الفصائل المسلحة العراقية وحرب غزّة: الرسائل والاحتمالات

الفصائل المسلحة العراقية

أظهرت الفصائل المسلحة الموالية لإيران في العراق، ردود فعل متباينة من الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة. ففي الوقت الذي دعمت جميع بيانات الفصائل المسلحة العملية العسكرية التي شنتها حركة حماس ضد إسرائيل في 7 أكتوبر الجاري، فإنها أبدت تفاوتاً واضحاً في طبيعة موقفها من هذه الحرب، بين مُترقِّب، وداعمٍ للانخراط فيها، سواءً عبر توسيع ميدان المواجهة مع إسرائيل، أو ربط المشاركة بدخول الولايات المتحدة فيها. وعلى خلفية استمرار الهجوم الإسرائيلي على غزة، شهدت الأيام الأخيرة سلسلة من الهجمات المحدودة بالمسيرات وصواريخ الكاتيوشا، استهدفت مواقع لانتشار القوات الأمريكية في العراق وسورية، تبّنتها الفصائل العراقية المسلحة المتحالفة مع الحرس الثوري الإيراني. 

وكما هو واضح، فقد تأثَّر موقف الفصائل المسلحة العراقية من حرب غزة بطبيعة الموقف الإيراني من هذه الحرب حتى الآن. ففي وقت تبحث الدبلوماسية الإيرانية عن حل سياسي لهذه الأزمة، يواصل الحرس الثوري التحشيد ضد إسرائيل والولايات المتحدة، إعلامياً وعسكرياً، وهو ما جعل موقف الفصائل المسلحة العراقية، وباقي أطراف “محور المقاومة”، مرتبطاً بمتغيرات الموقف الإيراني في المرحلة المقبلة.

تطور استجابة الفصائل العراقية المسلحة للحرب في غزة  

مع بدء الحرب في غزة، انخرطت الفصائل المسلحة العراقية في حراك سياسي وإعلامي واسع، للتعبير عن موقفها من هذه الحرب، وهي مواقف جاءت جزءاً من حرب إعلامية شنَّتها أطراف “محور المقاومة” ، عبر  بيانات عدة صدرت من قيادات “الحرس الثوري” و”حزب الله اللبناني” و”الحوثيين” في اليمن، والتي توعدت إسرائيل بمزيد من التصعيد. ومع أن الفصائل المسلحة العراقية أعربت منذ البداية عن دعمها العام لحركة حماس، إلاّ أن بياناتها أصبحت أكثر تشدداً في أعقاب تصاعد مظاهر الدعم العسكري والسياسي الأمريكي لإسرائيل. إذ قال الأمين العام لكتائب “حزب الله” في العراق، أبو حسين الحميداوي، “إن هجوم حماس سوف يمهد الطريق لتحقيق استراتيجية ردع ضد المحور الصهيوني الأمريكي”. في حين قال أمين عام “عصائب أهل الحق”، قيس الخزعلي، إن جماعته تراقب الأحداث “مستعدين غير متفرجين”. 

ولم تُخفِ الفصائل العراقية سعادتها بالهجوم الذي نفذته حركة حماس، وأظهرت احتفاءً بهذا الهجوم في منابرها على وسائل التواصل الاجتماعي. وأجرى بعض قادة الفصائل اتصالات مع قادة “حماس” لإظهار الدعم لها في هذه المواجهة، حيث تحدث رئيس “حركة النجباء” المعروف بتشدده، أكرم الكعبي، مع إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، وكذلك فعل قيس الخزعلي، رئيس تنظيم “عصائب أهل الحق”، أحد الأطراف الرئيسة المنخرطة في حكومة محمد شياع السوداني.

اقرأ أيضاً: هل «ينتصر» محور «الممانعة» لدماء «حماس»؟!

وبعد أن بدأت التحضيرات الإسرائيلية للهجوم على غزة، أصدر بعض هذه الفصائل تحذيرات بأنها سوف تتدخل في الصراع إذا تدخلت الولايات المتحدة فيه بشكل مباشر دعماً لإسرائيل. فقد حذَّر أبو آلاء الولائي، الأمين العام لـ”كتائب سيد الشهداء”، من أن أي تدخل أمريكي مباشر في غزة لدعم إسرائيل “سيحول الوجود الأمريكي برمته في المنطقة إلى أهداف مشروعة لمحور المقاومة”. وبدوره حذَّر هادي العامري، رئيس “منظمة بدر”، من أنَّه “إذا تدخلوا، فسوف نتدخل… وسنعتبر جميع الأهداف الأمريكية مشروعة”. وأشار أكرم الكعبي إلى أن أي تدخل من قبل الولايات المتحدة أو دول أخرى لدعم إسرائيل سوف يُقابَل بـ “رد عسكري حاسم”، وأضاف الكعبي أنه إذا وسّعت إسرائيل “ساحة المعركة”، فإنها ستقابل بـ”مُسيَّرات المقاومة وصواريخها”.

وقد أثار هذا الموقف تكهنات حول معنى “التدخل الأمريكي المباشر”، بينما عدَّهُ البعض محاولة من الفصائل لاختلاق عذر لعدم التدخل في هذه المرحلة. غير أنّ الإشارة بشكل خاص إلى الدور الأمريكي يعني أنّ هذه الفصائل ستركز جهدها في الساحة العراقية على مواجهة القوات الأمريكية هناك، وفي إطار جهد محتمل لتوسيع الجبهات وعدم قصرها على الساحتين الفلسطينية واللبنانية. 

ومع انطلاق عمليات القصف الإسرائيلي لغزة، شعرت أطراف “محور المقاومة” بمزيد من الضغط لاتخاذ مواقف أكثر وضوحاً، بينما رأى بعض الفصائل المسلحة في ذلك فرصة لإعادة تشكيل قواعد الاشتباك مع القوات الأمريكية في العراق بعد هدنة استمرت أكثر من عام إثر تشكيل حكومة السوداني. وبينما تبنّى زعيم “التيار الصدري” مقتدى الصدر خطاباً تعبوياً في دعم غزة، وعمل على تحشيد جمهوره للتظاهر في الساحات العراقية أو الاعتصام عند الحدود الأردنية-العراقية، حاولت الفصائل أن توظف الجو العام الذي خلقته هذه الظروف للتمهيد للخطوة التالية، في إطار التنافس المعتاد بينها وبين التيار الصدري حول سردية المقاومة. 

لكن هناك عامل أساسي تحكَّم بسلوك الفصائل، وهو ارتباطها بـ “محور المقاومة” الإقليمي الذي يقوده فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، والحاجة لتنسيق المواقف مع بقية أطراف هذا المحور، وعدم الخضوع حصراً للحسابات العراقية الداخلية. وكانت تقارير صحفية قد أشارت إلى زيارة قائد فيلق القدس، إسماعيل قاآني، إلى بغداد، واجتماعه بالمسؤولين العراقيين وقادة الفصائل يوم 16 أكتوبر، حيث جرى شرح الموقف الإيراني وحثّ الفصائل على الاستعداد لاحتمالات الدخول في النزاع في الوقت المناسب.

وأشار تقرير نشره موقع “راديو فردا” الإيراني، إلى إن اجتماعاً عقد في بغداد يوم 8 أكتوبر، أي بعد يوم من الهجوم الذي شنته حركة حماس على إسرائيل، وحضر هذا الاجتماع مسؤولون إيرانيون، ورؤساء بعض الفصائل العراقية التي تدعمها طهران. وبحسب التقرير، كان السفير الإيراني في العراق، محمد كاظم آل صادق، ونائب قائد قوة القدس محمد رضا فلاح زاده، حاضرين [في الاجتماع]. وعلى الجانب العراقي، حضر الاجتماع رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي، وقادة عدد من الفصائل المسلحة الموالية لإيران، بما في ذلك جماعة “كتائب حزب الله، وحركة النجباء، وعصائب أهل الحق”، ودعا المسؤولون الإيرانيون في الاجتماع إلى تكثيف الدعاية الإعلامية في العراق ضد إسرائيل ودعماً “لحماس”، فضلاً عن إنشاء مركز لتسجيل المتطوعين للحرب ضد إسرائيل في المرحلة الثانية، إلى جانب الاستعداد العسكري، مع ضرورة الحرص على عدم اتخاذ أي إجراء “حتى إعطاء الأمر”. وكذلك إعداد الطريق المؤدي إلى الحدود السورية من محافظة الأنبار بشكل سري، لأي تنقل محتمل.

وقد اتجهت استعدادات الفصائل في إطار استراتيجية المحور إلى العمل على خطين:

الأول، التمهيد لاحتمال فتح الجبهة السورية عبر إعادة الانتشار، وكذلك المشاركة في إيصال الأسلحة والإمدادات إلى حزب الله عبر سورية. وقد أشارت عدة تقارير غير مؤكدة إلى وصول عناصر من الفصائل المسلحة العراقية إلى سورية ولبنان، حيث جرى نشرهم على الحدود الجنوبية الغربية السورية، إلى جانب عناصر من فرقة فاطميون الأفغانية وفرقة زينبيون الباكستانية. ووفقاً لمصادر مفتوحة، كان قائد قوة القدس إسماعيل قاآني، موجوداً في سورية لتنسيق بعض عمليات الانتشار هذه اعتباراً من 15 أكتوبر، كما أُعيد نشر بعض عناصر الفصائل المسلحة العراقية الموجودين في سورية من منطقة الميادين إلى العاصمة دمشق، كجزء من عملية إعادة تموضع في جميع أنحاء سورية باتجاه الحدود الجنوبية الغربية. 

دفعت هذه التطورات الجيش الإسرائيلي إلى شن غارات جوية على مطاري دمشق وحلب الدوليين، لتعطيل التحركات العسكرية الإيرانية. كما تسعى الفصائل إلى مشاغلة القوات الأمريكية في سورية عند الضرورة كما تجلى في استهداف مواقع للقوات الأمريكية بالقرب من معمل للغاز الطبيعي في دير الزور السورية يوم 19 أكتوبر. وترشّحت أنباء غير مؤكدة عن نشر صواريخ إيرانية بعيدة المدى في غرب العراق لاستخدامها لضرب إسرائيل في حالة اندلاع الحرب بين البلدين. 

جدول يوضح مناطق انتشار الفصائل المسلحة العراقية في سورية

مالفصيلالمرجعيةالقياديمناطق الانتشار
1كتائب حزب اللهعلي خامنئيأحمد الحميداويدير الزور، حلب وريفها، منطقة القصير، ريف حمص، ريف أدلب، درعا، جنوب دمشق
2عصائب أهل الحقعلي خامنئيقيس الخزعليالسيدة زينب، طريق مطار دمشق، الغوطة الشرقية بريف دمشق، القلمون، حلب
3حركة حزب الله – النجباءعلي خامنئيأكرم الكعبيريف حلب الجنوبي، دمشق في مناطق حي جوبر، النشابية، مطار النيرب، طريق حرستا، القنيطرة
4كتائب الإمام عليعلي خامنئيشبل الزيديريف دمشق، ريف حلب، درعا، القنيطرة
5كتائب سيد الشهداءعلي خامنئيأبو آلاء الولائيالغوطة الشرقية بريف دمشق
6لواء أبو الفضل العباسعلي خامنئيهيثم الدراجيالسيدة زينب في دمشق، والنبل والزهراء في حلب
7لواء أسد الله الغالبعلي خامنئيأبو فاطمة الموسويدمشق وريفها، وتحديداً في الغوطة الشرقية
8حركة الإبدالعلي خامنئيجعفر الموسويألبو كمال، ودير الزور
9فيلق الوعد الصادقعلي خامنئيمحمد التميميدمشق، وحلب، ومناطق كفريا والفوعا
10قوات الشهيد محمد باقر الصدر “منظمة بدر”علي خامنئيهادي العامريالغوطة الشرقية بريف دمشق

الثاني، انهاء الهدنة مع القوات الأمريكية والضغط على حكومة السوداني لإعادة طرح ملف الوجود العسكري الأمريكي في العراق، إعلامياً على الأقل. وقد بدأ هذا الجهد ببيان لرئيس الوزراء الأسبق، عادل عبد المهدي، المقرب من الفصائل، يدعو فيه إلى التطبيق الفوري لقرار مجلس النواب العراقي بانسحاب القوات الأمريكية وقوات حلف الناتو من العراق. 

وعلى رغم التحذيرات والتحركات الإيرانية، فإنه لا يُتوقَّع أن تنخرط إيران بشكل مباشر في هذه الحرب، ومن المرجح أن تقدم إيران الدعم المادي والمالي لوكلائها لمحاربة إسرائيل، بدلاً من التورط بشكل مباشر فيها، خصوصاً في ظل الدعم الدولي التي تحظى به إسرائيل، إلى جانب عدم وجود مظلة دولية داعمة لها؛ فمن شأن التدخل الإيراني المباشر أن يؤدي إلى التصعيد مع الولايات المتحدة، وهو سيناريو حذرت منه الإدارة الأمريكية مؤخراً عبر رسالة سُلِّمت لممثل طهران بالأمم المتحدة، مفادها أن دخول إيران المباشر بالمواجهة سيُقابل بتحرك عسكري أمريكي مباشر.

تشكيل واجهة جديدة للمواجهة 

بدأت عمليات الفصائل ضد مواقع وجود القوات الأمريكية في 17 أكتوبر، في سياق الغضب العام إثر قصف المستشفى الأهلي المعمداني في غزة، وفي سياق تعاطف شعبي واسع مع الموقف الفلسطيني في العراق والمنطقة. ففي ذلك اليوم نشر أكرم الكعبي تغريدة ضمَّنها الآية القرآنية “يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أنّ الله مع المتقين”، وفُهِمَ منها أن فصيل “النجباء” يتهيأ للقيام بعمل عسكري. وفي ذلك اليوم حصل هجومين بالطائرات المسيرة على قاعدتي عين الأسد في محافظة الأنبار، وحرير في محافظة أربيل في إقليم كردستان. وقد أعلن تشكيل وهمي اسمه “الوارثون” يُعتقد أنه غطاء اعلامي لحركة “النجباء” مسؤوليته عن الهجوم على قاعدة حرير في بيان أصدره على التلغرام. ويؤكد ذلك أن “النجباء” كانت الفصيل المبادر بإطلاق الهجمات ضد القوات الأمريكية، وهو ما ينسجم مع حقيقة أن هذا الفصيل يتبنى في العموم موقفاً متشدداً من هذه القوات، وهو لا يُعد من الفصائل المنخرطة بالعمل السياسي، وسبق أن عبّر عن تحفظه على الهدنة مع القوات الأمريكية التي عملت حكومة السوداني على التوصل إليها. 

لكن يبدو أنّ محاولة “النجباء” الانفراد بالمبادرة العسكرية لم يكن ملائماً لاستراتيجية “محور المقاومة” الهادفة لإظهار أكبر قدر من الوحدة وعدم الدخول في تنافسات بينية قد تُضر بالجهد العسكري والإعلامي له. ولذلك، أعلن عن تشكيل جديد باسم “المقاومة الإسلامية في العراق”، ليكون واجهة لجميع الفصائل وليس فصيلاً واحداً، وتبنَّى هذا الفصيل معظم الهجمات التي حصلت ضد مواقع القوات الأمريكية، بما في ذلك الهجوم الذي طال قاعدة حرير، وقد سحب تشكيل “الوارثون” بيانه بهذا الشأن من منصة التلغرام، الأمر الذي عكس إذعانه للترتيب الجديد. ويحقق اختيار هذه التسمية، “المقاومة الإسلامية”، هدفين: الأول، إظهار الفصائل المسلحة العراقية الموالية لإيران في صورة تشكيل جديد ليس له وجود على الأرض، وهذا الأمر يساعد بالتالي في انكار مسؤولية أي من تلك الفصائل عن هذه الهجمات. والهدف الثاني، أنّه اسم جامع يتجاوز الرمزية الشيعية الضيقة ليعكس الوحدة العابرة للطوائف التي يحتاج أن يُظهرها “محور المقاومة”، وهو ما ينسجم أيضاً مع محاولة “حزب الله” اللبناني تصدير جماعات سُنيَّة في جبهة المناوشات مع إسرائيل. 

وحتى كتابة هذه السطور، أعلنت “المقاومة الإسلامية في العراق” عن ثمان هجمات بالطائرات المسيرة وصواريخ الكاتيوشا، تركزت على قاعدتي عين الأسد وحرير، وهجوم واحد على قاعدة التنف في دير الزور، ولم تعلن مسؤوليتها عن هجوم طال مطار بغداد. وقد أعلنت القيادة العسكرية الأمريكية اعتراض معظم الطائرات المسيرة، إلّا أنّ هناك تقارير عن إصابات محدود في الهجوم الذي استهدف قاعدة التنف. وقد نفى الجانب الأمريكي التقارير التي أشارت إلى مقتل منتسب أو متعاقد في أحد الهجمات التي استهدفت “عين الأسد”.

ومع تواتر الهجمات، أعلنت الولايات المتحدة عن سحب أعضاء الكادر الدبلوماسي غير المخصص للحالات الطارئة وأفراد عوائلهم من سفارتها في بغداد وقنصليتها في أربيل. كما لوحظ غياب النشاطات العامة للسفيرة الأمريكية في العراق، ألينا رومانوسكي. وفي ذات الوقت أعلنت الولايات المتحدة عن تعزيز وجودها العسكري في المنطقة، وهدد وزير دفاعها بالتحرك في حالة استمرار الهجمات.

وبعد أيام من الصمت، صدر عن الناطق الرسمي للقائد العام للقوات المسلحة ورئيس الوزراء بيان يرفض “الهجمات التي تستهدف القواعد العراقية، والتي تضمّ مقرات مستشاري التحالف الدولي الموجودين في العراق، بدعوة رسمية من قبل الحكومة”. وعبّر هذا البيان بوضوح عن الإحراج الذي تواجهه حكومة السوداني في مواجهة الضغط من قبل حلفائها المقربين من إيران، من جهة، ومن قبل الجانب الأمريكي من جهة أخرى. 

تداعيات المواجهة 

حتى الآن، لا يزال التصعيد العسكري من قبل الفصائل العراقية يجري ضمن قواعد للاشتباك يتم التسامح معها لأنّها لم تتسبب بخسائر مهمة لدى الجانب الأمريكي. كما أنّ هذا التصعيد لا يبدو أنَّه فاجأ الأمريكيين الذين وضعوا في حساباتهم تحرك الفصائل العراقية، وبالتالي قاموا على الأرجح بالاحترازات الكافية لتجنُّب وقوع خسائر كبيرة. الملاحظ هنا أنّ إدارة بايدن تجنَّبت حتى الآن إصدار موقف قوي تجاه هذه الهجمات، وخلافاً لإدارة ترامب التي سبق أن هددت بتحميل إيران مسؤولية الهجمات التي تقوم بها الفصائل العراقية، لم يصدر تهديد مشابه من إدارة بايدن. وما زالت الاستراتيجية الأمريكية قائمة على منع توسع نطاق الحرب خارج قطاع غزة بالاعتماد على تعزيز قوة الردع التي نشرتها الولايات المتحدة في المنطقة، من جهة، والاحتراز وضبط النفس تجاه التهديدات التي تتعرض لها قواتها وطواقمها الدبلوماسية، من جهة أخرى. 

كانت النتيجة الأساسية لتصعيد الفصائل الأخير إنهاء الهدنة غير المعلنة بينها وبين الجانب الأمريكي، وبالتالي وضع حكومة السوداني في موضع صعب، خصوصاً محاولاتها تطوير العلاقات مع الولايات المتحدة التي تكللت بتسلُّم السوداني دعوة لزيارة البيت الأبيض على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة التي انعقدت الشهر الماضي. ويبدو حتى الآن، أنّ الولايات المتحدة تتفهم الضغط الذي يواجهه السوداني في سياق التوتر الحالي، والسخط الشعبي العام في العراق والمنطقة الذي يضع الحكومات في موضع الحرج، وتأثير المزايدات بين الصدريين والفصائل “الولائية” في مقاربة الموضوع الفلسطيني. ولذلك، قد تُظهر واشنطن تسامحاً مع هذا المستوى من التصعيد وتتجنب في هذه المرحلة تكثيف الضغط على السوداني، لأنّ مثل هذا الضغط قد يأتي بنتائج عكسية وربما يدفع الأخير إلى الاصطفاف أكثر مع المحور الذي تقوده ايران (ويلاحظ هنا أن السوداني زار مؤخراً روسيا وعقد مباحثات مع الرئيس فلاديمير بوتين)، وقد تكون أحد نتائج ذلك توجيهه طلباً رسمياً بإنهاء كل أشكال الوجود العسكري الأمريكي في العراق، وهو ما سيمثل إحراجاً للموقف الأمريكي الذي يتشبث بأنّ وجوده العسكري في العراق يستند إلى دعوة الحكومة العراقية. 

لكن في حالة اندفاع الفصائل باتجاه المزيد من التصعيد، وربما إيقاعها خسائر مهمة في صفوف القوات الأمريكية في العراق أو سورية، فإنّ الموقف الأمريكي قد يتغير. فقد تُقدِم واشنطن على توجيه ضربة عسكرية لمواقع الفصائل الضالعة في التصعيد، والتي يُستخدم بعضها مواقعاً للحشد الشعبي الذي يُعد مؤسسة حكومية عراقية. وإذا حصل هذا الأمر، فإنّه سيمثل ضغطاً كبيراً على حكومة السوداني، بشكل يجعل من الصعب عليها مواصلة إمساك العصا من المنتصف، أو يسحب منها ورقة مهمة هي ورقة ضبط الفصائل، وهو ما سيؤثر في الوزن السياسي للسوداني ويحد من فرصه لتجديد ولايته مستقبلاً. 

وعلى المدى الأبعد، قد تتجه الولايات المتحدة إلى إعادة دراسة جدوى وجودها العسكري في العراق، وقد تلجأ إمّا إلى تخفيض عديد قواتها هناك، او إعادة نشرها في مناطق أكثر أمناً (مثل إقليم كردستان)، وهو أمر إن حصل، سيترافق مع موقف متشدد سياسياً تجاه بغداد وربما تحسين للعلاقات مع أربيل. 

كما أنّ لدى الولايات المتحدة ورقة أساسية إضافية هي ورقة الاقتصاد. ففي ظل التحدي الذي تواجهه حكومة السوداني نتيجة استمرار ارتفاع أسعار الدولار في السوق العراقية، سيؤدي تشديد واشنطن الإجراءات المتعلقة بنقل الدولار وتحويله إلى العراق إلى تعميق هذه الأزمة، وبشكل يهدد محاولات السوداني تحقيق الاستقرار الاقتصادي وجذب الاستثمارات إلى البلاد. 

في المقابل،عكس استخدام الفصائل العراقية لطائرات مسيرة وصواريخ ذات قدرة تدميرية محدودة، وتجنُّبها استهداف السفارة الأمريكية كما كان يحصل في السابق، محاولة “محور المقاومة” ضبط تصعيده الحالي وتوظيفه عامل ضغط على السياسة الأمريكية بدلاً من تحويله إلى مواجهة مفتوحة. وبالتالي، فان الخطوات المقبلة تعتمد إلى حدٍّ كبيرٍ على مسار الأحداث في غزة وتطور العمليات العسكرية الإسرائيلية. ففي حالة الاجتياح البري لغزة، وتوصل “محور المقاومة” إلى استنتاج بأنّ “حماس” تتعرض لخطر وجودي، أو في حالة اندلاع المواجهة الشاملة بين إسرائيل و”حزب الله”، من المرجح أن تُصعِّد الفصائل عملها العسكري ضد الوجود الأمريكي في العراق. وفي هذه الحالة، قد تلجأ الفصائل إلى استخدام قوة تدميرية أكبر وتوسيع بنك الأهداف الخاصة بها. كما سيجري تسليط ضغط أكبر على حكومة السوداني من أجل العمل على إنهاء الوجود العسكري الأمريكي في العراق. ومثل هذا الضغط ربما يتسبب بإنهاء حالة التوافق داخل “الإطار التنسيقي” الداعم لحكومة السوداني، وقد يُجبِر السوداني على الصدام ببعض الفصائل الأكثر تشدداً، وهو أمر لا ترغب به فصائل أخرى وجدت في حكومة السوداني غطاءً مناسباً لتعزيز وجودها وتنمية مصالحها. 

ومما لا شك فيه إن أي تصعيد إضافي ستتخذه الفصائل المسلحة العراقية من الحرب الدائرة في غزة، ستكون له تداعيات كبيرة على وضعها في الداخل العراقي، وفي البيئتين الإقليمية والدولية، وذلك على النحو الآتي:

أ. على الصعيد الداخلي 

  • من المتوقع أن يكون لقرار مشاركة الفصائل في الحرب تكاليف استراتيجية خطرة ، خصوصاً على وضعها في الداخل العراقي؛ فهناك واقع سياسي وأمني واقتصادي جديد في العراق،  تبدو الفصائل المسلحة مرتاحة له، وتعمل على إدامته. ومشاركة الفصائل في توسيع دائرة الصراع القائم بين إسرائيل وحماس قد تُعرِّض هذا الوضع للانهيار، خصوصاً أن هناك تحذيرات أمريكية واضحة في هذا الإطار، فضلاً عن سوء تقدير رد الفعل الإسرائيلي، وإمكانية نقل الحرب إلى داخل العراق، وما يمكن أن يؤديه ذلك من تداعيات كبيرة على مستقبل حكومة السوداني.
  • إمكانية لجوء الولايات المتحدة لتشديد العقوبات الاقتصادية والمالية على العراق، عبر حظر المزيد من البنوك العراقية المرتبطة بالفصائل، من أجل تحييد إمكانية وصولها للدولار الأمريكي.
  • وبالحديث عن الردود الأمريكية، قد تؤدي أي مشاركة للفصائل المسلحة في الحرب، إلى إعادة النظر في طبيعة الاتفاقية الأمنية التي تربط العراق بالولايات المتحدة، فضلاً عن إعادة النظر بدور التحالف الدولي “العزم الصلب” في العراق، سواءً على مستوى الإستشارة أو التدريب، أو حتى العمليات العسكرية ضد تنظيم “داعش”.

ب. على الصعيد الإقليمي

  • إن انخراط الفصائل المسلحة العراقية في صراع إقليمي واسع النطاق، ضمن مبدأ “وحدة الساحات” الذي يحكم استراتيجية “محور المقاومة”، قد ينعكس سلباً على الوضع الأمني لدول الجوار العراقي، وتحديداً بلدان الخليج، التي ستتأثر بتداعيات توسُّع رقعة الصراع بين الولايات المتحدة ومحور إيران الإقليمي، على نحو مباشر وغير مباشر.
  • قد يؤدي إضفاء الطابع الإقليمي على الحرب إلى عواقب كارثية قد لا تطال مصالح شركاء الولايات المتحدة فقط، بل تُهدد بإمكانية نقل دائرة الصراع من غزة لمسارح أخرى، قد يكون للفصائل المسلحة العراقية دور مؤثر فيها. وما يدلل على خطورة هذا الأمر، ما يُقال عن أن دبلوماسيين عراقيين نقلوا إلى إيران “رسائل” من دول إقليمية، تضمنت أسئلة حول موقف طهران من “قواعد الاشتباك في المنطقة”، وكيف “ستتعامل مع حلفائها في حال بدأوا بالفعل شن هجمات على مصالح غربية؟”، كما تضمنت الرسائل استفهاماً حول مصير التفاهمات التي أبرمتها إيران مع دول عربية حول الالتزام بالحد الأدنى من التهدئة الإقليمية.
  • إن أي دور قد تمارسه الفصائل المسلحة العراقية في هذه الحرب، قد يدفع العديد من الدول العربية إلى إعادة تقييم مواقفها من حكومة محمد شياع السوداني، وذلك لما يمكن أن يؤديه لجوء الفصائل المسلحة العراقية للخيار العسكري، من عرقلة لمسار الحلول السياسية الذي تراهن عليه الدبلوماسية العربية.
  • إن التأثير الأهم الذي قد ينعكس سلباً على مشاركة الفصائل المسلحة العراقية في الحرب الراهنة، هو ذلك المتصل بمدى تأثر إمدادات الطاقة وأسعار النفط بواقع توسُّع رقعة الصراع في المنطقة. كما أن “مشروع طريق التنمية” الذي تطمح تركيا لإقامته مع العراق، سيواجه تحديات أمنية أكبر تُعرقل تطبيقه على أرض الواقع، في المدى القريب على الأقل.

ج. على الصعيد الدولي

  • أدى الدعم الدولي الذي حظيت به إسرائيل دوراً مهماً في تشكيل موقف إيران وحلفائها من الحرب في غزة، ومن ثم فإن انخراط الفصائل المسلحة العراقية في هذه الحرب، قد يُعيد تشكيل الموقف الدولي منها أيضاً، وعلى نحو أكثر تطرفاً.
  • حاول بعض قيادات الفصائل المسلحة العراقية، خلال الفترة الماضية، إعادة تسويق صورتها على الصعيد الدولي، وتحديداً عبر العلاقات الجيدة التي ربطت بعض قيادات “الإطار التنسيقي” مع السفيرة الأمريكية في العراق، ومن ثم فإن المشاركة في الحرب قد تُنهي هذه الجهود، عبر وضعهم ضمن إطار التصنيف “الإرهابي” الذي وجدت حركة حماس نفسها فيه بعد الهجوم على إسرائيل، وهو  ما قد يُسهِّل على الولايات المتحدة وإسرائيل إمكانية حشد الإجماع الدولي ضدها.
  • إن انخراط الفصائل المسلحة العراقية في هذه الحرب قد يدفع المجتمع الدولي لإعادة تقييم وضع العراق، على الأصعدة السياسية والأمنية والاقتصادية، وما قد ينتجه هذا الواقع من عزلة سياسية محتملة يتعين على العراق مواجهتها مستقبلاً.

السيناريوهات 

أولاً، سيناريو استمرار الاشتباك المحدود بين الفصائل والقوات الأمريكية في المنطقة. بموجب هذا السيناريو، لن يخرج الطرفان عن قواعد الاشتباك المتسامَح معها، ويكتفيان بمواجهة محدودة هدفها رفع الحرج عن الفصائل فيما يتعلق بموقفها من أحداث غزة، والضغط سياسياً على واشنطن لتحسين موقفها من الصراع. وهذا السيناريو سيكون مرجحاً في حالة عدم حصول تطورات خطيرة في جبهتي غزة ولبنان، تدفع “محور المقاومة” إلى الاستنتاج بأنّ “حماس” تتعرض لتهديدٍ وجودي. 

ثانياً، سيناريو التصعيد. وبموجبه ستلجأ الفصائل إلى توسيع هجماتها على القوات الأمريكية كماً ونوعاً، في محاولة للتسبب بخسائر جدية في صفوف الأمريكيين، وبشكل يضرب حالة الاستقرار النسبي في العراق ويدفع الجانب الأمريكي إلى ردود فعل انتقامية. ومثل هذا السيناريو، سيُجبر حكومة السوداني على اتخاذ موقف أكثر وضوحاً، وربما يتسبب في انهيارها بسبب تفكك التحالف الشيعي الداعم لها. هذا السيناريو وارد بشكلٍ خاص في حالة دخول “حزب الله” الحرب، وبالتالي توسيع رقعة الصراع واستدراج كل أطراف “محور المقاومة” إليه. 

ثالثاً، سيناريو العودة إلى التهدئة، وهو وارد في حال توصَّل الأمريكيون والإيرانيون إلى اتفاق بعدم توسيع جبهات المواجهة، غالباً مقابل تعهد أمريكي بضبط السلوك الإسرائيلي. وستدعم حكومة السوداني مثل هذا السيناريو لأنّه سيجنِّبها تحدي الاختيار بين واشنطن وطهران، وكذلك الآثار السياسية والأمنية والاقتصادية لتوسع النزاع العسكري. 

الاستنتاجات

إن استراتيجية الفصائل المسلحة العراقية تعد جزءاً من استراتيجية “محور المقاومة” الذي تقوده إيران في المنطقة، ومن ثمّ فإن موقع هذه الفصائل وتأثيرها في مجريات حرب غزة، سيكون محكوماً بالأساس بموقف إيران من هذه الحرب، فضلاً عن موقف باقي أطراف “محور المقاومة”. وعلى رغم التكاليف الاستراتيجية العالية التي ستنتج عن مشاركة الفصائل المسلحة العراقية في هذه الحرب، فإنها تجد نفسها محكومة بسياق إقليمي هي جزء منه، انطلاقاً من مبدأ “وحدة المصير” الذي يربطها بإيران وباقي أطراف “محور المقاومة”، وهو ما سيجعلها أمام حسابات معقدة، في كيفية التوفيق بين مصالحها الداخلية ومصالح إيران من هذه الحرب.

ومع عدم وجود قرار إيراني وفصائلي عراقي واضح بالانخراط في المواجهة الدائرة بين إسرائيل وحركة حماس في قطاع غزة، ونظراً لفاعلية استراتيجية “الردع المرن” في تشتيت الجهد الأمريكي الداعم لإسرائيل، فإن العودة إلى استراتيجية “فصائل الظل” أو “خلايا الكاتيوشا” قد تُمثِّل وسيلة فعّالة على المدى القريب، وذلك عبر تنفيذ هجمات سهلة الإنكار على المقرات الأمريكية في العراق، أو على الحدود العراقية السورية. وبالنسبة لإيران فإن القيمة الاستراتيجية للفصائل المسلحة العراقية تكمن في قدرتها على ممارسة الضغط على الولايات المتحدة، بهدف إجبار واشنطن على احتواء تصرفات إسرائيل، أكثر من الانخراط المباشر في هذه الحرب.

وحتى الآن، تدخُل الهجمات التي شنّتها الفصائل العراقية على مواقع عسكرية للقوات الأمريكية في دائرة الاشتباك المحدود. فالأسلحة المستخدمة ذات قوة تدميرية منخفضة، والأهداف محدودة ومتوقعة. لذلك، فإنّ الهدف الأساسي لهذه الهجمات هو إرسال رسائل ضغط لدفع الجانب الأمريكي إلى تغيير موقفه من الحرب في غزة. كما أنّها تُسهِم في رفع الحرج عن الفصائل العراقية المتبنية لشعارات المقاومة، عبر إظهار تلك العمليات باعتبارها تصب في خدمة مشروع “المقاومة”. وعلى الأرجح، فإن واشنطن تُفضِّل التسامح مع هذا النوع من الهجمات، وعدم المبالغة برد فعلها – العسكري خصوصاً – طالما لم تتسبب الهجمات بقتل مدنيين أو عسكريين أمريكيين. 

إن التحدي الأكبر في هذا السياق سيقع على عاتق حكومة محمد شياع السوداني، التي ستجد نفسها في موقف صعب للغاية، وتحديداً في كيفية التوفيق بين مواقف الفصائل المسلحة العراقية وإيران من جهة، والولايات المتحدة والمجتمع الدولي من جهة أخرى. ومع أن هناك فرصة لتهدئة وضع الفصائل المسلحة، بالنظر لحالة التخادُم السياسي التي تربطها مع باقي أطراف “الإطار التنسيقي”، التي تجد نفسها غير مهيئة للدخول في هذه الحرب، والاكتفاء بالإدانة السياسية والمساندة الشعبية، إلاّ أن هذه الفرصة قد تكون ضئيلة، فيما لو اتجهت الأوضاع في غزة للتصعيد أكثر. إذ تسعى إيران إلى خلق مناخ يُشُعِر الولايات المتحدة بالقلق المستمر، بشأن ما قد يفعله حلفاؤها في العراق، فيما لو اتجهت الأمور نحو سيناريو الحرب المفتوحة أو الواسعة النطاق.

السابق
حصيلة ضحاياه تتجاوز الـ42..«حزب الله» ينعى مقاتلين جديدين!
التالي
اجتماع تنسيقي في الداخلية ناقش شؤونا مرتبطة بإدارة الكوارث والأزمات