الشعوب تكتب تاريخها

المشهد باهر وغير مسبوق: ها هي الشعوب العربية تباشر مسؤوليتها في كتابة التاريخ.
من أدنى المشرق الى أقصى المغرب تهب هذه الشعوب التي غيبها القهر لدهور طويلة عن مسؤولية صنع القرار في كل ما يتصل بحقها في أوطانها، لتؤكد حضورها البهي بالاحتشاد في «الميدان»: نحن هنا، ولنا الكلمة!
«الميدان» مركز القرار، الآن، لا سرايات الحكام الذين قفزوا الى سدة السلطة بالانقلاب او بالمصادفة القدرية، ومن فوق رأس الشعب وبغير إرادته، فتفردوا وطغوا وبغوا بغير خوف من المساءلة او المحاسبة… ولا «عواصم القرار» في البعيد، وواشنطن على وجه التحديد، التي كانت تمارس النفاق السياسي مفضوحاً: تستقبل «الحكام» وتحتفي بهم «كأصدقاء كبار» وتمدهم بالنصائح والخبرات الأمنية ونتف من المساعدات، بينما مؤسساتها السياسية (الكونغرس والخارجية) تكرز توصياتها وتوجيهاتها حول ضرورة احترام حقوق الإنسان، أما اذا اتصل الأمر بأهل النظام في الأقطار النفطية فإن واشنطن تلبس ثياب الحرير وتتدخل لحمايتهم، فإن عجزت نزلت الى «الميدان» وريثاً مباشراً للطغيان، وبذريعة حماية الاستقرار.
«الميدان» في كل مدينة من حواضر الوطن العربي، وليس في العواصم فحسب، هو مصدر القرار، تشبهاً بمصر واقتداءً بتجربتها التي استندت الى الرائدة السابقة في تونس وأضافت اليها برصيد «المركز» وثقله المعنوي والمادي والخبرات المتراكمة في مجال النضال الديموقراطي من اجل «دولة الشعب».
لقد وجدت الجماهير ارض التلاقي، فكراً وعملاً، في «الميدان» فجاءت اليه من الجهات الأربع، منهية زمن التناثر والتباعد ومتخلصة من شعورها بالعجز عن الفعل. كذلك وجدت في شعارها البسيط ما يجمعها ويوحدها عبر الموقف من «النظام»، لا فرق بين ان يكون جمهورياً او ملكياً او فريداً في بابه كما في إمبراطورية «الأخ القائد» في ليبيا: الشعب يريد إسقاط النظام!
بديهي القول ان الذين تلاقوا في «الميدان» ليسوا أعضاء منظمين في حزب له برنامجه السياسي والاقتصادي والثقافي، وبالتالي فليسوا موحدين في رؤيتهم للبديل. لقد جاءوا من منابت فكرية مختلفة، ومن توجهات سياسية متباينة، بعضهم يتحدر من تنظيمات يسارية، وبعضهم الآخر من تنظيمات ترفع لافتة الإسلام بتنوعها وتمايزاتها، وبعض ثالث «وطني تقليدي» قد يمكن تصنيفه في خانة «البورجوازية الوطنية» وقد يستعصي على التصنيف الكلاسيكي لكنه يريد ان يشعر انه «مواطن» وأنه بالتالي صاحب قرار في طبيعة النظام الذي سوف يحكمه.
بديهي بالتالي ان يحتدم النقاش بين المتلاقين في «الميدان» وبين الآخرين خارجه، وأن تتعدد الآراء حول المرحلة الانتقالية ومقتضياتها، بدءاً بالدستور وصولاً الى مؤسسات الحكم، خصوصاً أن «النظام القديم» ما زال قائماً بعد إسقاط رأسه (حيث أسقط) بينما هو يترنح في أقطار أخرى، أما «مشروع الدولة الجديدة» فلم يستقر على صورة نهائية بعد.
بديهي، بالمقابل أن يباشر أهل النظام العربي، او من تبقى منهم، هجومهم المضاد، خصوصاً أن إزاحة «الرأس» لا تعني ان «الدولة» بمؤسساتها المختلفة وأجهزتها المتعددة، ولا سيما الأمنية، قد صارت «دولة الشعب» وأن القرار قد بات – كليا – في أيدي «شباب الميدان».
فأهل النظام القديم ليسوا أيتاما: إنهم أطراف في شبكة مصالح لها امتداداتها الدولية، ولهم «شركاء» مؤثرون في عواصم القرار، غرباً وشرقاً، وإن ظلت واشنطن المركز وعواصم القرار لديها اساطيل في الجو والبحر ليس في تقاليدها ان تحترم إرادة الشعوب، بل لعلها ما وجدت الا لقهر هذه الإرادة اذا تطلبت المصالح ذلك.
ثم إن لأهل النظام القديم «جماهيرهم» من المنتفعين بحكمهم والسماسرة والمرتزقة والخبراء الذين أرشدوهم الى الشبكات العالمية للاستثمار «ونصحوهم» ثم تولوا بالنيابة عنهم شراء العقارات في العواصم والمواقع ذات الربحية العالية، ثم أتوا إليهم بالشركات ذات السمعة الدولية المتخصصة في إظهار محاسن النظام وطمس وجوه تخلفه.
تبدأ العملية التجميلية بتسويق صورة جديدة للحاكم وأفراد أسرته، بحيث يبدون عصريين ومتمدنين، جالسين الى أجهزة الكمبيوتر او يرعون ندوات علمية ويوزعون جوائز على المبدعين، وتنتهي وهم يستضيفون مفكرين وكتاباً كباراً من مختلف أنحاء العالم حول الأفكار الجديدة ومستقبل الإنسانية في عصر التواصل المفتوح بين أطراف القرية الكونية.
ومع تفجر الثورة وتقدمها نحو الانتصار تتبدى الخلافات بين أطراف مشاركين فيها او مؤيدين لها: فمن يُردها جذرية هدفها استئصال النظام القديم ويرفض المساومات، يفترق عمن كان طموحه يقف عند استبدال الرأس بآخر و«كفى الله المؤمنين القتال». ومن يُرد القطيعة مع عواصم القرار، وواشنطن أساسا، يفترق عمن يريد إعادة صياغة العلاقات بما يحفظ مع الكرامة المصالح. ومن يستعجل تحديد موقف قاطع من إسرائيل عائداً الى مناصرة شعب فلسطين وقضيتها العادلة يفترق عمن يفضل شراء الهدوء وعدم إثارة المشكلات مع «العدو» القوي، لان ذلك سيأخذ الى الصدام مع الإدارة الاميركية وربما الغرب كله، قبل ان تكون «الدولة الجديدة» مستعدة له وقادرة عليه. وليس على المكابر الا ان يلتفت ليرى الطائرات الحربية الهائلة القدرات والبوارج والغواصات وهي تقذف حممها على من فكر، مجرد تفكير، بالتمرد مستنداً الى قوة نار هائلة.. الا في باب المقارنة مع الكبار الذين لا يقبلون شريكاً.
وقد يحدث نوع من التلاقي في المصالح بين مجموعات من أهل النظام القديم وبين بعض الذين كانوا في صفــوف الثورة ثم خــرجوا منها وعليها لأسباب عدة، بعضها «شخصي» كتعذر وصـولهم الى مركز القرار او كاعتراضهم على تطرف رفاق الاعتصام في الميدان بينما هم «معتدلون» لا يريدون الاندفاع في مغامرة غير مأمونة العواقب… فضلاً عن احتمال تفجر الخلافات العقائدية بين الذين جمعهم «الميدان» في لحظة الفعل في حين أنهم متباينون في مواقفهم الى حد التصادم. اذ ليس «للميدان» وبرغم سحره الطاغي، القدرة على تذويب العقائد وطمس الخلافات الفكرية.
فالميدان بذاته ساحة للتلاقي، لكن الاعتصام فيه ليس بذاته برنامج عمل ومن الصعب ان تنتج الأيام المعدودة فيه خطة مشتركة لدولة المستقبل.
بل من البديهي ان يقتحمه او يندس فيه بعض أهل النظام القديم او المنتفعين منه، في حين يبقى البعض الآخر في الخارج، ويتوزع هؤلاء جميعاً الأدوار: بعضهم يزايد او يناقص لإحداث شرخ واسع في صفوف اهل الميدان، وبعض آخر يخرج الى الشارع مقاتلاً بالعصابات التي كان يستخدمها بالأجر لقمع الحركة الشعبية والتزوير او للاحتشاد في مهرجانات التأييد وتظاهرات الترحيب بالضيوف الكبار من الحماة الخارجين.
والثورة المضادة مشروع استثمار للخارج، وهكذا يهب الخارج لاستنقاذ مصالحه. لا يتورع الخارج عن الدوس على جثة النظام القديم. يبادر، بداية، الى الوساطة حتى يمنع جموح الثورة الى حدها الأقصى. يظهر شيئاً من التعاطف. يلوم النظام القديم. يؤكد انه نصحه فلم يستمع، وأنه حاول معه فلم يرتدع. يبلغ الثوار انه معهم في محاولة لاحتواء غضبتهم. يبدأ المساومة بالتخلي عن «الرأس» لإنقاذ النظام بذاته، فإذا صمد أهل الميدان تراجع أمامهم أكثر فأكثر حتى اذا ما حالوا تجاوز مصالحه الاستراتيجية، أي ارتباط دولتهم الجديدة به والتزامها بالصلح مع إسرائيل، اتخذت لهجة «الخارج» طابع التحذير، فإذا أكدوا مواقفهم صار التحذير إنذارا بالهجوم مستفيداً من أن أهل الميدان قد يكونون متعبين، وقد لا يجتمعون على موقف واحد من «مطالب الحد الأقصى» هذه.
وها هو درس الثورة البلا رأس والبلا برنامج في ليبيا ينذر بنتائج مأساوية ليس على تلك الدولة التي ألغاها حاكمها فحسب، بل على مجمل الانتفاضات العربية، التي تكاد تشعر الآن ان فوقها سقفاً قد لا تستطيع اختراقه.
في حسابات الخارج طبعاً ان كل المتضررين من التغيير سيكونون جاهزين للانضمام الى صفوف الثورة المضادة، بعضهم بغير وعي، وبعضهم نتيجة الشعور بالتعب او الخوف من التغيير، وبعضهم لارتباطه بالخارج الذي طالما حماه في الماضي والذي يفترض انه قادر على حمايته الآن، لأسباب تتصل بوحدة المصالح.
وفي دروس التاريخ ان الثورة المضــادة لا تتــورع عن استخـدام الأسلحة القذرة وهي اشد فتكاً من الأسلحة الكيماوية. تشعل الثورة المضادة نيران الانقسام. تحرك الفتنة النائمة حيث تتعدد الأديان والطوائف. تحرض الأقلية على الأكثرية بتمييز ذاتها بمطالب فئوية تضرب صورة الإجماع المعقود على الثورة. في أقطار أخرى تلجأ الى تحريض الطوائف او المذاهب بعضها ضد البعض الآخر. المهم ان يحصل الانقسام فتتسع المساحة للتدخل بحيث يصبح ممكناً ضرب الثورة من الداخل.

لثورة التغيير زمنها الصعب.
فالثورة ان تحقق أحلامك بإرادتك.
هل أبهى من هذا الإنجاز الإنساني مطلباً!؟

السابق
“غلبة السلاح” ضد البحرين
التالي
كيف ستتعامل أميركا مع سقوط إمبراطوريتها الشرق أوسطية؟