مقالٌ يجب أنْ يُكتَب

كريم مروة

من مواليد حاريص، العام 1930، لكنّه على رغم ثقل السنين، كان يزور بدل أنْ يُزار، وكان يبادر قبل أنْ غيره يبادر، وكان يقترح غير منتظرٍ من سواه أنْ يقترح، وكان يلتقط الاقتراح على الطاير عندما سواه يقترح، وكان يستمع بقدر ما كان يُستمَع عليه.
وإذ كان يناقش كثيرًا، ويجادل كثيرًا، ويتكلّم كثيرًا، ويشرح كثيرًا، ويستفيض كثيرًا، ويستطرد كثيرًا، ويكتب كثيرًا، ويحاول كثيرًا حفر الجدران المسدودة بحثًا عن كوّة ضوء، ويستطلع كثيرًا الاحتمالات، وبلا يأس، حين تكون جملة الاحتمالات مقفلة ومستحيلة، فإنه كان – عندما تدعو الحاجة ولطالما كانت تدعو – يصيخ منصتًا أكثر منه متكلّمًا، كلّما رأى لزومًا وضرورةً، أو كلّما اكتشف رأيًا حصيفًا وموهبةً وبابًا ونوافذ.

اقرأ أيضاً: كريم مروة يروي سيرته.. بقلمه!

هذا كلّه، وغيره كثيرٌ كثير، علمًا أنّه تسعونيّ فما فوق، في حين غيره في المقتبل، أو مخضرمًا، أو حتّى في عمر الشباب.
لم يكن يستسلم، ولم يكن يعتكف، ولم يكن يركن إلى مراوحة، ولم يكن متزمّتًا، ولم يكن ضيّق الأفق، ولم يكن يتحفّظ عن الذهاب إلى حليفٍ، وأيضًا إلى خصمٍ لدود، فلا يتردّد، بل يقتحم، بتؤدةٍ وبحسابٍ حينًا، وحينًا بدون حساب.
لم يكن عجوزًا بل شيخ شباب، وقلائل مَن مثله يستولي بأريحيّة وترحاب على صحن الدار والجلسة والجلوس، حكواتيًّا من الطراز النادر، خزّان ذاكرةٍ وذكرياتٍ وثقافاتٍ ووقائعَ وأحداثٍ وحوادثَ؛ قدماه على الأرض، وتخطوان إلى الأمام، إلى المبادرة، ناظرًا إلى بعيد، وأحيانًا إلى حيث لا ينظر أحد، متجّنبًا الرمال المتحرّكة والفخاخ، عارفًا بالسواهي والدواهي، تحت الطاولة، ووراء الطاولة، مبتسمًا، ضاحكًا، ساخرًا، على ظرفٍ وحنكةٍ و”ملعنة”، منسلّاً على وعد الرجوع، وظافرًا بالخروج من مأزق، حين تدلهمّ الأحوال، كمثل شعرةٍ من عجين.

وكان شجاعًا، مقدامًا، قويّ الشكيمة، صعب المراس في عزّ أزمنة الترهيب والإرهاب والوصايات والاحتلالات، ملتقط إشارات، مستشرفًا التغيّرات والتبدّلات، صلبًا وليّنًا في الآن نفسه، وأحيانًا على طريقة زئبق.
وكان شيعيًّا عامليًّا بامتياز، ونجفيًّا بامتياز، وماركسيًّا لينينيًّا شيوعيًّا في زمن الشيوعيّة السوفياتيّة العالميّة بامتياز، وحزبيًّا بامتياز، و”خارجيًّا” بامتياز، وخارج التصنيف بامتياز.
وكان أيضًا لبنانيًّا وطنيًّا دولتيًّا بامتياز.

مريدوه وأحبابه كثرٌ ومن كلّ جهة. وأيضًا خصومه بل و”أعداؤه” كذلك. فهو، على رأي هؤلاء وأولئك، أصاب كثيرًا، وأخطأ كثيرًا، وخرج على الطريق. وكان، بسببٍ من ذلك، عرضةً للتشكيك والاتهام والتخوين، من حدبٍ وصوب، حينًا في حزبه، وحينًا من خارج الحزب. وخصوصًا، ولا سيّما مذ خروجه إلى “حرّيّته” الإيديولوجيّة والحزبيّة والفكريّة والثقافيّة والسياسيّة والمجتمعيّة.

اللبنانيّ الجنوبيّ كريم مروّة لم ينس يومًا أنّه مدنيٌّ أصيل، وعلمانيٌّ أصيل، وإنسانيٌّ أصيل، وشيعيٌّ أصيل، ولبنانيٌّ أصيل، وعربيٌّ عروبيٌّ أصيل (وفلسطينيٌّ أصيل)، ولم يكن في حاجةٍ يومًا، لإثبات ذلك، أنْ يطلب شهادةً من معمّمٍ أو حاكمٍ أو متجبّرٍ ومستقوٍ وديكتاتور، أو أنْ يكون مستظلًّا النظام الأمنيّ اللبنانيّ السوريّ، أو “الثنائيّ الشيعيّ”، لا في حركة “أمل” ولا في “حزب الله”.
كريم مروّة، أبا أحمد، اذهبْ بسلام.

السابق
حرب استخباراتية اسرائيلية لـ«إصطياد» كوادر «حزب الله»..واميركا «تُرشّق» العداون على غزة ولا توقفه!
التالي
تحصين النفوذ: إعادة التموضع الروسي في سورية عبر بوابة حرب غزة