال الحريري الأب تارة، وبتشديد الحصار الدولي عليه طوراً، حملت قوى 8 آذار سوريا أكثر ممّا حملتها هذه. حصل ذلك في ظلّ حرب تموز 2006 التي لم يسع سوريا سوى توفير دعم سياسي للحزب، وحصل في حقبة المواجهة مع الحكومة الأولى للسنيورة، وصولاً إلى تسوية الدوحة.

بل الواقع، يقول الموالون، إن أياً من برّي ونصر الله لا يسقط بسقوط الأسد. والأحرى أن لا يسقط عون كذلك بسقوطه، ولا النائب سليمان فرنجية، وأن بكون سقوط النظام ـــــ لا الرئيس فحسب ـــــ مدعاة خوف حقيقي لجنبلاط.

السابق
تموز: لو أن الخونة حسبوا لما غدروا..
التالي
النهار: باريس قلقة وقهوجي يزورها في 19 تموز …الحكومة تحرّك التعيينات والمعارضة تتحضّر