العراق وأزمة الدولار: معضلة اقتصادية ذات مضمون جيوسياسي

العراق وازمات متشعبة

لا يبدو أن هناك أفقاً مُحدَّداً لحلّ مشكلة ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق العراقية، بالرغم من التطمينات والإجراءات التي اتخذتها حكومة محمد شياع السوداني والبنك المركزي العراقي؛ إذ وصل سعر الدولار في السوق إلى 1570دينار عراقي، بينما كانت حكومة السوداني قد حدّدت له سعراً رسمياً بقيمة 1300 دينار.

ووفقاً لصحيفة وول ستريت جورنال، فإنّ الخزانة الأمريكية رفضت طلباً رسمياً عراقياً بتجهيز العراق بعملات ورقية بقيمة مليار دولار أمريكي من أجل مواجهة الطلب على الدولار في السوق المحلية التي لا زالت معظم التعاملات الاقتصادية فيها تجري ورقياً. ويُسوِّغ الجانب الأمريكي موقفه بأنّ هناك أدلة على أنّ الدولار الأمريكي الممنوح ورقياً للعراق يُهرَّب قسم منه إلى إيران وسورية وتركيا ودول أخرى، وبشكل يخرق أحياناً العقوبات الأمريكية المفروضة على بعض البلدان، ويُوظَّف في التعاملات المشبوهة. وقد ضغطت الولايات المتحدة على الجانب العراقي من أجل إعادة تنظيم السوق المالية والتعاملات التجارية، في شكلٍ يُسهِّل تتبع حركة الدولار وطرق استخدامه، وهو ما يتطلب إصلاحاً مصرفياً جذرياً، والحد من الاستخدام الورقي واعتماد الأنظمة الإلكترونية في التعاملات التجارية.

المضمون الجيوسياسي لأزمة الدولار

على رغم أن السوداني عَدَّ المطالب الأمريكية بهذا الخصوص مفيدة، لأنها ستصُبّ في إصلاح القطاع المالي والتجاري في العراق، ووقف تهريب العملة، مُقِرَّاً في أكثر من مناسبة بأنّ الكثير من التعاملات التجارية ومعاملات الاستيراد في العراق هي واجهات لعمليات تهريب وتلاعب كبيرة، وأنّ الطلب على الدولار من قبل المصارف ومكاتب العملة والتجار يفوق فعلاً حاجة السوق العراقية إليه، إلّا أنّه يواجه صعوبةً كبيرة في الدفع باتجاه إصلاحات جدية لأن القضية تنطوي على جانب سياسي، وتتعدى ذلك إلى كونها ذات مضمون جيوسياسي.

اقرأ أيضاً: تقرير لـ«Foreign Affairs»: ماذا سيفعل حزب الله إذا انتقل الصراع بين حماس وإسرائيل إلى الحدود مع لبنان؟

فمن المعروف أنّ الكثير من المصارف العراقية التي تقوم بشراء الدولار هي في الغالب واجهات لقوى سياسية وفصائل مسلحة ورجال أعمال مرتبطين بتلك القوى والفصائل، وأنّها تشتري الدولار لتغذية وتمويل نشاطاتها الخارجية وشبكات المصالح الداخلية والخارجية المرتبطة بها، وكذلك السيطرة على سعر السوق وتحقيق أرباح من خلال التحكم به. والعديد من هذه القوى تعد جزءاً رسمياً أو غير رسمي من الائتلاف الداعم لحكومة السوداني، وبالتالي فإنّ الاصطدام الصريح بمصالحها قد يحولها إلى أعداء في وقت يحاول السوداني ضمان الاستقرار السياسي لحكومته من أجل التركيز على الجوانب الاقتصادية والخدمية، خصوصاً وأنّه – مع ائتلافه الحاكم – ذهبوا منذ البداية إلى توصيف حكومة السوداني بأنها “حكومة خدمات”، والوعد بأداء إداري واقتصادي وخدماتي مختلف يسمح بصناعة “شرعية إنجاز” تُعوِّض عن “الشرعية الانتخابية” المحدودة لها نتيجة تشكُّلها من أطرافٍ معظمها جاء بنتائج متواضعة في الانتخابات.

وتنطوي فكرة “حكومة الخدمات” أيضاً على بُعْدٍ آخرٍ يتمثَّل في إعطاء الأولوية لـ “الاقتصادي”، و”الإداري” على حساب الـ “سياسي”، لكن هذا البُعد يقوم على فرضية ثَبُتَ عدم دقتها، وهي أنّ بالإمكان الفصل بين ما هو سياسي، وما هو اقتصادي. ففي بلدٍ يعتمد بشدة على الريع النفطي مثل العراق، وتتحكم فيه الدولة بالمقدرات الاقتصادية الرئيسة من طريق توزيع هذا الريع عبر الرواتب والعقود الحكومية والانفاقات العامة، تصبح السيطرة السياسية مدخلاً للسيطرة الاقتصادية، ويغدو الوصول إلى الريع محوراً رئيساً من محاور الصراع السياسي، لأن هذا الوصول هو الذي يسمح للفاعلين السياسيين والمسلحين والقوى الهجينة (أي التنظيمات السياسية ذات الأذرع المسلحة، أو الفصائل المسلحة ذات الأجنحة السياسية)، باستمرارية وجودها وحماية مواردها ونشاطاتها الزبائنية أو توسيعها.

وبالنتيجة، فإنّ أزمة الدولار الحالية تضع السوداني أمام تحدٍّ خطِر بين المُضي بتحقيق إصلاحات حقيقية على الصعيد الاقتصادي، وهو ما يتطلب إصلاحاً للنظامين المالي والمصرفي، وتكييفاً للسياسة النقدية، وبالتالي الاصطدام ببعض الفاعلين الأقوياء من الأحزاب والفصائل ورجال الأعمال الجدد، وتحمُّل التكلفة السياسية لهذا الصدام؛ أو إعطاء الأولوية لاستقرار حكومته من أجل التمتع بالغطاء السياسي الكافي لحمايته. وقد يلجأ السوداني إلى طريقٍ وسطٍ بين الاثنين، عبر آلية الإصلاح التدريجي، لكن هذه الآلية لم تنجح حتى الآن كما يكشف الموقف الأخير للخزانة الأمريكية.

ويُحاول بعضُ القوى الداعمة للسوداني الترويج لمواجهة الضغط الاقتصادي الأمريكي بالتركيز على بعده الجيوسياسي، ووضعه في إطار سرديتها العامة عن أنّ هذا الضغط يستهدف “إخضاع العراق”، و/أو يتعدى على حقوقه السيادية، خصوصاً أنّ السيولة التي يطالب بها العراق تأتي من أرصدته المودعة في البنك الفدرالي الأمريكي مقابل بيع النفط العراقي، وأنّ محاولة الأمريكيين التحكم بتدفق تلك الأموال أو الامتناع عن تزويد العراق بها يُمثِّل انتهاكاً للحقوق العراقية. وتتجه هذه السردية في خطابها الشعبوي إلى الترويج لحلول بديلة من قبيل التخلي عن بيع النفط بالدولار، ومواجهة الضغط الأمريكي بخيارات جيوسياسية بديلة من قبيل الاتجاه شرقاً نحو الصين، إلّا أنّ مثل هذه المواقف لم تدخل بعد في سياق التداول الجدي لصعوبة فصل النظام المالي والنقدي العراقي عن الدولار، ولأن معظم احتياطيات العراق النقدية مودعة بالدولار، ولأن مصالح نفس هذه القوى التي تُروِّج لمثل هذا الخطاب يمكن أن تتضرر بفعل استفادتها المباشرة أو غير المباشرة من التعامل بالدولار.

خيارات الحكومة العراقية

إنّ استمرار أزمة الدولار في العراق، واحتمال تفاقُمها في حالة الإصرار الأمريكي على مزيد من الضَّبط للتعاملات المصرفية وتدفقات الدولار إلى العراق، سيعكسان إخفاق السياسة الحالية لحكومة السوداني، باعتماد نهج “الإصلاح التدريجي”، ويضعانها على محك الاختيار بين مواجهة شبكات المصالح السياسية والاقتصادية، الداخلية والإقليمية، التي تأسست وتمأسست عبر تدوير الريع النفطي من خلال سياسة مزاد العملة (التي كان الأمريكيون قد شجَّعوا عليها بعد الاحتلال بوصفها وسيلة سوقية لضمان استقرار العملة العراقية)، وما رافقها من تعاملات مشبوهة، وتهريب منظم، وإثراء غير منضبط لبعض الأطراف؛ أو التعويل على خليط من الشعبويتين السياسية والاقتصادية عبر خطاب يُحمِّل الأمريكيين المسؤولية، واتخاذ إجراءات شكلية وترقيعية تتجنَّب دفع ثمن سياسي كبير.

وفي حالة اعتماد الخيار الثاني، فإن هناك احتمالاً كبيراً بأن يتواصل ارتفاع سعر الدولار في السوق العراقية، مُتسبِّباً بمزيدٍ من التضخم وصعود أسعار السلع الأساسية، وهو ما قد يَنتج عنه تفاقُم الغضب الشعبي الداخلي، خصوصاً في ظل مفارقة أنّ العراق يحقق حالياً عوائد ضخمة (تجاوزت 8 مليارات دولار شهرياً) مقابل بيع النفط بأسعاره الحالية، دون أن يعكس ذلك تحسُّناً في الظروف المعيشية لغالبية المواطنين بسبب أزمة الدولار. مع ذلك، فإن صعود سعر صرف الدولار قد يُمثِّل فرصة لحكومة السوداني للتوجه نحو دعم الإنتاج المحلي وتقليل الاعتماد على الاستيراد، خصوصاً في حال نجاحها بتخفيف وطأة الصعود [في سعر الدولار] على الشرائح الفقيرة والطبقة المتوسطة، لكنها هنا ستكون مضطرة لمواجهة أخرى مع المصالح الاقتصادية الداخلية والخارجية التي ترتبت على جعل العراق بلداً مُصدِّراً للدولار ومُستورِداً للسلع، وتحوله إلى سوق رئيسة لإيران وتركيا والصين.

وفي المحصلة، فإن ما يمكن أن تكتشفه الحكومة العراقية في ظل هذه التجربة، هو أن نهج الفصل بين “السياسي” و”الاقتصادي” ليس نهجاً صائباً، وأنَّه قد لا يكون طوق نجاتها، بل الحبل الذي يخنقها.

السابق
طوفان الاقصى في يومه السادس.. دروس في البطولة والخيانة!
التالي
المعلومات تكشف ملابسات جريمة قتل غامضة في برج حمود!