هل رفض الحرب جريمة؟

حرب تموز

لطالما ارتبطت الحروب بتاريخ البشرية، وقد تم احصاء الالاف منها التي دخلت صفحات التاريخ، محددةً مصائر الكثير من الحضارات والاقوام. فالحرب سمة من سمات الوجود البشري، منذ البدايات الى يومنا هذا. الكثير من المنظرين فسّروا العلاقات الدولية، من خلال دراسة الحروب ونتائجها، باعتبارها تلتصق مباشرة بمفهوم القوة بحسب النظرية الواقعية. وبما ان للحروب الكثير من الويلات والمآسي، كما ولها نتائج كارثية مباشرة وغير مباشرة، قد لا تحتفي مع الزمن، بل تبقى مستمرة بتأثيراتها بحيث تنتقل من جيل الى جيل ومن حقبة الى حقبة، فقد تصدى لها الكثير من الفلاسفة والمفكرين، رافضين حتميتها كوسيلة وحيدة، لحماية الحقوق وتحقيق المكتسبات، مؤكدين في الوقت نفسه ان منع النزاعات والحروب، هدف انساني لا مفر منه، ولتحقيق السلم والامن الدوليين أُنشأت المؤسسات الدولية، ومن ابرزها منظمة الامم المتحدة التي جاء في ديباجة ميثاقها: ” نحن شعوب الامم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الاجيال المقبلة من ويلات الحرب ،ومن خلال جيل واحد جلبت على الانسانية مرتين احزانا يعجز عنها الوصف”.

تبقى مستمرة بتأثيراتها بحيث تنتقل من جيل الى جيل ومن حقبة الى حقبة، فقد تصدى لها الكثير من الفلاسفة والمفكرين


تاريخيا، يعود الفضل في تاسيس “الصليب الاحمر” الى هنري دونان، الذي شهد ويلات الحروب بأم عينه، ومتلمسا معاناة المدنيين والجنود الجرحى، فقدم المساعدة لهم في معركة ” سولفرينو”، وبناء عليه فقد ناشد قادة الدول المتحاربة، بضرورة حماية الابرياء وضحايا الحرب في كل الظروف والاوقات، ومن وقتها بدأت توضع الاتفاقيات والبروتوكولات، التي شكلت مضمون القانون الدولي الانساني او “قانون الحرب” او “النزاعات المسلحة”، بهدف حماية المدنيين في اثناء النزاع المسلحة، او الاشخاص الذي كفوا عن حمل السلاح لأي سبب كان، كالاصابة والجروح والمرض والاسر، فضلا عن المدنيين من النساء والشيوخ والاطفال وغيرهم. وقد اطلق الفقيه القانوني ماكس هيبر، تسمية قانون الدولي الانساني، بدلا من قانون الحرب او النزاعات المسلحة، وذلك لما للكلمات من تأثير في النفوس والعقول.

اطلق الفقيه القانوني ماكس هيبر، تسمية قانون الدولي الانساني، بدلا من قانون الحرب او النزاعات المسلحة

واذا كانت الحروب وسيلة الدول، التي تمتلك ترسانة عسكرية ضخمة وجيوش جرارة، فإن من مصلحة الدول الصغيرة التمسك بالقانون الدولي، حتى وان كان قليل الفعالية ومساره طويلا وشاقا، ولكي لا يصبح هذا العالم كالغاب، الذي تسوده شريعة ان القوي يقهر دوما فيه الضعيف. هذا الكلام ليس بالضرورة دعوة للاستسلام، او دعوة للتنازل عن حق الدفاع عن النفس بجميع الوسائل، بما فيها مقاومة الاحتلال، بل تأكيد على ان هناك وسائل اخرى، يمكن ان تحمي او تعيد الحقوق، كالتمسك بالقرارت الدولية، او الاستعانة بالدبلوماسية والتفاوض المباشر وغير المباشر، اي اختيار الوسيلة من ضمن الامكانيات المتاحة، وقبل كل ذلك التمسك بالدولة موؤسساتها.
وبما أن لبنان دولة صغير ومحدودة القدرات الاقتصادية والعسكرية، يصبح من المنطقي الحديث عن رفض زج هذا البلد الصغير، بحروب ونزاعات رغما عن مؤسساته الدستورية، وتجاوزا لمصالح شعبه. هنا إن مأساتنا كلبنانيين تتشعب وتنقسم لعدة اعتبارات، يعود اغلبها لتجاربنا في تحويل لبنان، ساحة لصراعات الاخرين من دون ان نتمكن من قول ما يفترض أن يقال، رفضا لهذا الواقع المؤلم.
فكل من مارس نوعا من سيطرة وهيمنة على وطننا، فرض علينا حججه ومقولاته التبريرية، باعتبارنا عاجزين عن فهم السياسات الدولية، وقاصرين عن تحديد مصالحنا، فكان يتم حنق النقاش السياسي، بحيث يصبح مجرد التلميح لرفض ما هو قائم ومفروض، بمثابة خيانة او جريمة يهدر معها دم المعارض، الذي يرفض زج هذا البلد بحروب لا طائل منها، ولا فائدة لشعبه من خلالها.
فمنذ الانتداب الفرنسي، مرورا بالحقبة الناصرية، وصولا الى الاحتلال الاسرائيلي للبنان، وحتى الوصايتين السورية والايرانية، يُفرض علينا مصير جاهز غير قابل للنقاش او الاعتراض، فباسمنا وباسم مصالحنا يدخلوننا في معارك ونزاعات، تدمر البلد وتكبّدنا الخسائر الجمة، وبعدها يتم اعلان النصر، دون أن يحق لنا ان نسأل ونُحاسِب، باعتبار ان المحاسبة عندنا فعل خيانة ونقص في الوطنية، بينما نجد هؤلاء الذين يستكثرون علينا مجرد التساؤل، نجدهم يستبشرون خيرا بمحاسبة العدو من قبل شعبه، ويهللون لمجرد المطالبة باسقاط حكوماتهم، باعتبارها فشلت في تحقيق ما هو مطلوب منها. هناك محاسبة المسؤولين دليل على النصر، وهنا حق التعبير محرّم ومجرّم وفعل خيانة!
من نافل القول، إن جميع الشعوب ملزمة بالوقوف خلف حكوماتها، في لحظات الشدة والازمات، خصوصا الخارجية منها، إنما من ضمن شروط وممارسات دستورية، تخضع لرقابة الجهات المعبرة عن ارادة الشعب. فالحرب والسلم يجب أن يعلنا من خلال الاطر الدستورية، فتحديد المصالح فعل سياسي وطني بامتياز، ولا يمكن لجهة سياسية او لطائفة، ان تنفرد بتحديد المصالح الوطنية، وبعدها تستحيل المحاسبة والمسائلة.
إن تحديد ادارة المصالح وحمايتها، يعتبر السبب الرئيس لوجود الحكومات، فهي مسؤولة عن ذلك نجاحا او فشلا، وفي بلد مثل لبنان، المتنوع طائفيا وسياسيا، الذي يعطي دستوره الحكومة صلاحية الاعلان الحرب والسلم، يصبح الالتزام بهذا المعطى السياسي والدستوري غاية المصالح، واكثرها الحاحا تحصينا للوحدة الوطنية واحتراما للديمقراطية اللبنانية.
راهنا تشهد الجبهة الجنوبية حربا، اعطيت صفة المشاغلة العسكرية دعما لغزة، توجه اسرائيل من خلالها ضربات مدمرة، مستهدفة البشر والحجر، انما بوتيرة يعتبرها الفريق الذي ادخل البلد في أتون هذه الحرب، من دون ان يحسب نتائجها، أنها ضمن حدود قواعد الاشتباك المقبولة، ليتحول الجنوب مع هذا المنطق ساحة صراع اقليمي، مقبول أن يُدمر وان يُهجر شعبه، طالما أن اسرائيل لا توسع نطاق قصفها واستهدافها، ليتبين مع مرور الوقت أن اسرائيل حولت القرى الجنوبية الى اهداف سهلة، من دون ان تلتزم بتلك القواعد، الذي الزم “حزب الله” نفسه بها، بخلاف العدو الذي يعتبر أن الجغرافية اللبنانية متاحة امامه، لتسقط معه مقولة الردع المتبادلة.
نحن في خضم حرب استنزاف مؤلمة، ندفع بسببها الاثمان الغالية بشريا واقتصاديا، انما في ظل حرص الفريق الموالي لإيران، أن لا يورطها في هذه المواجهة، وهذا بحد ذاته أمر مؤلم اكثر من الحرب نفسها!

السابق
تداعيات ضخمة للعدوان الاسرائيلي.. نفوق آلاف المواشي بسبب الفوسفور الأبيض والقصف المركز!
التالي
بعدسة جنوبية: نقمة الامطار في لبنان.. زحمة سير خانقة!