سعد الحريري..في «وسط البلد»!

ياسين شبلي

منذ بداية شهر شباط، بدأت الأخبار والتحليلات السياسية، تتمحور حول عودة سعد الحريري إلى بيروت في ذكرى والده الشهيد في 14 شباط، وجُل هذه التحليلات تمحورت حول سؤال، هل ساعة العودة إلى المعترك السياسي أزفت، وبالتالي تكون العودة هذه المرة للإستقرار، أم أنها ستكون زيارة عادية كما العام الماضي؟

وإذا كانت لهفة الناس والمؤيدين وعاطفتهم تجاه سعد الحريري ليست بمستغربة، وبالتالي هي عادية، إلا أن اللافت وغير العادي كان هذه “اللهفة “السياسية من قِبَل البعض – ومنهم من ألَدْ خصومه – لعودته السياسية ما طرح التساؤلات حول الأسباب الموجبة، وما إذا كان هناك فعلاً من جديد في الأفق، أم أنها مجرد “عواطف” – وما أدراك ما عواطف السياسيين – للإستهلاك المحلي، ومن باب التنقير السياسي على رئيس الحكومة مثلاً، أو هي إستباقاً لقرار قد يصدر عن سعد الحريري بخصوص العودة. 

الجدير بالذكر أن “تيار المستقبل” كان قد بدأ حملته للمناسبة بشعار “تعوا ننزل ليرجع”، بشكل أوحى وكأن هناك قراراً قد أُتخذ بالعودة، عن تعليق العمل السياسي، الأمر الذي ثبُت عدم دقته بعد عودة الرئيس الحريري، الذي فاجأ الجميع ب New look شخصي، دفع بعض “الخبثاء” لتصويره وكأنه خروج عن ال “look” السعودي، بما يرمز إليه هذا التعبير من مغزىً سياسي. 

أجواء عودة الرئيس سعد الحريري هذه السنة كانت مختلفة عن سابقتها وكذلك عن يوم 24 كانون ثاني 2022 يوم أعلن تعليق عمله السياسي

الواقع بأن أجواء عودة الرئيس سعد الحريري هذه السنة ،كانت مختلفة عن سابقتها، وكذلك عن يوم 24 كانون ثاني 2022، يوم أعلن تعليق عمله السياسي، يومها كانت الأجواء حزينة سواء في بيت الوسط، وعلى ملامح الرئيس الحريري، أو على المستوى الشعبي الموالي والوطني، الذي شعر بالإحباط وإنسداد الأفق، إن لم نقل بالهزيمة، بالرغم من أن البلد كان مقبلاً على إنتخابات نيابية، كان يؤمل لدى البعض أن تؤدي إلى تغيير ما في ذهنية الحكم، بعد التطورات التي أعقبت ثورة 17 تشرين 2019.  

سعد الحريري
سعد الحريري

عاد الرئيس سعد الحريري اليوم بشكله الشخصي الجديد، الذي قد يختلف عليه البعض بين معجب ولا، ولكن ما لا يمكن أن يختلف عليه إثنان، هو أن سعد الحريري يبدو اليوم وأكثر من أي وقت مضى، حاجة وطنية من منطلق زعامته “السنية”، التي لم يستطع أي من المتنطحين لوراثته – وما أكثرهم – من ملء الفراغ الذي تركه فيها، وذلك بعد سنتين من إفساحه المجال لهم، سواء أولئك الذين كانوا من ضمن البيت السياسي “الحريري”، الذين خاضوا معه التسويات، ومن ثم هربوا من السفينة عندما ضربتها العواصف، أو أولئك المزايدين الذين نصَّبوا أنفسهم حماة للسُنَّة وحقوقهم التي “أهدرها” سعد الحريري، أو حتى “التغييريين” من ثوار 17 تشرين، الذين كانوا أكثر شراسة بمواجهته من مواجهتهم لبقية الطبقة السياسية، التي وضعوه في سلة واحدة معها، بالرغم من أنه كان أول المتجاوبين معهم، في دعوتهم للتغيير والإصلاح، عندما إستقال ووضع شروطاً إصلاحية مبدئية للعودة عن الإستقالة، كما أنه منحهم فرصة الفوز بتعليق عمله السياسي، وعدم خوضه الإنتخابات وهذا ما لا يمكن لأحد نكرانه . 

سعد الحريري يبدو اليوم وأكثر من أي وقت مضى حاجة وطنية من منطلق زعامته “السنية” التي لم يستطع أي من المتنطحين لوراثته – وما أكثرهم

اليوم يبدو سعد الحريري وبإعتراف الجميع – ربما بإستثناء كارهيه الذين يمارسون السياسة بكيدية وحقد – يبدو الأقدر على جمع الناس – أقله السُنة – حوله وقيادتهم  بعد أن سقط القناع عن أوجه العجز والمزايدة الرخيصة والصبيانية، في أحسن الأحوال، عند المتنطحين للزعامة ، وعدم فهمهم وإستيعابهم كما إستسهالهم لمسار الحياة السياسية في البلد، من حيث حساسيتها وصعوبتها ومشاكلها، التي لا تترك مجالاً لأي كان، أن يمارس قناعاته الشخصية في الحكم والإدارة، بسبب طبيعة النظام السياسي الطائفي، معطوفاً على إرتباط البعض من أطرافه بأجندات خارجية، تضع لبنان في صلب الصراع الإقليمي، مع الإعتراف بأن كل هذه الأسباب لا تبرِّر الأخطاء التكتيكية في الممارسة، سواء له أو لغيره، بغض النظر عن النوايا. 

إقرأ أيضاً: مظفر النواب وعبد الحسين شعبان ورحلة البنفسج «يَحطّون» في ندوة بمعرض النجف للكتاب الدولي

بدا سعد الحريري في إطلالته البيروتية – بالرغم من مسحة الحزن والرهبة التي ترافقه في هذه الذكرى – ، مرتاحاً متحرراً من قيود المنصب والسياسة، التي تُمارَس في لبنان للنكد والحرتقة، في محاولة لتسجيل مكاسب سريعة لكل طرف، لا للإنجاز والعمل المؤسساتي الصحيح، بدا متخففاً من تحمُّل مسؤولية ما آلت إليه الأمور في السنتين الماضيتين، وعلى رأسها الفراغ ، بحيث “نبت العشب” على أدراج قصر بعبدا بسببه، والذي كان متوَقَّعاً على أية حال نتيجة السياسات المتَّبعة، والتي تحمَّل مرارتها في محاولته الأخيرة، لتشكيل الحكومة على أساس المبادرة الفرنسية، التي أفشلها العهد السابق وحُماته، نتيجة أحقاد شخصية كما هو معروف. 

بدا الحريري مرتاحاً وهو بين مؤيديه ومريديه من الناس، الذين إزداد تمسكهم به بعاطفتهم العفوية غير المزيفة، لم يكن هذه المرة إبن الشهيد رفيق الحريري فحسب، بل كان سعد الحريري الذي يتحدث بلهجة الواثق من نفسه ومن قراره، والذي حفر لنفسه مكاناً في قلوب الناس، وعبر المناطق التي أوصلتها رسالة للخارج والداخل، بأنه هو ولا أحد غيره من يمثِّلهم، رسالة جعلته مرتاحاً حد إعلانه أن تعليق العمل السياسي، كان أفضل قرار إتَّخذه في مسيرته السياسية، ربما لأنه شعر بأن الأيام والناس والتطورات الإقليمية من مصالحات وربط نزاعات قد أنصفته، وإن كان الثمن الذي دفعه غالياً جداً خلال 17 عاما، هي المدة التي إستغرقتها مسيرته السياسية الأولى، ما قبل تعليق العمل. 

فضلاً عن الإلتفاف الشعبي الكبير حوله، تحوَّل “بيت الوسط” بوجود سعد الحريري فيه، وكأنه “وسط البلد”، حيث بدا محجَّة وقِبلة ومساحة جامعة، إلتقى فيها بالمسؤولين من كل القطاعات بإستثناءات بسيطة، سواء السفراء الأجانب أو الوزراء والنواب، وكبار المسؤولين حاليين وسابقين، كما لرجال السياسة والعسكر والدين والإقتصاد، كلهم جاءوا لمحاولة الإستطلاع والإطمئنان على مستقبل البلد، في ظل هذا الطوفان من الأزمات والمشاكل في لبنان والمنطقة، سائلين مستفسرين عن موعد عودته للعمل السياسي، لما لهذا الأمر من أهمية وإرتباط بوضع البلد، بما يطرحه من بارقة أمل لعودة دورة الحياة الطبيعية إليه، فكان جوابه للناس والمسؤولين واحداً “كل شي بوقتو حلو” ، وهو جواب ينم عن عقلانية لم تغيِّبها العاطفة التي أظهرها الجميع تجاهه، ويُظهر إرادة وثبات على الموقف الذي كان إتخذه بتعليق عمله السياسي، لأسباب معينة لم تزل على حالها دون تغيير، وهو ما يجعل العودة اليوم غير ذي فائدة، بما يعنيه هذا الأمر من أن الحل مؤجَّل، برغم الإغراءات التي يوفرها العمل السياسي، وهي إغراءات يبدو بأن سعد الحريري تخطاها، وباتت وراءه على الأقل في الوقت الحاضر، حتى يقضي الله والتطورات أمراً، يمكن أن يعود عليه وعلى لبنان واللبنانيين بالفائدة. 

من المسؤول عن هذا الواقع هل هو الحريري مثلاً الذي أخلى الساحة للجميع أم الطبقة السياسية الحاكمة بقانون الإنتخاب والقمع الرسمي و “الميليشياوي” الذي مورس على الناس

كما يُظهر هذا الموقف، بأن تعليق العمل السياسي لم يكن موقفاً تكتيكياً منه، لزوم المساومة والإبتزاز على جري عادة السياسيين في لبنان، بل موقفاً نابعاً من قناعة وفهم عميق، للأسباب التي أوصلت البلد إلى ما هو عليه اليوم من إنهيار، وهو فهم قد يراه البعض جاء متأخراً جداً، وقد يكون هذا صحيحاً، لو أننا في بلد يعيش حياة سياسية طبيعية، وليس في بلد كلبنان يعيش على توازنات حساسة جداً، يتداخل فيها السياسي بالديني بالمناطقي وحتى بالشخصي، ما يجعل المرء ملزماً بالتغاضي عن أشياء مرة، وقبول أخرى ومحاولة إستنباط الحلول في كل مرة. 

سعد الحريري
ذكرى 14 شباط

قد يرى البعض من أنصار شعار “كلن يعني كلن”، في عودة الحريري سواء اليوم أو في المستقبل، تعويماً وإنتصاراً للطبقة السياسية، وقد يكون هذا صحيحاً، لكن السؤال يبقى من المسؤول عن هذا الواقع، هل هو الحريري مثلاً الذي أخلى الساحة للجميع، أم الطبقة السياسية الحاكمة بقانون الإنتخاب والقمع الرسمي و “الميليشياوي” الذي مورس على الناس، أم الثوار الذين تتعدى مجموعاتهم ال 100 مجموعة، ولا من رابط بينها ولا برنامج يجمعها ولو على الحد الأدنى بعد كل الذي جرى؟ أسئلة بحاجة لإجابات صريحة وواضحة، نابعة من تقييم موضوعي لكل الظروف التي أحاطت بثورة 17 تشرين وما بعدها، فالبلد بحاجة لحلول عملية، ولم يعد يحتمل ترف التنظير، فالكل يعرف العلة، والعلة واحدة لكن “الأطباء” كُثر وموزعين على الاختصاصات كافة، لكنهم يفتقدون لروح الفريق الواحد، ولا يتكلمون نفس اللغة، فكل يغني على ليلى طائفته وبلغتها، بينما المريض في غرفة العناية المركزة، يكاد يختنق من نقص الأوكسيجين، فهل من يبادر؟.. 

السابق
ندوة منظمة العمل عن موازنة العام 2024: خلل مضاعف واصلاح مغيب!
التالي
ندوة طبية لجمعيتي «وعي وإدراك» و«هيئة أبي ذر الغفاري» بذكرى ولادة ابطال كربلاء