وجيه قانصو يكتب ل«جنوبية»: «حزب الله» ومعضلة الشجاعة المؤجلة

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

ثمة مساران متناقضان في أداء “حزب الله” السياسي والاستراتيجي. أولهما مسار توحيد الساحات، ولو بالحد الأدنى مع قوى الممانعة الإقليمية، وربط مصير الجبهة الجنوبية بمصير حرب غزة، التي باتت مجهولة الأمد، بعد فشل كل مقترحات الحل السياسي، وترك الكلمة النهائية للقوة العسكرية، في استجلاء مصير غزة وتحديد الترتيبات الجديدة السياسية فيها. ثانيهما مسار الترتيب السياسي الداخلي في لبنان، حيث يعمد “حزب الله” إلى إبقاء لبنان في حالة شلل وتشظ داخليين، عبر الحؤول دون انتخاب رئيس الجمهورية، وتشكيل حكومة شرعية وتفعيل دور مجلس النواب.

إشغال جبهة خارجية يحتاج إلى أكبر قدر من التماسك الداخلي، إلى قرار دولة قوية في إدارة الأزمات


هما مساران متناقضان، لأن إشغال جبهة خارجية، يحتاج إلى أكبر قدر من التماسك الداخلي، إلى قرار دولة قوية في إدارة الأزمات، إلى حوار بناء وشراكة، مع المكونات اللبنانية المتنوعة، في توفير شروط الحد الأدنى من وحدة الموقف، لتأمين مقومات الصمود والمواجهة. في حين تجد “حزب الله” يفصل بين الامرين، ليراهن على جبهة خارجية، ويعلن توحيد الساحات معها، رغم هشاشتها الواضحة، وتباين برامجها وأجنداتها، واختلاف ساحاتها وتحدياتها. ويترك بالمقابل الساحة اللبنانية، في حالة تفكك وانهيار على مستوى الدولة، ولا مبالاة تجاه مواقف المكونات اللبنانية الأخرى، مجتمعية وسياسية.
هنا المفارقة الغريبة بين رهانين، أولهما خاسر وثانيهما رابح. أما الخاسر، فهو الرهان على تحالفات خارجية، يدفع “حزب الله” مقابلها أثمانا كبيرة، من دون فوائد تذكر. بل نجد أنها تهدد مكتسباته، التي جناها من تحرير الجنوب، ومن ترسيخ وضعية حدود آمنة بعد حرب 2006، بضمانة القرار الدولي 1701، إضافة أن هكذا رهانات تضع الطائفة الشيعية، في وضع حرج معقد سياسيا واقتصاديا، لجهة علاقتها بالمجال العربي، وتسيير مصالحها في العالم. أما الرابح الذي يهمله “حزب الله”، بل يتعمد تعطيله وإبقاءه في حالة شلل، فهو رهان الدولة القوية ووحدة الصف الداخلي، الذي يضمن للحزب شرعية اعتراف دولي، وغطاء مجتمعي أوسع لنشاطه، وكسر لحالة العزلة التي فرضها على نفسه في الداخل، وتوفير شروط النمو والنهضة الاقتصاديين في الداخل، التي ستخفف عنه أعباء هائلة، وترفع الحرج والضيق عن الطائفة الشيعية، في توسيع مدى مصالحها ومبادراتها في العالم.

الخاسر فهو الرهان على تحالفات خارجية يدفع “حزب الله” مقابلها أثمانا كبيرة


الأرجح أن “حزب الله” يدرك حقيقة كلا الرهانين. لكن الذهاب بالرهان الرابح والمثمر والبعيد المدى، الذي هو رهان الدولة، يتطلب شجاعة من الحزب نفسه. هي شجاعة ليست من نوع البطولة في مواجهة العدو، أو القدرة على الثبات مهما كانت التحديات، بل شجاعة الذات مع نفسها، بأن تحدث في داخلها القابلية والجهوزية الذاتية، للتعامل مع كل مرحلة، وفق ما تقتضيه طبيعتها وشروطها الموضوعية. فرهان الدولة وتفعيل الحياة السياسية، وترسيخ التكامل الاجتماعي، يتطلب لا انفتاحاً داخليا على التواصل والحوار فحسب، بل أيضاً تغييراً جذرياً في الذهنية ومنطق الولاءات، ومفهوم المشروعية السياسية. أي الجرأة على تجاوز الذات نفسها، والعبور إلى أفق تفكير، ومنطق خطاب وأساس تضامن أوسع وأكثر شمولا، وأشد وطأة من أفق المواجهة المفتوحة مع العدو الخارجي.
فالبناء الداخلي، هو دائما مواجهة الذات لنفسها، لأنها لا تخوض حرب كسر إرادات بل تحدي توحيد الصفوف، لا معركة غلبة، بل إيجاد أرضية جامعة مع الغير، لا لعبة المساجلة، بل جدارة التواصل والحوار والإنصات، لا القدرة المادية على الهيمنة، بل كفاءة الإقناع، وجاذبية القبول الطوعي، والإعتراف الاختياري به، لا عقدة إثبات الذات أمام الآخر، بل امتحان العيش معه، ومشاركته تحديات الحياة والوجود، ما يجعل الذات في كل هذه الاختبارات، تكابد أنانيتها وتقهر عدوانيتها، وتقاوم نرجسيتها، وتقمع شهوة السلطة والاستحواذ فيها.

هذا معناه أنه يكابد الزمن المتغير ويتعالى على تحولات التاريخ


حين يتجاهل “حزب الله” كل هذا، ويستمر في البقاء على رهانات، انتهت صلاحيتها وفقدت فاعليتها، وينشىء جبهات خارجية غير ذات جدوى، فإن هذا معناه أنه يكابد الزمن المتغير، ويتعالى على تحولات التاريخ، ويلوذ بطمأنينة ذاتية وملحمية دينية، تعوض عزلته عن الواقع، والأهم من ذلك، هو حرمان الذات لنفسها، من العبور إلى أفق وجود أكثر رحابة وأشد كثافة. إنها معضلة الشجاعة المؤجلة.

السابق
شعبة المعلومات توقف عصابة سرقة دراجات آليّة
التالي
بالصور.. إنقاذ 20 سوريًّا اثناء محاولة تهريبهم بطريقة غير شرعية