فلسطين.. لن أدلّ الكلام عليها

،.. لن أدلّ الكلام عليها إذن
ففلسطينُ ، أبعدَ مما تشير الخرائط ،
أبعدَ من وهجها في الأساطير ،
مفْتتحٌ للولوجِ الى عالمٍ لم تُمسّ براءاتُهُ ،
والتفاتةُ شعبٍ من اللاجئين الى قدسهمْ رُكّعاً ،
وهْي جفْرُ الغياب المُوارى
وراء حقولِ الأسى ،
ومكانٌ لتنمو الجبالُ الصغيرةُ
والعشبُ والناسُ
جنباً لجنبٍ ،
وكيما نعود إليها إذا أزِفَ الوقتُ
كي نتّقي بالدموع مصاغاتِ غصاتها ،
ولنطفو ، ولو غَرَقاً ، فوق ماء بحيراتها ،
ولنكلأ جرحى جبينَ التراب المهيضِ
ونحرثه ميّتينَ ،
ولو بالجفونْ
فما من بلادٍ تحنّ الى سفْر تكوينها
في كتاب الوجود المقدسِ
إلا وتعني فلسطين ،
ما من حطامٍ لأندلسٍ
تمّ خسرانها في الزمانِ
وظلّ بريقُ مناراتها يتوغل ظمآنَ
في لجج الدم
إلا ويعني فلسطين ،
ما من حشاشةِ قلبٍ تبادَلَها عاشقان
على مذبح الوجْد ،
إلا وتعني فلسطينْ
ففلسطين ليست فقط قِبلةً
لانهماك الجمال بتأليف نُصبٍ له
من رخام العناءْ
ولا حجّةً لتبرّج أنشودةٍ بزؤان الصراخ
الملفّقِ في واجهات الغناءْ
ولا هي في عمقها محض جغرافيا
من هواءٍ وطينٍ وماءْ
ولكنها توْقنا للعروج المصفّى
الى سدّرةِ الروح في منتهاها الأشفّ ،
ورغبتنا للإصاخة ، حافين من كل صوتٍ ،
الى أنبل التمتمات
التي رفعتْها الحناجرُ فوق النعوشِ
لتبلغ أذْنَ السماءْ
وهْي ما يستعين به الوحيُ
كيما يعيد النفوسَ الى رشْدها
كلما نقص الحبّ في الأرضِ ،
أو أفرغَتْ من بهاء مزاميرها
جُعبُ الأنبياءْ
وهْي لو لم تكنْ لتوجّب تأثيثها
من سراب التمني ،
ومن حاجة الكائنات الى آيةٍ للظهورِ
ومن حاجة الأعوجاج الى الإستواءْ
لن أدلّ الكلام عليها إذن ،
وأنا من ولدتُ على بُعد خمس سواقٍ
وعشرين مذبحةً
من ثراها العليلْ
وأنا مَن رعتْهُ أغاني النساء
الطريةُ حدّ الدموعِ
بأصوات مَن واصلوا حفْرهمْ
بالأظافرِ تحت الترابِ
لكي يبلغوها
ومَن سقطوا دون أسمال صلصالها المرّ
جيلاً فجيلْ
وأنا من تحامت ذراها شتاءاتِهِ بالسيولِ ،
فلا قطرةٌ من مياهٍ جرتْ
في عروق الجنوب النحيلةِ
إلا وقد رفدتْها بأشهى الغيوم اخضراراً
جبالُ الجليلْ
فهنا حيث يغدو الجنوب شمالاً
لما خزّنته فلسطين من عائدات الأغاني ،
ويغدو الشمال جنوباً
لمن أشعلوا النار فوق التلالِ
لكي يهتدي الشهداءُ بعنقائهم
وهْي تخطو الى الضوءِ
ناهضةً من رماد العصورْ
تتلاقى عظامُ الضحايا على طرفيّ الحدودِ ،
وتُسندُ ظَهرَ القبورِ القبورْ
هنا ليس يُطلقُ نسرٌ جناحيهِ
فوق روابي ” كفَرْ برعمَ ” المستعارةِ
من حاجب الشمسِ
إلا ويترك ظلاً له
في أخاديد سهل ” الخيامِ” ،
وما من قصيدةِ شعرٍ
تعهّدَ مطلعها بحرُ حيفا
بموج البداهةِ
إلا وأكْمَلَها بحرُ صورْ
لن أدلً الكلام عليها إذن
غير أني سأرفو بإبرة آلامها
ما تناثر من لغتي
فوق رمل سواحلها المستباحْ
ربما لن يِقدّر لي لثمُ تلك البيوت
المواراة جدرانها خلف أسلاك
برق أريحا اليتيم ،
ولن أستطيع ولو مرةً ان أشذّب رمانها
من لحاء اليباس ،
وزيتونها من سموم التخلّي ،
وقد لا أشاطر أقمارها الإنعقاد
على جدولٍ من مياهٍ قراحْ
ولكنني ، يا تراباً وهبناه أنبل أبنائنا
والتحفنا بأثدائه رضّعاً،
وبأشواكه صبْيةًً،
وبأثلامه عجًزاً ،
سوف أضفر صوتي بأعتى الرياحْ
لأسألك الآن :
كم من مسيح علينا انتشال انتظاراته
من سفوح القيامةِ؟
كم من غروبٍ ذبيحٍ
علينا اختراع احمرارٍ لحنّائه؟
كم حداداً علينا تلقًفه بالسواد ،
وكم نجمةً يتوجب أن تمًّحي
كي يطلّ الصباحْ
وهل ثَمّ من مطهرٍ للعبور إلى مهدك الأمّ
لم نمتحنه بأكبادنا؟
أو سراديب لم نغشَ أنفاقها بالأظافرِ؟
أو ثلّة من شقائقَ
لم نلتفت نحوها بالجراحْ
وكم من شموعٍ سنوقدُ؟
كم من شهيدٍ سيسقط؟
كم من ربيعٍ سيوأد حياً؟
لكي يخرج الله عن صمته ،
بعد أن نفخ الروح فيها ،
وأعلنها قبلةً ومصلّى
وأيقونةً للرؤى ،
ثم أسلمها لمخالب أعدائها ..
واستراحْ

السابق
طيران استطلاعي إسرائيلي فوق قرى القطاع الغربي صباحاً وليل متوتر بعد توسيع رقعة القصف
التالي
الموت يخطف ضحكة الممثل اللبناني بطرس فرح!