«خريف» الجنرال.. «جهنم» الوطن!

ياسين شبلي
في 31 تشرين أول تنتهي ولاية ميشال عون الرئاسية، هذه الولاية التي يُنهي بها حياته السياسية - أقله بسبب السن - ، والتي كانت أقرب إلى "خريف الجنرال" الذي قاد مسيرة عسكرية وسياسية حافلة بالأحداث، كما أودت بلبنان بإعترافه هو إلى "جهنم" بالمعنى السياسي، وإلى ما هو أشبه بالخريف حيث تساقطت فيه أوراق هذا البلد كدولة طبيعية، ليتحول إلى دولة فاشلة بكل ما للكلمة من معنى.

 تأتي نهاية ولاية ميشال عون وهو الرئيس الثالث عشر للبنان، الذي أنتخب عام 2016 بعد 45 جلسة إنتخاب، وحوالي 30 شهراً من الفراغ في رئاسة الجمهورية بسبب تعطيل الجلسات من قِبَل تياره وحلفاءه، تأتي والبلد في حال يرثى لها بعكس ما كان قد وعد اللبنانيين، به منذ تولية المسؤولية الرسمية على مدى حوالي 40 عام، من قائد للجيش وصولاً لمنصب رئيس الجمهورية مروراً بمنصب رئاسة الحكومة والنيابة في البرلمان، بحيث كان يحمل راية الحرية والسيادة والإستقلال بداية ، قبل أن يعود من المنفى فينقلب عليها بعد تفاهماته مع “أعدائه” السابقين، ليحمل بعدها راية الإصلاح والتغيير بيد، وشاهراً سيفه ضد خصومه السياسيين “الفاسدين” باليد الأخرى معلناً عليهم الحرب و “الإبراء المستحيل” تلك الراية التي أثبتت الأيام والسنين، أنها ما كانت سوى ستاراً يخفي وراءه شبق شخصي وشهوة للسلطة، لا تخبو مع السنين ولا مع تطور الأحداث، فكان أن تعامل معها بمنطق ماكيافيلي الغاية تبرر الوسيلة، فأسقط الإبراء المستحيل وعقد التفاهمات التي أوصلته إليها، بعد أن كان يجتهد ويعمل ليُثبِت للرأي العام بأنه رجل المبادئ والقيم، وأن لا غاية له إلا حرية وسيادة لبنان التي خاض بإسمها “حرب التحرير” ضد القوات السورية في 14 آذار 1989.

كان يحمل راية الحرية والسيادة والإستقلال بداية قبل أن يعود من المنفى فينقلب عليها بعد تفاهماته مع “أعدائه” السابقين

وكذلك هيبة الدولة ووحدة مؤسساتها التي خاض تحت لوائها “حرب الإلغاء” مع القوات اللبنانية بداية عام 1990، وعارض لأجلها وبسببها على حد زعمه إتفاق الطائف، وتمرد على الشرعية المنبثقة عنه، وهو ما أدى في النهاية إلى دخول القوات السورية قصر بعبدا في 13 تشرين أول عام 1990، بعد تغير الظروف الإقليمية التي لعب على تناقضاتها، فكان الثمن غالياً دفعه لبنان من حريته وسيادته وإستقلاله، ومن دماء ومعنويات أفراد وضباط الجيش اللبناني، الذي تعرض لمجزرة نتيجة ” إنتقاله ” يومها دون تنسيق وهو القائد منفرداً إلى السفارة الفرنسية، حيث سقط أكثر من 700  قتيل وحوالي 2000 جريح ومئات من الأسرى والمفقودين، الذين لا يزال بعضهم في الأسر حتى اليوم بالرغم من “تصالحه” مع النظام السوري.  

كان قائداً لسلاح المدفعية الثانية ومقرباً من الجبهة اللبنانية المسيحية اليمينية التي كانت بدورها مقربة من إسرائيل بحيث شارك كما يقال تخطيطاً وتنفيذاً في حصار وإقتحام مخيم تل الزعتر

بدأ ميشال عون حياته متطوعاً تلميذ ضابط في الجيش اللبناني عام 1955، وتخرج برتبة ملازم عام 1958، مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية كان قائداً لسلاح المدفعية الثانية، ومقرباً من الجبهة اللبنانية المسيحية اليمينية التي كانت بدورها مقربة من إسرائيل، بحيث شارك كما يقال تخطيطاً وتنفيذاً في حصار وإقتحام مخيم تل الزعتر، حيث أرتكبت مجزرة من أبشع مجازر الحرب الأهلية، وهو ما جعله على ما يبدو من المقربين بعدها من بشير الجميل، حيث حظي بعلاقة قوية معه وصلت حد أنه كان من العسكريين الذين ضمهم فريق عمله، الذي كان يسعى لتهيئة الظروف له ليكون رئيساً للجمهورية، وكان إسمه الحركي “جبرايل” على ما ذكر الصحافي الفرنسي آلان مينارغ في كتابه الشهير “أسرار حرب لبنان” . 

أعلن في 18 شباط من العام 1994 عن إنشاء التيار الوطني الحر برئاسته في باريس وبدأ بعدها بالتحرك السياسي على الساحة الأميركية مع تقلب الأوضاع الإقليمية حيث ألقى كلمة وكانت له شهادة في الكونغرس الأميركي ساهمت في إصدار قانون محاسبة سوريا الذي أسس للقرار 1559

بعد إغتيال بشير الجميل وإنتخاب شقيقه أمين رئيساً للجمهورية، تسلم ميشال عون قيادة اللواء الثامن عام 1983، وهو العام الذي شهد بداية حرب الجبل، فكان أن شارك بمعركة سوق الغرب وهي من أشرس معارك الجبل ، وهو ما قاده إلى قيادة الجيش خلفاً لإبراهيم طنوس في 23 حزيران عام 1984، وذلك بعد مؤتمري جنيف ولوزان للحوار اللذين أديا لإلغاء إتفاق 17 أيار مع إسرائيل، الأمر الذي أوصله مع تطور الأحداث والخلاف الماروني – الماروني على شخصية الرئيس الجديد عام 1988، الذي كان له يد في إذكائه، إلى ترؤس حكومة عسكرية عيَّنها أمين الجميل وتولت مهام رئيس الجمهورية في 23 أيلول من نفس العام، لينقسم البلد بين حكومتين الأولى مدنية برئاسة سليم الحص موالية لسوريا، والأخرى عسكرية برئاسة ميشال عون، ما لبث أن إنسحب منها الضباط المسلمون لتتحول إلى حكومة ثلاثية مسيحية صرف، وهو ما أدى بعدها إلى كل التطورات والحروب التي خاضها ميشال عون من حرب التحرير مع سوريا، وصولاً إلى خروجه من قصر بعبدا في 13 تشرين من العام 1990، مروراً بحرب الإلغاء كما ذكرنا،  مدفوعاً بشهوة السلطة التي إنتهت به يومها لاجئاً في السفارة الفرنسية لمدة 11 شهر تقريباً ليغادرها في 30 آب 1991، ويصبح منفياً في فرنسا على مدى 14 عاماً، أعلن خلالها في 18 شباط من العام 1994 عن إنشاء التيار الوطني الحر برئاسته في باريس، وبدأ بعدها بالتحرك السياسي على الساحة الأميركية مع تقلب الأوضاع الإقليمية، حيث ألقى كلمة وكانت له شهادة في الكونغرس الأميركي ساهمت في إصدار قانون محاسبة سوريا، الذي أسس للقرار 1559 الداعي لإنسحاب كل القوات الأجنبية من لبنان.

عاد من منفاه الباريسي في السابع من أيار عام 2005 ، حيث كانت الترتيبات قائمة على قدم وساق لإنجاز الإنتخابات النيابية، التي لم يستسغ إجراءها على أساس قانون 2000 المسمى بقانون غازي كنعان، بذريعة أنه يهمش التمثيل المسيحي ويضعه في مواقع كثيرة تحت رحمة الأكثرية المسلمة

 كان إغتيال الرئيس رفيق الحريري في لبنان على خلفية خلافه مع النظام الأمني اللبناني – السوري، الذي كان يتهمه بأنه هو من كان وراء إصدار والمطالبة بتطبيق القرار 1559، كان هذا الإغتيال زلزالاً حقيقياً ضرب لبنان الذي لا يزال حتى اليوم يعيش إرتداداته، بحيث إنقلبت الأمور رأساً على عقب، فأختلفت المقاييس وتغيرت التحالفات وإنقسم البلد إلى معسكرين إثنين، معسكر شكراً سوريا الذي تحول بعدها إلى فريق 8 آذار، ومعسكر الولاء للبنان والوفاء لرفيق الحريري الذي تحول هو الآخر إلى فريق 14 آذار ، وكان من المنطقي والطبيعي – أو هكذا خيِّل للكثيرين يومها – أن يكون ميشال عون وأنصاره في صف قوى الفريق الثاني، الذي يحمل تقريباً كل ما كان ميشال عون يطرحه من مواقف،  وخاض الحروب المتتالية من أجله خاصة حرب التحرير ضد النظام السوري التي كان بدأها في 14 آذار العام 1989، أي قبل ستة عشر عاماً بالتمام والكمال من يوم 14 آذار يوم ثورة الأرز – يا للمفارقة – فكان أن عاد من منفاه الباريسي في السابع من أيار عام 2005 ، حيث كانت الترتيبات قائمة على قدم وساق لإنجاز الإنتخابات النيابية، التي لم يستسغ إجراءها على أساس قانون 2000 المسمى بقانون غازي كنعان، بذريعة أنه يهمش التمثيل المسيحي ويضعه في مواقع كثيرة تحت رحمة الأكثرية المسلمة، فوقع الخلاف مع فريق 14 آذار الذي  ذهب هو الآخر إلى خيار الإتفاق الرباعي مع قطبي فريق 8 آذار حركة أمل وحزب الله. 

عودته إلى لبنان إنما كانت بصفقة عقدها في باريس مع النظام الأمني اللبناني – السوري

هذا الإتفاق الذي أعطى عون ذريعة التحالف مع بقية أطراف هذا الفريق من السوريين القوميين والأحزاب الأرمنية،  وشخصيات مثل ميشال المر وسليمان فرنجية وغيرهم ليشكل ” تسونامي ” إنتخابي مسيحي، ويحصد وحده حوالي 20 مقعداً كانت كافية ل “تطويبه” بطريركاً سياسياً للمسيحيين والموارنة منهم بشكل خاص، قبل أن يتبين بأن عودته إلى لبنان إنما كانت بصفقة عقدها في باريس مع النظام الأمني اللبناني – السوري، فكان كحصان طروادة داخل الصف السيادي الذي كان يتعرض في تلك المرحلة إلى حملة تصفية جسدية لقياداته السياسية والإعلامية والفكرية. 

كان إنتصار ميشال عون في الإنتخابات النيابية في تلك المرحلة والتي كانت بمثابة “ربيع الجنرال” السياسي ، كان هذا الإنتصار بمثابة بطاقة عبور له إلى المشهد السياسي اللبناني، ما أهَّله للعمل على صياغة تفاهم سياسي مع حزب الله

كان إنتصار ميشال عون في الإنتخابات النيابية في تلك المرحلة والتي كانت بمثابة “ربيع الجنرال” السياسي ، كان هذا الإنتصار بمثابة بطاقة عبور له إلى المشهد السياسي اللبناني، ما أهَّله للعمل على صياغة تفاهم سياسي مع أقوى مكون على الأرض، ألا وهو حزب الله الذي بات يمثل بعد الخروج السوري، رأس حربة محور الممانعة والمقاومة في لبنان ، والذي كان بأمس الحاجة لطرف مسيحي يؤمن له غطاء سياسي ومعنوي، فكان تفاهم مار مخايل في 6 شباط 2006،  لينطلق بعدها التيار الوطني الحر في الحياة السياسية بقوة، مدعوما بحليفه القوي داخلياً وإقليمياً خاصة بعد حرب 2006 مع إسرائيل، التي كانت بمثابة إختبار أول لمدى متانة التفاهم بين الجانبين، والذي نجح فيه ميشال عون بجدارة بوقوفه بقوة إلى جانب الحزب وتبني خطابه السياسي.وهو ما إنسحب على التطورات بعد الحرب، على خلفية إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، والتي تمثلت بالإعتصام الشهير لقوى 8 آذار والتيار الوطني الحر ضد حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، الذي إنتهى كما هو معروف بأحداث السابع من أيار 2008، أي في الذكرى الثالثة لعودة ميشال عون إلى لبنان من منفاه – مرة أخرى يا للمفارقة وسخرية القدر – ، وما تلاها من تطورات بدءاً بإتفاق الدوحة ومخرجاته، التي جرَّت الويلات على لبنان فيما بعد بسبب “تشريع” سياسة التعطيل التي كان “متعهدها” الأول التيار الوطني الحر، برئاسة النائب ميشال عون، مدعوماً وربما مدفوعاً من حليفه الدائم حزب الله، الذي كان ولا يزال يمارس السياسة على وقع الأحداث والتطورات في المنطقة، بغض النظر عن المصلحة اللبنانية التي يراها الحزب جزءاً لا يتجزأ من مصلحة المحور الذي ينتمي إليه. 

تساقطت فيه أوراقه واحدة تلو الأخرى من ورقة السيادة إلى ورقة الحرية فورقة الإستقلال يليها ورقة الإصلاح فالتغيير

أدت سياسة التعطيل المستمرة، والكيد السياسي، والمناكفات الدائمة حول الحصص الوزارية والحقائب منذ العام 2009، إلى شلل في مؤسسات الدولة على إختلافها ، كما أدت سياسة المحاصصة إلى ضرب بنيان الإدارة اللبنانية التي كانت في الأصل تعاني من الترهل، ما أدى إلى تفشي الفساد بصورة غير مسبوقة مع تراجع في الإنتاجية عاما بعد عام، وهو ما أدى إلى إرتفاع قيمة الدين العام وفوائده وزيادة التضخم، كل هذا في ظل شعارات الإصلاح والتغيير، التي إتخذها النائب الجنرال ميشال عون عنواناً لكتلته النيابية، حتى بات تشكيل حكومة جديدة يعتبر من المعجزات، التي لا تتحقق بأقل من 9 أشهر، ناهيك عن إستحقاق إنتخاب رئيس للجمهورية، الذي باتت “طقوسه” وعاداته السابقة التي كانت تلتزم المهل الدستورية في أوانها، باتت موضة قديمة منذ أن تسلم “الجنرال” ميشال عون رئاسة الحكومة العسكرية وحتى اليوم، حيث حل يومها في قصر بعبدا ك ” اللعنة “، فبات الوضع بعدها إما إنتخاب عن طريق ” التهريب والتهجير “،  كما كان حال الراحلين رينيه معوض وإلياس الهراوي، وإما ” تنصيب ” عسكري كما في حالتي إميل لحود وميشال سليمان، وإما تمديد كما كان الحال مع الهراوي ولحود، وإما فراغ بقوة التعطيل والفرض كما كان حاله في الطبعة الثانية عام 2016، التي نعيش آخر أيامها حيث إختبرنا “جهنم”، التي كان لا بد من الوصول إليها بسبب هذه السياسات المتبعة، التي لا تنتج إلا الخراب، والتي حولت “ربيع الجنرال” إلى خريف،  تساقطت فيه أوراقه واحدة تلو الأخرى، من ورقة السيادة إلى ورقة الحرية، فورقة الإستقلال يليها ورقة الإصلاح فالتغيير.

إنها نهاية حلم في نظر البعض الذي راهن في يوم من الأيام على ربيع وطن، قد يأتي به “جنرال” قد يكون رأى فيه يوماً شارل ديغول

فورقة لبنان القوي الذي هو بإعتراف الجميع اليوم وأولهم أبناءه، بأنه بلد ضعيف ودولة فاشلة وسلطة ساقطة، ومن لا يزال يكابر نحيله إلى الطوابير الممتدة، من محطات الوقود إلى الأفران، مرورا بالبنوك والصيدليات .إنها نهاية حلم في نظر البعض ، الذي راهن في يوم من الأيام على ربيع وطن، قد يأتي به “جنرال” قد يكون رأى فيه يوماً شارل ديغول، فأستفاق بعد حوالي ثلث قرن على حقيقة صادمة تتمثل ب “خريف” وطن قاده إليه “خريف جنرال” إسمه ميشال عون.      

إقرأ أيضاً : بعد فتاوى «التحريم» الانتخابي.. شبلي يردّ على السيد فضل الله

   

السابق
بعدسة «جنوبية»: بري من على «منبر الصدر».. رسائل «حمّالة أوجه» الى «الواهمين» و«المغامرين»
التالي
ارتفاع بسعر الدولار.. كم بلغ؟