وهذا قسطنا من التشبيح

اعتادت ذاكرتي النسيان الإرادي. "أنسى كأني لم أكن"، وأتذكر ما أردت أن أكون. أنتقي ما يعجبني من حياتي، وأرمي بالباقي. أستمر بفعل الحياة بأقل ضرر ممكن. أخرج من منزلي في أحد مساءات نيسان الماضي متّجهاً إلى شارع الحمراء لأضيء شموعاً لشهداء سوريا برفقة بعض الناشطين. كان هذا تحرّكنا الأول، تبعته عدة تحركات خجولة.

وصلنا إلى الموقع الذي حدّدناه لإضاءة الشموع لنفاجأ بالمشهد: جيش ودرك وهتافات. عشرات من "الشبيحة" يتظاهرون ويهتفون. عسكري بيده كاميرا يصورنا. شاب يحمل صورة لبشار الأسد ينتصب بيننا. هتافات لسوريا الأسد. أصوات تعلو بالتهديد وتتهم بالخيانة. مجموعة من الشباب يعرضون عضلاتهم ويصوروننا. تتضح الصورة أكثر. أنا لست في بيروت وهم ليسوا غرباء، هم في بلدهم وأنا مندسّ ثقيل الظل!

وقفت تائهاً أسمع ما تعودت أذناي سماعه في أعوامي التي عشتها في سوريا: "بالروح بالدم نفديك يا بشار". أحسست بنوبة وجع في معدتي. ردّدت خلسة: "يا بشار ويا جزّار"، فأحسست كأني سأموت للتو. أكثر ما استطعت القيام به في ظلّ خوفي هو رفع الشمعة عالياً. لمعت في رأسي صورة السجن والضابط. لمعت صورة الأب القائد ببزته العسكرية تبحلق بي من عليائها. لمع الذلّ بين عيني وانطفأت الثورة في داخلي. أصبحت شهيداً مرمياً بين الأنقاض في حماه. أصبحت الموت المخيّم في شوارع درعا. صرت ولداً حلم بالحرية فأصبح قبراً. أصبحت خوفاً متأصلاً في داخلي وأصبت مجدداً بوجع شرس في معدتي. انتابني الخوف حين اختلطت عليّ الجغرافيا، إذ أصبحت دمشق بيروت وبيروت دمشق. تبادل بسيط للأدوار أصابني بالرعب. كأنني عندهم أضيء شمعة لـ"مندسيهم". كأنني، أنا الذي كنت قطةُ هناك، غدوت هنا رجلاً قوياً يضيء الشموع.

أنا الذي تتراكم في رأسي الصور والتماثيل التي عايشتها هناك، وحجم التأثير الهائل لحزب البعث في أصغر تفاصيل حياتي، وأنا الذي يلاحقني الدكتاتور ببزته العسكرية دوما أينما وجدت، انتقلت إليّ عدوى الخوف. واتضح لي أننا كلنا مصابون بهذا المرض، وليس فقط أمي وأبي وكل الجيل الذي عانى من المخابرات السورية على مدى ثلاثين عاماً، وأن صور الآلهة الخالدة وأبنائها لن تسقط بسهولة من وعينا.

ينتهي التحرك. ولا نكاد ننصرف حتى نراهم ينقضون على المكان الذي حشرونا فيه، ويبدأون دوس الشموع وإطلاق الشتائم وسط جو من الانتصار والتهليل.

يومها أحسست بالخزي، والكره لكل شيء، لمدينتي بيروت الصامتة على مصاب جارتها دمشق، لشارع الحمراء، ليسار يدّعي الثورية. كرهت بيروت وكرهت كل شيء فيها، فهمت يومها أننا أنانيون. فهمت أننا شعب قصير النظر لا يكترث لشيء غير التطبيل والتزمير. شعب يرى جارته الوحيدة تباد وتغتصب، فيدير وجهه ويواصل الابتسام.

السابق
الرياضة في مواجهة المخدّرات
التالي
صور تعطي المواطنية الفخرية للإيطاليين الجرحى