عن الفتنة والطائفية.. ومعارك القدّيسين الخاسرة

يمكن لـ«البوستر» مجابهة الشعار المكتوب على عجل، بخط معوَج، على جدار مواجه. «البوستر» خلاصة تخطيط وزبدة يُنتظر أن تذوب في الرأس وتنساب في أفكاره. الشعار المكتوب على عجل غير ذلك، إنه تعبير عن قلّة حيلة، خصوصا في الوضع السوري، بعكس «البوستر» الذي له منصّات محجوزة. قلة حيلة تقنية، وقلة حيلة عملية: لا خوف على جدار من الرصاص، بل الخوف على الإنسان يحمل شعاره.

في الأزمات المغلقة، تلفت العفوية الانتباه وتشغله، أكثر مما تفعل صور الخطط الإعلانية ومن خلفها. التفكير في تفوّق مفعول الشعار العفوي على «البوستر»، لا يفيد سوى تغذية الالتباس. «البوستر» يحدقّ إلى الشعار، ماذا يقول له؟ بينهما علاقة قوة، لكن في اتجاه واحد. «البوستر» يحذر من الفتنة، لكن أي فتنة؟ إذا لم توجد الأخيرة، أو تُلمح، فلا داعي لـ«البوستر». وكيف للفتنة أن تعلن عن نفسها صراحة، وعلانية، وتخرج بفجاجة إلى المجال العام؟ في سوريا هذه معضلة حقيقية. لا معنى لـ«بوستر» نبذ الفتنة ما لم توجد. ربما، ينظر «البوستر» إلى شعار يغذي الفتنة، ويقول له: شكرا لك، لولاك لصرت بلا معنى. «البوستر» وشعار الجدار، وجها لوجه. مرتاحان لهذه الحال؟ العكس ليس صحيحا، لا يفيد «البوستر» شعار الجدار. إنه يقول عن الفتنة، فيما الآخر يحاربها. لكن الاثنين لم «يوجدا» بمشيئة الطبيعة، هناك فاعل. فاعل «البوستر» يعلن عن نفسه، لكن يبقى فاعل شعار الجدار في المجهول.

رغم الالتباس، لا بد لمن يرى أن يتساءل: لماذا تبقى بعض شعارات الفتنة تعيش على الجدران؟ إذا كان مالكو الفضاء العام يريدون محاربة الفتنة، فليس صعبا، على الأقل، حمل سطل دهان على هامش الحملة الإعلانية. شعارات الفتنة هل هي فعل متطرفين، أم خليط من تطرف وتواطؤ، أم فعل يغذّي شعار «البوستر»؟ مضطرين أن نفكر في كل ذلك، وهذا بغض النظر عما يقوله تلفزيون رسمي، أثبت، عبر واقعتي قرية «البيضا» والشاهد المصري، أنه يجب غض النظر عن رواياته، طالما نفتقد القدرة على ملاحقتها والتثبّت من مصداقيتها. ليسوا قديسين يخسر من يدافع عن القداسة. عندما يكون أصحاب القداسة أمواتا، فالدفاع عن قداستهم مسألة مضنية، فكيف إذا كانوا أحياء. كيف، إذا أريد للقداسة أن تعيش في أجساد ونفوس بشرية. الدفاع عن القداسة مسألة تؤرق وتستنزف من يمضي بها. تصرف واحد، سلوك واحد، واقعة واحدة، وثيقة واحدة، خطأ واحد… وتسقط القداسة. تسقط ككذبة كبيرة ومدوية. يسقط حاملها إلى أسفل. لا يعود إنسانا أخطأ، بل قديسا سقط.

يمكن التسامح مع إنسان يخطئ، هذه طبيعة العيش، لكن كيف التسامح مع خطأ القديسين. لن يمكن القول إنهم كانوا قديسين ولم يعودوا، خصوصا بعد إعلان قداستهم، والدفاع المستشرس عنها. هنالك من اختار ذلك، ويستمر، وستبقى هذه مشكلته يدحرجها أمامه. لكن، من يذهب للدفاع عن الاحتجاجات السورية، وكأنها جسد واحد، يذهب إلى منزلق لا رجوع عنه، ويفعل كمن يدافع عن قداسة الأحياء. سيكون، لا محال، أمام السقوط: وجها لوجه.

المحتجون السوريون بشرٌ، كثيرون ومختلفون. يجتمعون على نبل التحرك، وقد يختلفون في السلوك. لا يجازى التحرك بكليته على سلوك شخص، أو حالات محصورة ربما حادت بها طبيعتها عن طبيعة الاحتجاج: ما الذي يمنع مجرما من المناداة بالحرية والكرامة؟ ما الذي يمنع متطرفا؟ ثم، ما الذي يمنعهما أن يتصرفا كمجرم أو كمتطرف؟ كل هذا محتمل. لا شيء يمنعه، ولا يمكن للمحتجين إلا محاولة حصار سلوكه، وقد يكون ذلك بدوره عبثا. هنا دور الدولة، وهنا ملعب مؤسسات الأمن إذا كانت تريد أن تلعب وظيفتها. يستنزف التحرك الاحتجاجي من يجنّده كي يدافع عن حالات قد تكون أخطأت والقانون يحاكم.
الاحتجاج السلمي مسؤوليته الاحتجاج والسلمية، وإذا أخطأ أفراد فليست مسؤولية الجمع. لسنا أمام كتائب جيش ليطبق مبدأ: المكافأة فردية والعقوبة جماعية. القــانون يحاكم المواطن المــخطئ، مدنـيا كان أم عسكريا أم أمنيا. الاحتجاج ليس جسدا نورانيا لقديس يـمارس العيش، ومن يدافع عن ذلك فلن يجد عملا آخر. لكــن يبـقى أن ذلك شيء، والطلب أن يكون الاحتجاج نبيلا شيء آخر. طلب النبل جوهري وأساسي، وأخلاقي، لكن طلب القداسة من البشر، موضوعيا، هو أمر غير أخلاقي. كن طائفيا لتلعن الفتنة! غريب بالفعل هذا الخطاب المسعور الذي يجابه الاحتجاجات السورية. يتصدى لها. يخوف البعض ويخوّن الآخر. لم يعد من مجال للحديث عن الزهور. لا ياسمين ولا رومانسية ثورة المصريين. أول ما جرى في سوريا كان أسر أي احتمال لفكرة جميلة. أسرٌ لأي وجه قد يعيق فعالية اتهامات الاندساس والعصابات والفتنة. منع أي مراسلين، واعتقال الصورة الأخرى، كان إعداما استباقيا. لا اعتصامات، ولا شباب ينظفون الشوارع، ولا ورود للجيش. لا أحد ينام آمنا في حمى جنازير الدبابات. لا مجال لأدنى حلم، ويجب أن نعيش كابوسا.

مع رعب مصنّع كهذا، لم يعد غريبا أن نسمع نداءات نبذ فتنة غرائبية. أن يصير رفض الطائفية لا معنى له، ما لم يعلن صاحبه انتماءه لطائفة. أن يطلب بعض الخائفين، ولو عن حق وفق افتراضاتهم، وبحسن نية، ممن لم يعرف طائفة يوما أن ينتمي لطائفة، ويتحدث من موقعها، كي يؤكد أنها ليست طائفية! أن يصير الحديث من خارج الطوائف لا معنى له ولا وزن. مع ظرف نفسي كهذا، ستكون نكتة للتندّر أن يلعن ملحدٌ ما الطائفية، أو أن يكذّب فتنتها. تراجيديا لا أرض يمكن أن تنمو فيها سوى أرض الكابوس.

في هذا الجو المسعور، وأمام مدافع الشتائم والتخوين، يتوجب على من يريد الفهم أن يسجن نفسه في عقله. ليس من حاجة إلى أدلة أخرى على الكابوس وصناعه. ليراقب، من يريد الخروج من عقله، دموع الأمهات تتقدم قوافل عائلات هاربة من جحيم القتل. الدموع اليائسة أمام أجساد انطفأت إلى الأبد. زرع القلوب بالحسرة على مدنيين وعسكريين. دموع تحكي كلّ شيء. الكابوس ماكينة هائلة لإنتاج خيالات الرعب. الكابوس، أيضا، يريدنا أن ننسى ما نراه، أو نتذكره فقط لنخاف من احتمالات الترويع التي ينتجها. ليتوقف القتل، ليتوقف الكابوس أولا.

السابق
أنا GTG لأنني BBB لكن BBS ..ISA
التالي
شمعون: سيختلفون على نوع التكنوقراط