أزمة تتفاقَم في الظِّلال: كيف انعكس التصعيد في البحر الأحمر على اليمن، اقتصادياً وإنسانياً؟

اقتصاد اليمن

في الوقت الذي يُبدي المجتمع الدولي اهتماماً متزايداً بالتأثيرات الكبيرة التي لحقت بالتجارة الدولية والاقتصاد العالمي نتيجة استمرار تهديد جماعة الحوثي للممرات الملاحية في البحر الأحمر وخليج عدن، إلا أن التداعيات الاقتصادية والإنسانية التي خلقها التصعيد الراهن على الداخل اليمني لم تحظ بالقدر المناسب من الاهتمام، وذلك على الرغم من حقيقة أن موقع اليمن من هذه التطورات، وبفعل الأزمات الاقتصادية والإنسانية العميقة التي يعانيها، تجعله الطرف الأكثر تضرراً منها على الأرجح.

التأثيرات الأوَّلية المباشرة لأزمة البحر الأحمر على اليمن

تتمثل أهم التداعيات المباشرة لأزمة التصعيد في البحر الأحمر وخليج عدن، على اليمن، في الآتي:

  1. ارتفاع تكاليف الشحن البحري إلى الموانئ اليمنية

أدت هجمات جماعة الحوثي منذ نوفمبر الماضي ضد السُّفن المدنية والتجارية المارة قبالة سواحل اليمن في البحر الأحمر، والتي توسعت لاحقاً إلى خليج عدن، إلى ارتفاع قياسي في أسعار الشحن البحري إلى الموانئ اليمنية، وقد وصلت هذه الأسعار ذروتها بين نهاية شهر ديسمبر وبداية يناير الفائتين قبل أن تتراجع تدريجياً إلى مستويات أقل في الوقت الحالي، وإن كانت في الحقيقة لاتزال مرتفعة جداً وتوازي أضعاف متوسط الأسعار المتعارف عليها قبل التطورات الأخيرة.

واستناداً لبيانات مكاتب ووسطاء خدمات الاستيراد حول أسعار شحن الحاويات من الموانئ الصينية، يبدو أن أسعار الشحن البحري إلى الموانئ اليمنية الرئيسة في عدن والحديدة مستقرة عند ضعف متوسط الأسعار قبل التطورات الأخيرة، في الوقت الذي استقرت أسعار الشحن إلى بقية موانئ دول منطقة البحر الأحمر وخليج عدن عند ضعفي إلى ثلاثة أضعاف المتوسط السابق؛ مع العلم أن هذا الفارق لصالح الموانئ اليمنية يعود إلى أن أسعار الشحن إليها كانت مرتفعة أساساً من قبل بسبب الصراع الدائر في البلد منذ العام 2015، حيث كانت أسعار الشحن إلى موانئ عدن تعادل ضعف متوسط أسعار الشحن للموانئ القريبة في المنطقة بينما كانت أسعار الشحن إلى موانئ الحديدة تبلغ ضعفي أسعار الموانئ القريبة.

اقرأ أيضاً: طفح كيل الخطر في رفح.. والعالم يغمض عينيه!

ويُتوقَّع أن يؤدي هذا الارتفاع الإضافي في تكاليف الشحن البحري إلى الموانئ اليمنية الرئيسة إلى ارتفاع موازٍ في أسعار مختلف السلع والبضائع المستوردة، وأهمها المواد الغذائية الأساسية والمشتقات النفطية، خصوصاً وأن اليمنيين يعتمدون على الاستيراد في تلبية 90% من احتياجاتهم من المواد الغذائية الأساسية، وبالتالي فإن أي ارتفاع في الأسعار بسبب ارتفاع تكاليف الشحن لن يترك أمامهم خيارات بديلة.

ومع أن ارتفاع أسعار شحن البضائع السائبة من قبيل الحبوب والمشتقات النفطية سيكون أقل من الارتفاع في أسعار شحن الحاويات، بحكم وجود عدة اختلافات في آليات التعاقد والشحن، غير أن الفارق لن يكون كبيراً بالنظر إلى أن ارتفاع أسعار الشحن في الحالتين نابع من نفس السبب المتمثل في ارتفاع أقساط التأمين وعلاوات المخاطر لطواقم الناقلات.

وينطوي الارتفاع المحتمل في تكاليف استيراد المواد الغذائية إلى اليمن على خطورة كبيرة كذلك، بالنظر إلى أن تكاليف الاستيراد والنقل والتوزيع محلياً كانت تمثل نسبة كبيرة من سعر البيع في سوق التجزئة، حيث توصَّل فريق من الخبراء المكلفين من الأمم المتحدة إلى أن تكلفة الشحن البحري، وحدها، كانت تمثل نسبة تراوحت بين 30-50% من سعر بيع دقيق القمح في سوق التجزئة خلال الفترة بين 2015-2020. ومع أن تكلفة الشحن البحري والنقل والتوزيع المحلي قد تراجعت منذ ذلك الحين لكنها لا تزال كبيرة نسبياً، لاسيما إذا أخذنا في الاعتبار الفارق الحالي بين سعر بيع دقيق القمح في سوق التجزئة في اليمن وسعر الأسواق العالمية بالمقارنة مع فوارق أقل بكثير بين سعر البيع في سوق التجزئة في بقية البلدان وسعر الأسواق العالمية.

ومؤخراً، بدأت المنظمات الدولية العاملة داخل اليمن في تلمُّس ارتفاعات جديدة في أسعار المواد الغذائية بفعل ارتفاع تكاليف الشحن البحري، لكن من المتوقع أن تسجل الأسعار ارتفاعات أكبر بكثير خلال الأيام والأسابيع المقبلة، وبما ينسجم مع طبيعة التغييرات السعرية للمواد الغذائية الأساسية المستوردة، والتي تستغرق عدة أسابيع أو أشهر قبل ظهورها، بحكم استيرادها بكميات كبيرة، ووجود مخزونات ضخمة وكافية لسد الحاجة منها لعدة أشهر، إضافةً إلى اضطلاع السلطات بدور أكبر في الرقابة على مستورديها وعلى التجار المسؤولين عن توزيعها محلياً وممارستها الضغوط عليهم للحيلولة دون ارتفاع أسعارها ولو على حساب هوامش أرباحهم أحياناً.

وقد يُسهِم توقيت ارتفاع تكاليف الشحن البحري أيضاً في مضاعفة تأثيراته على الاقتصاد اليمني، بالنظر إلى أن موانئ البلاد تستقبل أعلى أرقام من الواردات في هذا الموسم مع اقتراب حلول شهر رمضان. كما أن ارتفاع تكاليف الشحن البحري إلى اليمن سيترك حتماً تأثيرات أكبر تتجاوز المواد الغذائية الأساسية لتصل إلى باقي القطاعات المحلية المعتمدة على الاستيراد في مدخلاتها أو تسيير أعمالها أو على تسويق الواردات ذاتها، وبالتالي فإن حجم الضرر المتوقع على الاقتصاد اليمني أكبر مما توحي به المعطيات الأولية.

  1. تراجُع النشاط الملاحي في الموانئ اليمنية

كان الأثر الأبرز الناتج عن تصعيد التوتر في جنوب البحر الأحمر ومضيق باب المندب وخليج عدن وبحر العرب، بفعل استمرار الهجمات الحوثية ضد السفن العابرة في هذه الممرات، متمثلاً في تغيير أكثر من 60% من السفن التجارية المحملة بالبضائع، خط مسارها من مضيق باب المندب، ثم قناة السويس، إلى طريق رأس الرجاء الصالح حول أفريقيا. وبالتبعية، فإن التصعيد الراهن، وتفاقُم أزمة النقل البحري عبر البحر الأحمر وخليج عدن، أثَّرا بشكل واضح في النشاط الملاحي للموانئ اليمنية التي “كانت قد بدأت تتخلص بشكل تدريجي من القيود المفروضة عليها، والتي أدت خلال السنوات الماضية إلى تقليص خطوط النقل البحري العاملة من اليمن وإليه، وتراجعها بصورة كبيرة من 16 خطاً بحرياً قبل العام 2015 إلى 5 أو 6 خطوط فقط في الوقت الراهن”.

وبصفة خاصة، يبدو أن النشاط الملاحي لميناء عدن، الواقع جنوبي البلاد، كان الأكثر تأثراً، في ظل استمرار التصعيد العسكري في المنطقة القريبة منه، بسبب تزايُد المخاوف الأمنية لشركات الملاحة الدولية من استخدام الميناء، واتجاه الخطوط الملاحية الدولية التي لا تزال سفنها تتجه إلى ميناء عدن إلى رفع تكاليف الشحن والتأمين، ما فاقم من أزمة الميناء، الذي كان نشاطه أساساً قد تدنَّى قبلها بشكل ملحوظ خلال الأشهر الماضية، إثر تحول جزء كبير من حركة السفن القادمة إلى اليمن، منه إلى ميناء الحُديدة، الواقع تحت سيطرة الحوثيين.

ومع أن الحكومة المعترف بها دولياً سعت إلى الاستفادة من الأزمة الحالية في البحر الأحمر، لتنشيط ميناء عدن، من خلال إعلانها، في 28 ديسمبر 2023، عن استئناف دخول السفن التجارية مباشرة إلى الميناء دون إخضاعها لإجراءات التفتيش التي تقوم بها قوات التحالف في ميناء جدة، للمرة الأولى منذ نحو 9 سنوات، إلا أن هذه الخطوة لم تؤدِّ إلى استعادة النشاط الملاحي للميناء بالشكل الذي كان يتوقع، نتيجة استمرار استهداف الحوثيين للسفن. إذ تحدثت مصادر عن أن ميناء عدن لم يستقبل، خلال الأسبوع الأخير من شهر يناير 2024، سوى خمس سفن، وهو ما يمثِّل فقط عُشْر إجمالي عدد السفن التي وصلت إلى ميناء الحديدة خلال نفس المدة (والتي تجاوز عددها 50 سفينة)، وفق المعلومات المتوفرة من بيانات حركة السفن في موانئ عدن والحديدة.

وإذا ما استمر التصعيد في المنطقة وبلغ مستويات عالية الخطورة، بما في ذلك عودة نشاط عمليات القرصنة الصومالية بشكل مكثَّف بعد أن كانت قد اختفت قبل سنوات عديدة؛ أو في حال لجأ تحالف “حارس الازدهار” الذي تقوده الولايات المتحدة إلى فرض حظرٍ على الموانئ اليمنية، فإن من المتوقع حينها أن يضطر العديد من التجار إلى التفكير في استخدام موانئ أخرى لدول مجاورة مثل ميناء صلالة بسلطنة عمان، الأمر الذي ستكون نتائجه السلبية مدمرة للنشاط الملاحي في ميناء عدن، حيث سيفقد الكثير من العمال وظائفهم، فضلاً عن ما سيتسبب به ذلك من ارتفاع في أسعار المواد الغذائية الأساسية، وتراجع حركة الاستيراد والتصدير، ومن ثمّ مفاقمة الأزمة الإنسانية في البلاد.

  1. ارتفاع أسعار النفط

منذ العام 2015 تستورد اليمن من المشتقات النفطية كميات تتجاوز قيمة صادراتها من النفط الخام، ولذا فإن أي ارتفاع في أسعار النفط عالمياً يترك تأثيراً سلبياً يتجاوز أي مكاسب من تصدير النفط الخام، وذلك بمعزل عن حقيقة توقُّف تصدير الخام تماماً من اليمن منذ أواخر العام 2022 على خلفية الهجمات التي شنتها جماعة الحوثي على محطات التصدير بمناطق سيطرة الحكومة المعترف بها دولياً، وهو أمرٌ جعل ارتفاع أسعار النفط عالمياً غير منطوٍ على أي مكاسب بالنسبة لليمن.

وإذا كانت أسعار النفط عالمياً لم تتأثر كثيراً في الأسابيع القليلة الأولى التي تلت بدء الحوثيين شن هجماتهم ضد السفن العابرة في البحر الأحمر وخليج عدن، بل -على العكس- كانت تتراجع في منحى مستمر منذ وصلت إلى أعلى مستوى لها في أكتوبر الفائت بسبب التوتر في المنطقة، غير أن أسعار النفط بدأت تُسجِّل ارتفاعات جديدة وكبيرة نسبياً على امتداد شهري ديسمبر ويناير الفائتين بفعل تزايد هجمات الحوثيين التي تستهدف ممرات الملاحة الدولية، وإطلاق الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة عملية عسكرية هدفها تحييد الهجمات الحوثية.

وعلى الرغم من انخفاض أسعار النفط ونزولها مجدداً دون عتبة الـ 80 دولاراً من مطلع شهر فبراير الجاري، فإن العديد من الخبراء والمختصين يشيرون إلى أن أسواق النفط لم تستوعب بعد حجم التهديد الذي يمثِّله مواصلة التصعيد العسكري في البحر الأحمر وخليج عدن على تجارة وخطوط نقل النفط عالمياً، وأن أسعار النفط قد ترتفع مجدداً في الأسابيع المقبلة عندما يستوعب المتعاملون في السوق أن هذه الأزمة يمكن أن تستمر لمدة أطول، وأن تمتد على نطاق أوسع.

وربما يمكن النظر إلى أثر أزمة البحر الأحمر في أسعار النفط من زاوية أخرى أيضاً، إذ إنها حرمت اليمن من الاستفادة من انخفاض محتمل في الأسعار خلال الشهرين الماضيين بعد الارتفاع الذي سجلته عقب اندلاع حرب غزة، لاسيما أن معظم المؤشرات توحي بأن أسعار النفط كانت تتجه إلى انخفاض يقترب من عتبة الـ 70 دولاراً، لكنها سرعان ما ارتفعت إلى 80 دولاراً (زيادة بنسبة 15% تقريباً) وتجاوزته قبل أن تعود إلى التذبذب حوله في الوقت الحالي بسبب التصعيد القائم في البحر الأحمر وخليج عدن.

والمؤكد أن هذا الارتفاع في أسعار النفط عالمياً، وتبعاته على أسعار المشتقات النفطية المستوردة إلى اليمن، سيؤدِّيانِ إلى زيادة أعباء المواطنين، ومفاقمة حدة الأزمات الاقتصادية والإنسانية التي يعانيها البلد عموماً، لاسيما أن أسعار الوقود تؤثِّر في أسعار طيف واسع من السلع والبضائع والخدمات.

استمرار مُهددات الملاحة البحرية الدولية قبالة اليمن قد تدفعه إلى شفير كارثة إنسانية حقيقية (AFP)

التداعيات المتوقعة على الوضعين الاقتصادي والإنساني

يعيش اليمن في هذه المرحلة ظروفاً اقتصادية وإنسانية مأساوية جراء تراكم تداعيات الصراع المستمر في البلاد منذ نحو عشر سنوات، ومن المؤكد أن استمرار التصعيد في جنوب البحر الأحمر وخليج عدن لن يؤدي إلا إلى مفاقمة معاناة اليمنيين ومضاعفة آلامهم، خاصةً أن توقف تصدير النفط الخام من مناطق سيطرة الحكومة منذ نهاية العام 2022 بسبب هجمات الحوثيين قد بَدَّد النمو الاقتصادي الذي كان متوقعاً هناك في العام الفائت (2023)، وجعل الناتج المحلي الإجمالي لليمن يُسَجِّل انكماشاً بعدما كانت المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين وحدها التي تسجل انكماشاً في الناتج المحلي الإجمالي، على الأقل خلال السنوات الأربع الأخيرة.

ومن الملاحظ أن أزمة البحر الأحمر على الوضعين الاقتصادي والإنساني في اليمن، سيكون لها انعكاسات متفاوتة التأثير بين مناطق سيطرة الحوثيين ومناطق سيطرة الحكومة المعترف بها دولياً بحسب الظروف المختلفة التي تعيشها كل منهما.

مناطق سيطرة الحكومة

كانت الحكومة تعاني من تحديات اقتصادية غير مسبوقة بسبب توقف تصدير النفط الخام وخسارتها لما يزيد عن 60% من إيراداتها، ومع أنها تلقت دعماً إقليمياً (سعودياً وإماراتياً بشكل أساسي) ومن بعض المانحين الدوليين، فإنها لم تحقق نجاحاً كبيراً في أداء التزاماتها الأساسية، وأخذت منذ نهاية العام الفائت تتأخر في تسليم رواتب موظفي القطاع العام في مناطق سيطرتها، كما أن لم تحقق أي تقدم ملموس في معالجة أزمة الكهرباء، التي باتت تنقطع معظم ساعات اليوم منذ منتصف 2023.

وقد تجلى التأثير الأكبر لتوقف تصدير النفط الخام في تراجُع سعر صرف العملة المحلية (الريال) داخل مناطق سيطرة الحكومة، من 1200 ريال مقابل الدولار الأمريكي الواحد مع بداية العام 2023 إلى 1400-1500 ريال يمني في مقابل الدولار الأمريكي الواحد بعد عشرة أشهر (مطلع شهر أكتوبر)، نظراً لاعتماد البنك المركزي في مناطق سيطرة الحكومة على عائدات تصدير النفط الخام لتمويل مزادات بيع العملة الصعبة للمستوردين، وتقليص فائض الكتلة المتداولة من العملة المحلية. وقد واصل البنك المركزي إقامة مزاداته الأسبوعية حتى مطلع شهر نوفمبر من العام الفائت، إذ توقف حينئذٍ في انتظار وصول الشريحة الثانية من المنحة السعودية الجديدة المقدمة إلى الحكومة، وهو واقعٌ أدركه المتعاملون في السوق وبنوا توقعاتهم على أساسه.

وفي ظل هذه المعطيات جاءت أزمة التصعيد في البحر الأحمر وخليج عدن لتضيف تحديات جديدة إلى أزمة الحكومة وتُعمِّق من معاناة المواطنين داخل مناطق سيطرتها، وأبرز مؤشر على ذلك استئناف مسار تراجع سعر صرف العملة المحلية هناك مجدداً منذ مطلع العام الجاري، وتجاوزه حاجز الـ 1600 ريال مقابل الدولار للمرة الأولى منذ مطلع عام 2022، وذلك على الرغم من الإعلان الحكومي عن تسلُّم البنك المركزي للدفعة الثانية من المنحة السعودية المقدمة للحكومة واستئنافه المزاد الأسبوعي لبيع العملة الصعبة إلى المستوردين في أواخر يناير الفائت.

وبمرور الوقت يتوقع أن تتكشف المزيد من تداعيات أزمة البحر الأحمر في مناطق سيطرة الحكومة، لاسيما في حال ظهرت ارتفاعات جديدة وأكبر في أسعار المواد الغذائية الأساسية نتيجة ارتفاع تكاليف الشحن البحري، وإن كان التراجع المستمر في سعر صرف العملة المحلية بحد ذاته قد قلَّص القدرة الشرائية للشريحة الأكبر من المواطنين وجعلهم غير قادرين على تلبية الحد الأدنى من احتياجاتهم الأساسية، ومن المرجح أن يستمر هذا التراجع ويتفاقم في حال استمر التصعيد العسكري في جنوب البحر الأحمر، وخصوصاً إذ توازى ذلك مع حصول ارتفاع في أسعار النفط عالمياً، وبالتالي ارتفاع فاتورة المشتقات النفطية المستوردة لمناطق الحكومة، علاوة على التأثير السلبي لهذا الارتفاع وأي ارتفاعات إضافية في أسعار النفط على الوضع الاقتصادي اليمني ككل.

مناطق سيطرة الحوثيين

على الرغم من أن سعر صرف العملة المحلية من الطبعات القديمة المتداولة بمناطق سيطرة الحوثيين حافظ على ثباته عند مستوى 530 ريال يمني في مقابل الدولار الأمريكي الواحد (منذ منتصف العام 2022)، فإن ذلك ما عاد يُخفي حقيقة أن الأوضاع الاقتصادية والإنسانية هناك أكثر سوءاً من مناطق سيطرة الحكومة، ليس بسبب تراكمات نتائج الصراع واستفادة الحكومة من عائدات تصدير النفط خلال السنوات الماضية فقط، وإنما كذلك بسبب طريقة جماعة الحوثي في إدارة مناطق سيطرتها واستحواذها على جميع الإيرادات العامة، ومضاعفتها الجبايات ومختلف الرسوم على القطاع الخاص، في الوقت الذي تتنصل من جميع التزاماتها تجاه المواطنين الخاضعين لحكمها.

فالسلطات الحوثية لا تزال تمتنع عن دفع مرتبات موظفي القطاع العام في مناطق سيطرتها منذ عدة سنوات، وتتنصل عن تشغيل الخدمات العامة إلا بتسعيرة جديدة تعادل أضعاف تسعيرة مناطق سيطرة الحكومة، بهدف تحقيق مكاسب مالية إضافية عبر هذه الخدمات وعدم الاكتفاء بتغطية نفقاتها، في الوقت الذي تخصص الحكومة موازنة ضخمة من أجل توفير هذه الخدمات بتسعيرة تقل عن تكلفتها إلى جانب التزامها بتسليم مرتبات موظفي القطاع العام في مناطق سيطرتها في موعدها مع وجود استثناءات قليلة، وعلى الرغم من حقيقة أن إيرادات جماعة الحوثي توازي إيرادات الحكومة إن لم تكن تتجاوزها، خاصةً بعد توقف تصدير النفط الخام.

وفي ضوء هذه المعطيات، لم يكن غريباً أن تُطلِق منظمات دولية تحذيرات من إمكانية حصول تداعيات اقتصادية وإنسانية خطرة في مناطق سيطرة جماعة الحوثي خلال الأشهر والأسابيع القليلة القادمة، بسبب الأوضاع الاقتصادية والإنسانية المتأزمة هناك منذ عدة سنوات، وكذلك نتيجة لجوء الحوثيين للتصعيد وتهديد ممرات الملاحة الدولية قبالة سواحل اليمن، وأهمها التحذير من أن سبعاً من محافظات شمال البلاد ووسطها ستواجه أسوأ حالات انعدام الأمن الغذائي الحاد بين شهري فبراير الجاري ومايو المقبل، مع تردي معيشة ملايين الأشخاص هناك إلى مستوى حالة الطوارئ ومعاناة أسرة من كل خمس أسر، على الأقل، من نقص حاد في الغذاء يؤدي إلى سوء تغذية شديد أو ارتفاع في معدل الوفيات.

ومن البديهي أيضاً أن يؤدي ارتفاع أسعار النفط عالمياً، وارتفاع أسعار المشتقات النفطية المستوردة إلى اليمن تالياً بسبب ذلك، إلى زيادة حدة هذه الأزمات الاقتصادية والإنسانية في مناطق سيطرة جماعة الحوثي، استناداً إلى التأثير السلبي الذي يتركه على المعدل العام للأسعار والنشاط الاقتصادي الكُلِّي.

كما يتعين الأخذ في الاعتبار تداعيات قرار الولايات المتحدة الأمريكية بتصنيف جماعة الحوثي منظمة إرهابية، الذي جاء -هذه المرة- في سياقٍ تحكمه ردة الفعل الآنية، ولا يُنبئ عن وجود استراتيجية أمريكية واضحة للتعاطي مع الحوثيين والأزمة اليمنية في شكل عام، وبالتالي فمن المحتمل أن تفشل إدارة الرئيس جو بايدن في تطبيق قرارها بطريقة تتجنب إلحاق الضرر باليمنيين العاديين، لاسيما في ظل احتمال فرض تكاليف إضافية على واردات السلع والبضائع إلى اليمن، وعلى المعاملات المالية معه تحت مبرر ارتفاع المخاطر المترتبة على هذه التعاملات الجارية والمعاملات المالية بعد سريان قرار التصنيف رسمياً في منتصف فبراير الجاري.

الخلاصة

خلَّف التصعيد المستمر في البحر الأحمر وخليج عدن تداعيات متعددة المستويات على الوضعين الاقتصادي والإنساني في اليمن، وفي حال استمرار مُهددات الملاحة البحرية الدولية قبالة هذا البلد فإنها قد تدفعه إلى شفير كارثة إنسانية حقيقية استطاع أن يتجنبها بالكاد خلال السنوات الماضية، وبوجه خاص في مناطق سيطرة الحوثيين نفسها، التي تعيش أسوأ مظاهر الأزمات الاقتصادية والإنسانية والمعيشية نتيجة الطريقة التي تُدير بها سلطة الأمر الواقع الأوضاع هناك.

وحتى لو توقَّف التصعيد الراهن في البحر الأحمر، فمن المتوقع أن تأخذ هذه التداعيات مدى زمنياً أطول، وتحديداً إلى حين تطمئن شركات الملاحة وهيئات التأمين وتختفي مخاوفها تماماً، وهي فترة قد تصل إلى عدة أشهر، وستتأثر، طولاً أو قصراً، بمستوى التوتُّر في المنطقة بطبيعة الحال.

السابق
المحطة الأخيرة: تحديات العملية العسكرية الإسرائيلية في رفح وسيناريوهاتها
التالي
إيران لا تريد الحرب.. التسوية انتصار لـ«الحزب».. ونتنياهو يهدد بحرب تدميرية!