المجرمون

ربما كانت جريمة مرفأ بيروت التي وقعت في 4 أغسطس 2020 من أوضح جرائم العصر لجهة هوية منفذيها، وجلاء التفاصيل والوقائع المرتبطة بها.

لا قطبة مخفية في هذه الجريمة، وفي حوزة أي لبناني عادي كمية هائلة من الحقائق المثبتة حول مسار شحنة الأمونيوم، من المصنع في جورجيا وصولاً إلى مرفأ بيروت. وأيضاً عن السنوات السبع التي أمضتها الشحنة في العنبر رقم 12 في المرفأ.

المعطيات متوفرة ليس فقط للمحققين، إنما أيضاً للمواطن العادي، ومعظمها صار بمتناولنا لأن صحفيون استقصائيون وثقوها وتولوا كشفها وطرحوها أمام الرأي العام، والأمر لم يعد يتطلب أكثر من قاضٍ يتولى صياغة قصة الانفجار من ألفها إلى يائها عبر قرار اتهامي يحدد المسؤوليات ويطلب العقوبات!

اقرا ايضا: «التحقيقات في جريمة المرفأ انتهت».. شندب لـ«جنوبية»: النيابة العامة تحمي مُشتبهاً به!

إذاً المهمة هي منع القاضي من القيام بهذه المهمة. أمين عام حزب الله، السيد حسن نصرالله، أعطى إشارة الانطلاق الأولى. وجه إصبعه نحو وجه القاضي طارق البيطار وقال إن التحقيق مسيس!

وبعد ذلك انطلقت الطبقة السياسية مجتمعة في حملة رهيبة ضد القاضي. مجلس النواب رفض رفع الحصانات، وتحولت قاعات المجلس إلى منبر لدرء التهم عن المسؤولين، ووزير الداخلية لم يعط إذناً بملاحقة المسؤولين الأمنيين، وتوج ذلك كله ببيان لمجلس نقابة الصحافة، وهو حصن صون العدالة وحماية الحريات، يشكك فيه بنوايا قاضي التحقيق!

قصة القرار الاتهامي العتيد ستكون بسيطة وواضحة. النظام هو من ارتكب الجريمة. لا يحتاج الأمر إلى أكثر من التدقيق في الوقائع المتاحة والموثقة. ومثلما تبدو الجريمة معلنة وغير معقدة، تبدو الحملة على القاضي واضحة وجلية. حزب الله على رأس النظام المرتكب، لكن أركان النظام هم مجمل الطبقة السياسية الفاسدة والفاشلة والمرتكبة.

نحن أمام مسرحٍ للجريمة يؤدي فيه الجميع أدواراً واضحة ومكشوفة وغير مواربة. ونحن، إذ لا نشكل أكثر من جمهور لعمل مسرحي مبتذل، لا يصيبنا وضوحه بالذهول، ذاك أننا رافقنا كاتب السيناريو خطوة خطوة خلال عمله غير المضني لتظهير العرض المبتذل.

لكن هل تستقيم سلطة في ظل هذه الجريمة المعلنة؟ لا بل أن السؤال يجب أن يذهب خطوة أبعد: هل تستقيم مافيا في ظل انكشافها إلى هذا الحد؟ فالمافيا تستعين على جريمتها بالكتمان، وتواري وجوه الفاعلين وأسمائهم وعناوينهم! السلطة في لبنان لا تشعر بالحاجة إلى تورية الجريمة. تستعين بالطوائف والمذاهب وبنقابة الصحافة لتحصين الجريمة ودرء القضاة عن مسرحها.

نعم، من يحمي المرتكب هو طائفته ومذهبه. علينا أن نصارح أنفسنا بهذه الحقيقة مرة أخرى. فلندقق بما جرى في أعقاب إرسال القاضي بيطار طلبات رفع الحصانة عن النواب والأمنيين. الطائفة الشيعية رفعت صور مدير عام الأمن العام عباس إبراهيم، ونقابة الصحافة (الطائفة السنية) أصدرت بياناً تشكك فيه بالقاضي بيطار، ولن يطول الأمر بالمسيحيين قبل أن يعلنوا حصانة مدير عام أمن الدولة طوني صليبا!

لكن في مقابل هذا المشهد القاتم كان مشهد الرابع من أغسطس 2021، أي ذكرى مرور سنة على الجريمة، معيقاً للمهمة التي حددها نصرالله للطبقة السياسية.

ثمة شعور لدى أهل بيروت باستحالة التعايش مع جريمة بهذا الحجم. جريمة مقيمة في حناجر من بقي على قيد الحياة من أهل المدينة، لا سيما وأن الجريمة معلنة ولا يمكن مواراة وجوه مرتكبيها بالأسماء والوقائع وحجم المسؤوليات، فنحن حيال مدينة جرى تدمير ثلثها وقتل 217 شخصاً من أهلها وجرح نحو 7 آلاف وتهجير مئات الآلاف من منازلهم.

كارثة كونية يشعر مرتكبها أن بإمكانه النجاة بفعلته، رغم أن الجميع يعرفه، ولم يبق إلا الفصل الأخير من الحكاية، والمتمثل بقاضٍ نزيه يكتب القصة من العناصر المتاحة له ولكل اللبنانيين!

وعلى وقع إحياء اللبنانيين بالأمس الذكرى الأولى للكارثة، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ينظم مؤتمراً لدعم لبنان. الرجل الذي خذلته المافيا حين قدم إليها في أعقاب الجريمة بأيام، وواجهنا في حينها بأنه علينا أن نتعايش مع هؤلاء المجرمين بوصفهم ممثلينا، اكتشف كم أن طلبه هراءً، وأنه هو نفسه لن يقدم المساعدات للبنان عبرهم، ذاك أنهم من المحتمل جداً أن يوظفوا المساعدات لاستيراد المزيد من نترات الأمونيوم، طالما أن النظام في سوريا يحتاجها في حربه على السوريين.

ماكرون سيرسل المساعدات لجمعيات الإغاثة، ولن تمر عبر أجهزة دولة المافيا التي فجرت المدينة. وبعد ذلك ستصدر لائحة عقوبات بحق مسؤولين لبنانيين لا تملك طوائفهم القدرة على حمايتهم من فرنسا. إلا أن ذلك لم يعد مهماً لهم، ذاك أن حساسيتهم حيال صورة المافياوي التي “طوبهم” العالم بها، لم تعد مهمة بالنسبة إليهم.  

السابق
ميقاتي لعون: «إذا بدَّك المالية» أطلبها من الحزب.. وهذا ما طلبه بري!
التالي
تستهدف 250 الف عائلة.. هؤلاء هم المُستَثنون من البطاقة التمويلية