جوزيف باحوط: هجوم “حماس” لتشغيل الخط الأحمر الساخن بين واشنطن وطهران

جوزف باحوط

ما حدث في 7 تشرين الأول 2023 في غزّة، والمستمر حتى اللحظة والقابل للتوسّع في دول عدّة منها لبنان، يحتاج إلى كثير من التحليل، إضافة إلى الوقت، كي يتكشّف ويُفهَم. لهذا نحاور الدكتور جوزيف باحوط، مدير معهد السياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت. وهو يقدّم قراءة ورؤية جريئتين، بقدر ما هما خاضعتان لامتحان الواقع ومجرياته، هما تستحقان الإصغاء والنقاش. ففيما يغرق كثيرون في التشاؤم على إيقاع الأحداث والأخبار والتخوّف من توسّع خريطة الحرب، يُبدي باحوط قدراً من التفاؤل. وفيما يسمع كثيرون أصوات القذائف القاتلة، ينتظر هو رنين الهاتف الأحمر الساخن بين واشنطن وطهران… وعلى الرغم من قوة ما يجري في الميدان ومأسويّته يعتبر أن «الموضوع سياسي وليس عملياتياً».

ما الذي جرى في 7 تشرين الأول 2023 في غزة، لماذا انفجرت الأمور هناك وفي هذا التوقيت؟

فلنستعد مشهد المنطقة عشية ذاك الحدث، وهو كان ضبابياً وإن بدا متجهاً نحو تهدئة. ففي ظل السؤال الكبير الذي يُطرح منذ سنوات عن حقيقة انسحاب الولايات المتحدة الأميركية من المنطقة، جرت سلسلة من التطورات. سوريا التي أصبحت حلبة صراع مقسّمة إلى مناطق نفوذ دخلت في ما يمكن وصفه بـ»الصراع المجمّد». والملف النووي الإيراني متعثّر على الرغم من التوصّل إلى تفاهمات تتعلق بالأسرى والأموال الإيرانية المجمّدة. وهناك أمران لعلهما أهم من هذين التطوّرين. الأول يتعلق بصعود الصين كقوة في المنطقة، وقد توج ذلك بالتفاهم السعودي – الإيراني. والثاني هو ما حصل بالتوازي، إنما بشكل معاكس، أي المسعى للتقارب الخليجي – الإسرائيلي الذي كان على وشك التتويح بتفاهم سعودي – إسرائيلي وتوقف عند القضية الفلسطينية. من هنا، أرى حنكة إيران وحركة «حماس» في التحرك في هذه اللحظة. وهو يأتي في ظل السؤال عن خروج الولايات المتحدة الأميركية من المنطقة، والتوقف السعودي عند السؤال عن كيفية حل القضية الفلسطينية. فما قامت به «حماس» أعاد القضية الفلسطينية إلى المشهد. ولعل هذا أبرز ما حققه. وأعتقد أن السعودية ستتعامل معه لتعزيز موقفها. وحتى الإمارات، بتقديري، ستعيد النظر في كثير من القضايا الخاصة بالتطبيع.

وما الذي أحدثه تحرّك «حماس»؟

إضافة إلى إعادته القضية الفلسطينية إلى المشهد، فرمل الانسحاب الأميركي من المنطقة، أعاد تموضع واشنطن. فبعدما كنا في السنوات الماضية، كباحثين، نرصد الانسحاب الأميركي من المنطقة، ونسأل عما إذا كان حقيقيّاً وما هو مداه، بتنا أمام مقولة: إن أميركا إذا ما قررت مغادرة المنطقة، فإن المنطقة تعيدها إليها. وهذا ما ينبغي التفكير فيه: إلى أي مدى ستبقى أميركا منغمسة؟ اعتقد أنه على الرغم من جذب الحدث أميركا إلى الحلبة، إلا أنها لا تريد أن تنغمس في التفاصيل. من هنا، ستضغط على بنيامين نتيناهو كي لا يذهب بعيداً.

هذا تقييم إيجابي للدور الأميركي، يعاكس الرأي القائل إن إدارة بايدن انحازت بشكل مبالغ فيه إلى إسرائيل؟

إذا ما قرأنا بين السطور، نجد توتّراً واختلافاً بين بايدن ونتنياهو، في العديد من القضايا الداخلية الإسرائيلية، مثل تركيبة الحكومة اليمينية والتعديل الدستوري الذي يرغب فيه نتنياهو، وكذلك في شأن سلوك نتنياهو وشركائه في الحكومة تجاه المسألة الفلسطينية. وأعتقد أن الأميركيين، والأوروبيين، يعطون نتنياهو رمزياً ليكسبوا منه في السياسة. يقولون له ينبغي ألا تدخل غزة! أرسلنا لك أسطولاً ولكنه ليس لك إنما لردع «حزب الله»! نحن نريحك على المستويين المعنوي والعسكري، ولكن في السياسة والاستراتيجيا يجب أن تبقى تحت السقف!

وهل برأيك أن نتنياهو يستجيب؟

للآن لا. وهنا، يجب أن ننظر إلى الظروف الداخلية الإسرائيلية، التي استطاعت «حماس» ومن خلفها قراءته. هناك تضعضع يصل إلى حدود القطيعة بين المؤسسة العسكرية ونتيناهو. المؤسسة العسكرية وكأنها تأخذ بثأرها من نتنياهو، وهي تقول له: ندخل إلى غزة ولكن ماذا بعد؟ هلى نحتل غزة؟ احتللناها سابقاً وخرجنا منها! ندخل لبنان، ولكن هل تعتقد أننا سنقضي على «حزب الله»؟ يمكن أن نوجّه رسائل: قصف المطار، إرجاع لبنان إلى عصور قديمة، ولكن ماذا بعد؟ ولا بد من القول هنا إن نتنياهو انتهى تقريباً. لا شك في أنه لاعب سياسي وسيحاول الخروج مما يجري بأقل الخسائر، لذا بادر إلى تطعيم «الكابينت». المؤسسة العسكرية لن تغفر له. ودولياً، أعتقد أنه إذا ما تخطينا هذه المرحلة، سيتم تذكيره بأن ما حصل هو نتيجة سياساته. فمنذ سنوات وهو مقفل على كل شيء.

وماذا عن إيران؟

إيران كان لها مصلحة في أن تنفجر الأمور ليتحدث الأميركيون معها. فإذا كنت تريد شيئاً من أحد ما تبتكر مشكله معه ليجلس معك حول الطاولة. واليوم، بعد المشكلة التي انفجرت في 7 تشرين الأول 2023 عادت فلسطين هي القضية المقدسة. الرابح الرئيس هو إيران. ولكن الأمور يمكن أن تنقلب. أحياناً، أنت تربح ولكنك معرّض للخسارة، لا سيما إذا ما قرأت الآخر على غير ما هو. كأن تقول إيران إن أميركا ضعيفة وترغب في تسوية، وبالتالي تقوم بخطوة سلبية. لكن إيران شاطرة. وأعتقد أن هناك خطوط تواصل بين طهران وواشنطن، علماً أن الحدود الجنوبية للبنان هي الآن الخط الساخن بينهما، وما يجري هناك لا ينفصل عن المستوى التواصلي. وإذا ما استعدنا ما جرى في 1973 حينما وصلت الأمور بين أميركا والاتحاد السوفياتي إلى لحظة التلويح بالسلاح النووي، وجرى استخدام الخط الأحمر بينهما، نقول إن الأمور في أي لحظة يمكن أن تدفع واشنطن وطهران إلى استخدام الخط الأحمر بينهما.

ومتى تعتقد تحين هذه اللحظة، بعد انفجار الحدود الجنوبية للبنان أم قبل ذلك؟

إذا بقي الأمر مقتصراً على الحرب في غزة مع «التوتر المضبوط» على الحدود الجنوبية للبنان، وضبط الجميع أنفسهم، يعني أننا ضمن حدود اللعبة التي تُبقي احتمالات التوصل إلى اتفاق قائمة. والخسارة والربح نسبيان. أما إذا كبرت من خلال لبنان فأعتقد أننا حينها نذهب إلى مواجهة كبرى ربما تفضي إلى مواجهة عظمى.

أعتقد أن الأمور اختلفت عمّا كان في 2006. اليوم، لدى إيران وسائل متعددة. وتعدد الوسائل يوفر فرصة تعدد الخيارات. وقد وصل «حزب الله» إلى درجة من القوة، يجعل إيران تتأنى في دفعه إلى المعركة.

اقرأ أيضاً: مواجهات حامية «بالجملة» بين «حزب الله» وإسرائيل.. «ضمن قواعد الإشتباك»!

السؤال الآن هو إلى أين ستذهب إيران؟ اعتقد أن هناك راشدين هما الأميركي والإيراني. هما من سيتفاوضان. وسيقولان للآخرين: كل منكم قام بما يريده، دعونا نرى ما الذي ينبغي القيام به!

للوصول إلى ذلك تُدفع الأمور إلى حافة الهاوية، كما جرى في كوبا إبان أزمة الصواريخ، وفي حرب 1973. أصبحنا أمام أمر واقع: الإيراني يلعب ورقة قوية. يأتي أسطول أميركي. يُطلب من الجميع عدم التصعيد. يرد كلُّ طرف بالطلب ألا يصعّد الطرف الآخر. وأخيراً ستصل الأمور إلى الذروة التي يدرك الجميع أن بعدها الاصطدام. وعندها يُطرح السؤال على كل طرف: أتريد ذلك؟ أنا أعتقد أن الغالبية لا ترغب في الانفجار الكبير، وخصوصاً اللاعبين الكبيرين أميركا وإيران.

يحتاج ذلك إلى قناة اتصال!

أعتقد أن معظم ما يجري في قطر هو اتصال. وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن تحرّك بين الدوحة وتل أبيب، ونظيره الإيراني أمير حسين عبد اللهيان توجّه بعد جولة في المنطقة إلى قطر. هذا مؤشر سياسي لأن الموضوع سياسي وليس عملياتياً.

وهل يفضي ذلك إلى تفاوض جدي وعلني في شأن المنطقة؟

من المبكر توقع كيف سيكون المشهد التفاوضي إذا ما حصل. لكن اللحظة الإقليمية الدولية ربما تعقلن الأطراف والعملية، وتذهب بنا نحو حل. هذا رهن بإرادة أميركا وإذا ما أدت دوراً، أما إذا رضخت، لأسباب داخلية، لجنون نتنياهو فتندفع الأمور في اتجاه آخر. وكذلك هو رهن بإيران وإذا ما كانت جادة وتعتبر ما جرى وسيلة للتفاوض الحقيقي. أما إذا كان في الرأس الإيراني هدفٌ آخر، فنغدو أمام احتمالات أخرى. أقول هذا لأن البعض يجزم بأن الإيرانيين عقائديون ويرغبون في تدمير إسرائيل. وعندها، سندخل في نفق. خارج هذين الإطارين السؤال سيكون: من هو القادر على تعطيل التوجه نحو التفاوض، ومن يريد ذلك؟

من يمكنه التفجير، ومن القادر على توفير مستلزمات التفاوض؟

السؤالان بلا إجابة الآن. لكن في ما يخص السؤال الأول، سمعت مثلاً القيادي في حركة «حماس» خالد مشعل يقول إن ما يقوم به «حزب الله» على جبهة جنوب لبنان غير كاف. فهل هذا يعبر عن رغبة في تفجير الوضع، وإلى أي حد، ولماذا؟ وعلينا انتظار ما سيحدث على الحدود اللبنانية الجنوبية ومراقبة أداء «حزب الله» لتتوضح الصورة. أما في خصوص السؤال الثاني، فالأمر يحتاج إلى وقت وشروط كثيرة. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي ربما يرغب في التدخل كي يظهر كصانع تسويات، يواجهه مشكلة أوكرانيا وكونه طرفاً على خصومة مع أميركا والغرب. لكن علاقته إيجابية بإيران والدول العربية وبنتنياهو. ولعل الصين تتدخل. والمهم في هذا الشأن أن لا أحد من المؤثّرين يصب الزيت على النار.

سؤال التطبيع وردة الفعل الغربية

يعتبر جوزيف باحوط أن الحدث الفلسطيني – الإقليمي الذي بدأ في 7 تشرين الأول 2023 طرح سؤالاً كبيراً عن مصير التفاهمات العربية – الإسرائيلية، ومنها السعودية – الإسرائيلية. وإذ لا يتوقع أن «يفرملها» يعتقد أن «المعطى الفلسطيني سيحضر ضمن معادلة التطبيع وسيأخذ حيزاً مهماً. بالتالي، سيغدو السؤال عمّن سيأخذ الحيز ومن يستثمره: العرب أم ايران؟». ويقول: «سنكون أمام منافسة وخيارات عدة»، مضيفاً: «العرب إذا ما أرادوا أن يطبِّعوا، وكانت العقدة هي القضية الفلسطينية، فإن التسوية ستساهم في حل العقدة. في هذه الأزمة، مثلاً، تُرجم التفاهم السعودي – الإيراني بطريقة إيجابية. وتواصل الدول العربية مع إسرائيل يمكن أن يجعلها لاعباً وسيطاً. مصر عادت تلعب دوراً محورياً، وكذلك الاردن. يمكن العرب إذا ما أصبحوا ميسِرين أن يربحوا. ففي الأخير، هناك صورة كبيرة تجمع الأميركي والإيراني وتحتاج إلى فاعلين. وتركيا تشبه العرب في هذه القصة».

لا يتحمّس باحوط لنظرية تعددية الأقطاب في العالم، «ولكن ما يحصل سيأخذنا إلى عالم ليس فيه مركز قوة واحد. بطريقة رمزية: «حماس» تستطيع هز كيان إسرائيل. وهذا يبين أن مفهوم القوة والنفوذ أمر نسبي. الضعيف أحياناً يمتلك قوة تتفوق على ما لدى القوي بالمفاهيم العادية التي ندرسها في الجامعة».

أما ردة الفعل الغربية السلبية تجاه الفلسطينيين وليس تجاه «حماس» فحسب، فيرى أنها «لن تطول وستتعقلن»، إضافة إلى أنّها «مبالغٌ فيها وهي لأسباب سياسية داخلية إلى حد ما». ويختتم كلامه: «في الغرب، هناك توجهات سيئة وخرقاء. كيف يمنع حمل علم فلسطين فيما يوجد فيه نحو ستة ملايين مسلم؟ الإسلاموفوبيا تكبر، واليمين المتطرف يقوى».

السابق
معبر رفح يَفتح للمساعدات الإنسانية؟
التالي
اسرائيل تعترف بمقتل جندي وتقصف مناطق حدودية..و«حزب الله» ينشر مشاهد استهداف موقع هونين!