الشر بين المسؤولية والتفاهة

عرضت شبكة نتفلكس Netflix، مؤخراً، برنامجاً وثائقياً بعنوان “رجال عاديون” Ordinary Men، بيَّن فيه جرائم الإبادة التي أُحصيت بالملايين من قِبل النظام النازي في الحرب العالمية الثانية. هي جرائم ارتكبها أناس عاديون كانوا يعيشون حياة عادية ويتقيدون بالقانون ويتعاملون بطيبة في ظروف حياتهم اليومية، ولم يتوقع أحد أن تصدر عنهم هذه الأعمال المرعبة.

ما فعله هؤلاء أثار مشكلة الشر، لجهة تفسير صدوره عن أناس عاديين، ربما ساذجون لكنهم ليسوا خبثاء؛ بل طيبون في ظروف مختلفة. ما يفرض إعادة التفكير بحقيقة الشر ومنابعه؛ حيث اعتادت الأخلاقيات التقليدية تصوير الشر حقيقة جوهرانية خالصة على الضد والنقيض من الخير المحض، لا يخالطه أو يتداخل معه. فحقيقة الشر إما تندرج داخل التأويل المانوي الذي يصور الوجود منقسماً بين قوتَي الخير والشر؛ أي حقيقتَين أنطولوجيتَين يقوم نشاط العالم على الصراع بينهما. وإما يتم تصويرها أمراً عدمياً لا وجود له سوى أنه نقص في قوة الوجود وحالة فقدان للكمال الإنساني. وهي تأويلات لم تستطع تفسير حدوث الشر وارتكاب فظاعات هائلة من أناس لا توجد لديهم نوايا خبيثة أو وسوسات شيطانية أو علامات المرض النفسي. هذا التساؤل كان محور كتاب “أيخمان في القدس: تفاهة الشر” لحنة أرندت، الذي كان حصيلة تغطية صحافية لمحاكمة أيخمان Eichmann، أحد القادة النازيين، من قِبل دولة إسرائيل في عام 1961؛ بتهمة مشاركته في جرائم قتل بحق مئات الآلاف من اليهود.

اقرأ أيضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: الكفاءة القتالية شرط غير كاف لكسب الحرب

ورغم أن أرندت لم تبرئ المحكمة من الأغراض الدعائية والإعلامية والتوظيفات الأيديولوجية للمحكمة، حيث وصفتها بالمحكمة المسرحية، لاستعراضها عذابات اليهود بدل التركيز على الطبيعة الأخلاقية للأفعال التي ارتكبها أيخمان؛ فإنها سعت إلى فهم وتفسير كيف يتسبب أشخاص كهؤلاء في قتل مئات الآلاف من البشر، رغم عدم خبثهم الباطني وانتفاء النوايا الشريرة لديهم. سألت أرندت: كيف يمكن لأحد أن يرتكب أعمالاً شريرة من دون أن يكون شريراً بذاته؟ ما خلصت إليه أرندت؛ هو أن الشر أمر عرضي وطارئ، لا تحركه النوايا الخبيثة أو الإرادات المنحرفة، بقدر ما تولده أوضاع يخلقها الإنسان لنفسه، يكون فيها الإنسان مستلب الفكر والوعي وفاقد الإحساس بمسؤولية ما يفعله. هي لحظة تبدأ حين يُعرض الإنسان عند الاختلاء بذاته والإنصات إلى نفسه، يفقد معها الدراية والوعي بحقيقة ما يفعله، ويقتصر كل همِّه على الانصياع للواجب الإداري أو الأخلاقي أو الأيديولوجي الذي يُـملى عليه من خارجه.

هذا يعني أن الشر صناعة إنسانية؛ أي شروط صناعية تحيط بالإنسان وتقيم جداراً عازلاً بينه وبين نفسه، تتعطل معه قدرته على التمييز بين ما هو صواب وخاطئ، وتفقده الشعور بالمسؤولية أو الوعي بحقيقة ومآلات ما يفعله؛ فالشر حصيلة وثمرة وضع خارجي يحدث تعطيلاً لملكات وقدرات داخل الإنسان يفقد معها قدرة التفكير وملكة الوعي بحقيقة ما يفعله، وليس وجوداً أنطولوجياً مستقلاً أو قوة أصيلة داخل الإنسان تصارع خيريته الكامنة فيه، فالخير والشر أثر لوضع ونظام علاقات وليس ظاهرة وجودية متجذرة أو صفة لطبيعة إنسانية عميقة. سعت أرندت إلى البحث عن مصادر ومنابع أفعال الشر، الذي قد نختلف في تعريفه؛ لكن القدر المتيقن فيه هو سلب الآخرين أرواحهم وإنهاء حياتهم ورفض مشاركتهم الأرض معهم، لا لذنب أو خطيئة اقترفوها سوى أنهم ينتمون إلى سلالة معينة أو معتقد خاص. وجدت أرندت ضالتها في النظم التوتاليتارية القائمة على تراتبية حادة وبيروقراطية صارمة، ومهمتها الأساسية تحطيم المجال العام الذي يسود فيه الاحترام المتبادل بين الأفراد ويكون فيه الأفرادُ فاعلين ومشاركين في نقاش القضايا العامة على قاعدة عقلانية.

إنها مهمة تحويل المجتمع إلى جماهير بعزل الأفراد بعضهم عن بعض؛ ليصبحوا مبعثرين ومشتتين ومجردين من روابطهم الاجتماعية، يفقد فيها كل فرد وعيه الذاتي ولا يعود يستشعر نفعه إلا بانتمائه إلى حزب أو فرقة. هي عملية تعطل عملية التفكير عند الأفراد وتحوُّلهم إلى متلقين آليِّين وهامشيين للأوامر؛ لينفذوها بنحو تلقائي واعتيادي. هي وضعيات تسلب عن الأفراد الإحساس بالمسؤولية، وتضمن تلقيهم الأوامر وتنفيذها على الدوام بدوافع الولاء والطاعة، ما يحوِّل جرائم القتل الممنهج أعمالاً يومية اعتيادية وروتينية، ينفذها أفراد هامشيون سلبتهم الآلة الإدارية حسَّهم الإنساني وبدلت بمسؤوليتهم الأخلاقية المسؤوليةَ الإدارية، لينحصر هم الفرد في تنفيذ الأوامر بدقة من دون أن يدرك الفرد معنى أو فظاعة ما يفعله. تبيَّن لأرندت تفاهة الشر لعاديته، كونه صادراً عن أناس عاديين لا يشعرون بفظاعة جرائمهم ومأساويتها، ويرونها أموراً اعتيادية. فالقائم بهذه الجرائم لا يعي مسؤوليته تجاه الإنسانية؛ بل ينفذ قرارات إدارية وبطاعة عمياء فقط، تختفي معها سلطة الإنسان على نفسه وتضمحل إرادته في تحمل المسؤولية تجاه العالم. تكمن التفاهة في استقالة عقل الإنسان وضميره عن تحمل المسؤولية بوعي؛ فالذين قاموا بالمجازر من جلاوزة السلطات الشمولية لم يكونوا سوى جزء صغير وتافه من ماكينة البيروقراطية التوتاليتارية التي حولتهم إلى كائنات لا معنى لها، وسدت عليهم كل سبل التحسس بإنسانيتهم. استنتجت أرندت، بما يخالف الفهم التقليدي للشر الذي يصوره الشر حقيقة جذرية وشيطانية، أن أيخمان لم يكن رجلاً سادياً ولا منحرفاً؛ ولكنه رجل عادي بشكل رهيب ومرعب.

هو لم يفهم ما كان يقوم به. لم يكن غبياً؛ بل لم يكن واعياً بما يفعله، وعدم وعيه هذا مكَّنه من أن يصبح أحد أهم المجرمين في عصره من دون أن يظهر أي إحساس بالذنب أو تأنيب الضمير لدوره في جرائم الإبادة. ارتكب أيخمان أعمالاً شريرة من دون نوايا خبيثة ومن دون أن يكون شريراً؛ بل كان أقرب إلى السطحي والجاهل. كان يتصرف كشخص اعتيادي وبيروقراطي مهووس بمهنته وينفذ مهامه من دون إدراك للأسباب والنتائج، إلى درجة أن صرَّح بأنه كان مستعداً لأن يرسل والده إلى الموت إن تلقى أمراً بذلك. بذلك لم نعد أمام شر جذري ذي منابع شيطانية ضاربة في الوجود الإنساني؛ بل أمام شرط إنساني يخلقه الناس لأنفسهم، يحولهم بكل بساطة إلى هامشيين ولا لزوم لهم، إلى أدوات وآلات تُقبل على فعلها باندفاع ورغبة من دون أن تعي ما تفعل، فالشر لا يُبحث عنه من زاوية الحقائق الجوهرانية للأشياء ولا في تجذره العميق داخل النفس، وإنما من زاوية التفاهة والهامشية المنتشرَين كالطفيليات على سطح الوجود الإنساني.

ما فعلته أرندت أنها أخرجت الشر من كونه حقيقة من حقائق العالم، أو مسبقة من مسبقات المعايير والقيم الأخلاقية الجاهزة، وسلبت عنه صفة التجذر والدافع الباطني العميق في الطبيعة الإنسانية، لتحوله إلى أثر ونتيجة لوقوع الإنسان في التفاهة والهامشية. هي رؤية تتقاطع مع دعوة نيتشه إلى النظر في ما وراء قيم الخير والشر، والبحث عن القوى التي تنتجها والأعطاب التي تحدثها في تدفقات الحياة واندفاعاتها، وتتلاقى نسبياً مع تحذير هايدغر من الوقوع في عالم الهم they-ness المنتج لكل أنماط الوجود المزيف. فمقاومة الشر عند أرندت تكون باستعادة الذات سيادتها على نفسها، وامتلاك زمام أمرها، وانتزاع قدرتها على التفكير النقدي، وهذا لا يكون إلا برؤية الأمور وأبعاد الحياة من خارج روتين ومجريات الحياة اليومية، التي يهدد الاستغراق فيها بغياب الوعي واضمحلال كل أشكال المسؤولية، بالتالي وقوع الإنسان في التفاهة والهامشية اللتين تشكلان البيئة الحاضنة والأداة الفعالة لشرور العالم الحديث.

مع حنة أرندت، لم يعد الشر فعلاً منافياً للأخلاق؛ بل هو نمط وجود متدن وطريقة حياة تافهة.

السابق
بوتين يستبيح الديموقراطية ويفرض انتخابات مزيّفة في الاراضي الاوكرانية المحتلة
التالي
بالتسلسل الزمني.. اليكم حصيلة أسبوع من التوترات في البحر الأحمر