وجيه قانصو يكتب ل«جنوبية»: رسائل البطريرك الماروني.. تحذيرات كيانية 

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

لا تندرج تصريحات البطريرك الماروني بشارة الراعي، ضد الجبهة الجنوبية التي أطلقها “حزب الله”، في خانة الانتقاد أو تسجيل موقف أو إبداء رأي، ليتصدى له الطرف الآخر بالرد على مستويات عدة: أدناها الرد الناعم الذي يقوم على دفع الحجة بالحجة المضادة، والموقف بالموقف المعاكس، وأوسطها المزايدة والإهانات، وأعلاها التخوين والاتهام بالعمالة.

كلام الراعي ليس موقفاً شخصياً قيل في عظة دينية بل هو إعلان البطريركية المارونية ذات الرمزية التاريخية العميق

كلام الراعي ليس موقفاً شخصياً قيل في عظة دينية، بل هو إعلان البطريركية المارونية ذات الرمزية التاريخية العميقة، التي لا تقتصر رعويتها على الوظيفة الروحية والطقسية، بل تشمل مرجعيتها الحاضنة للطائفة المارونية بكل ميولها السياسية وتنوعاتها الفكرية، ومُعبِّر بنحو غير مباشر عن المكونات المسيحية الأخرى، التي تشترك معها قلق الوجود المسيحي ومخاطره في الشرق. 

إضافة إلى ذلك، فإن البطريركية المارونية هي من المرجعيات الأساسية، المؤسسة للكيان اللبناني نفسه. الذي اتخذ في طابعه الجغرافي وتكوينه الإثني والديني، خصوصية مقصودة ومدروسة، يتميز بها عن محيطه، لا بالإنفصال عنه، بل بأن يكون للبنان سياقه السياسي والثقافي والإجتماعي الخاص به. هو ينتمي لهذا المحيط ويتبنى قضاياه الإنسانية وتطلعاته القومية، ومع ذلك، يحتفظ لنفسه بمسافة من مشاريعه الإندماجية والوحدوية والاحتوائية والأيديولوجية. ينفتح على الغرب ويُقبل إليه بحماس ويتأثر بأنماط عيشه ومسلكه، ومع ذلك يحتفظ بعمقه الشرقي الضارب في حكايات التاريخ الأولى. 

هو توازن فرض على الصياغات الدستورية والميثاقية أن تتخذ طابعاً تسووياً

لذلك كانت صيغة لبنان تقوم على التوازن الدقيق والحساس بين: غرب وشرق، دين وعلمانية، إسلام ومسيحية، عروبة وعولمة، حرية وتقاليد ضاربة في الجذور، فردانية وروابط عائلية صلبة، ديمقراطية وزعامات تقليدية هنية. هو توازن فرض على الصياغات الدستورية والميثاقية أن تتخذ طابعاً تسووياً، بابتكار نقطة توازن جامعة للعناصر المتعارضة والمتباينة. وجعل صناعة القرار والسياسات، عملية صعبة وحرجة ودقيقة، كونها محكومة، لا لما تقتضيه مصلحة الدولة وأصول الإدارة العامة ومباديء الحوكمة الرشيدة فحسب، بل لما يحفظ ويصون نقطة التوازن الدقيقة، التي قامت عليها الفكرة اللبنانية، ومبادىء العيش المشترك ونمط الحياة اللبنانية.

هي وضعية منعت لبنان من الانزلاق إلى أية مظاهر استبداد، أو سلطة شمولية، أو أيديولوجية مهيمنة، أو حزب حاكم. ما جعل من لبنان ملاذا آمناً لمضطهدي الرأي والفكر من الخارج، ووفر للبنان، بصغر مساحته وقلة عدد سكانه، قدرة تطور ونهضة سريعتين، وفاعلية داخل مجال العربي، وقابلية انفتاح ومواكبة مريحة لما يحصل في العالم. وفي الوقت نفسه، ظل لبنان شديد الحساسية، إزاء أي مس أو إزاحة للتوازنات الدقيقة التي قامت عليها فكرة الكيان اللبناني بصيغته المعاصرة . هذه الصيغة لم تكن مجرد استمرارية طبيعية لوجود تاريخي قديم وعريق، بل هي أيضاً ثمرة عقد اجتماعي معاصر، أي فعل توافق حر وواع، لنمط وجود وعيش مكوناته، تعطي للبنان المعاصر حقيقته وفكرته ومحددات هويته الفريدة. وهو ما جعل المس بالتوازنات الرافعة لمعنى لبنان ولكل وجوه الشرعية السياسية فيه، مصدر خلل بنيوي عميق في تركيبة لبنان، الاجتماعية الثقافية والسياسية، وسبباً كافياً لتحول التنوع الإيجابي فيه إلى تناقضات مدمرة، وصراعات لا تتوقف.

لذلك فإن تصريحات البطريرك الراعي، الصريحة والمباشرة، تندرج في خانة التحذير من انفراط العقد الاجتماعي نفسه، جراء فائض القوة المتوفر لمكون خاص دون باقي المكونات، ورهن لبنان لسياسات واستراتيجيات لا تنسجم مع اصل تموضع لبنان في العالم، وتقويض سيادة الدولة بانتزاع صلاحيتها ووظيفتها في مسائل الحرب والسلم، وحتى سلبها حق التفاوض على حدود أراضيها الذي هو أبسط مهامها، إضافة إلى التدرج العلني بترسيخ وصاية مباشرة على مؤسسات الدولة، والاحتكام إلى السلاح أو التهديد به في الداخل عند كل منعطف انسداد وتباين داخليين، وترسيخ قواعد لعبة سياسية تلتف على مبادىء الشرعية التي نص عليها الدستور اللبناني.

تصريحات البطريرك الراعي، الصريحة والمباشرة تندرج في خانة التحذير من انفراط العقد الاجتماعي نفسه

هذه الأمور، وأمور كثيرة غيرها، ليست ذات تأثير عرضي أو هامشي، بل لها تداعيات مقوضة لا تقتصر على زعزعة النظام السياسي، وإنما تحدث ارتجاجات وتصدعات، فعلية وواقعية، في النقطة المركزية الجامعة التي تجمع اللبنانيين داخل كيان جامع إسمه لبنان.

لذلك على القوى والجهات في لبنان، بالأخص “حزب الله” قبل غيره، تلقي رسائل البطريرك وفق هذا المنظور والتقاط إشاراتها من عمق كياني ووجودي لفكرة لبنان وبقاءه. هي في عمقها رسائل مخاوف وقلق وإشفاق على لبنان وأهله، ودعوة إلى العودة إلى الذات والمراجعة الشفافة للتموضعات التي أوصلت لبنان إلى حافة الهاوية، وتنبيه من مآلات تخرج عن سيطرة الجميع، ونهايات لا يرضاها أحد. أكثر من أن تفهم هذه الرسائل على أنها رسائل مزايدة وسجال وتحد، ليصار إلى الرد عليه (أي البطريرك) بالمكابرة، وبردود معلبة، ودروس في الأخلاق والوطنية، وإمطاره بزخات لا ترحم من الشتائم والإهانات.

ليس الخلاف، في تفاصيل أخلاقية ومبدئية، من قبيل الموقف من القضية الفلسطينية، أو مواجهة إسرائيل ككيان غاصب ومحتل ومتورط بأبشع أشكال الإبادة، أو محاربة التطرف والإرهاب، أو الاحتجاج على السياسيات الأمريكية المنحازة. فهذه جميعاً مسلمات بين جميع اللبنانيين. وإنما الخلاف حول المنظور الذي ننظر فيه إلى لبنان والعالم، والذي تتحدد على ضوئه مواقفنا وسياساتنا تجاه هذه المسلمات. فالسؤال الذي يسبق السؤال عن موقف لبنان من قضايانا الملحة، هو السؤال عن أي لبنان نتكلم أو نريد؟ 

يريد محور الممانعة، الذي بات “حزب الله” رأس حربته أن يكون المعطى الأول خارجي متقوم بصور صراع إقليمي

 يريد البطريرك الماروني، ومعه البطريركية المارونية ذات الحساسية العالية، تجاه كل ما يخدش الصيغة اللبنانية بمضامينها التأسيسية، أن يكون المعطى الأولي والبديهي، لأي موقف أو رأي أو قرار، هو المعطى اللبناني الداخلي بخصوصيته الدقيقة والحساسة وديناميته الداخلية لكن الغنية والفريدة. ليكون هذا المعطى هو الاساس الذي نطل به على العالم ونحدد علاقتنا معه، عندها نحفظ لبنان ونحفظ العالم إلى جانب لبنان.

بالمقابل، يريد محور الممانعة، الذي بات “حزب الله” رأس حربته، أن يكون المعطى الأول خارجي متقوم بصور صراع إقليمي، واعتبارات أيديولوجية وتأويلات دينية، تشكل جميعها صلب استراتيجية النظام الإيراني للتمدد في المنطقة. ليكون هذا المعطى هو الاساس في تعريف لبنان، وإعادة تشكيله من جديد. هو معطى، وضعنا أو يكاد، على سكة خسارة العالم، وخسارة لبنان الذي نعرفه ونتطلع إليه.    

السابق
إعلاميون من أجل الحرية تنعى الإعلامي رمزي عزام
التالي
اسرائيل ترد على تهديدات نصرالله بالنار..ومسلسل سقوط المباني السكنية مستمر!