ما بعد نَصْب الخيام: فُرَص ترسيم الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل وعوائقه

ترسيم الحدود الناقورة

أقرّ مجلس الأمن الدولي في 31 أغسطس 2023 تمديد عمل قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان “اليونيفيل”، كما نص القرار على ضرورة انسحاب إسرائيل من شمال قرية الغجر والمنطقة المتاخمة شمال الخط الأزرق. وفي اليوم نفسه صرّح مستشار الرئيس الأمريكي لشؤون الطاقة، آموس هوكستين، الذين كان في زيارة رسمية للبنان، قائلاً إنه “حان الوقت للعمل على [تحقيق] سلام بري” بين لبنان وإسرائيل. وهوكستين نفسه هو الذي قاد الوساطة بين البلدين للتوصل إلى اتفاق ترسيم الحدود البحرية الموقَّع في 27 أكتوبر 2022.

وجاء قرار مجلس الأمن ذاك، والحديث عن ترسيم الحدود البرية، في سياق تصعيد الوضع الأمني على الحدود بين إسرائيل ولبنان في أعقاب قيام حزب الله في مايو الماضي بنصب خيمتين محاذيتين للحدود في مزارع شبعا، تدّعي إسرائيل أنها موجودة في الطرف الإسرائيلي من الخط الأزرق. دفع هذا التوتر مسألة ترسيم الحدود إلى الواجهة من جديد بوصفه حلاً لحالة الاحتقان الأمني المستمرة، وفرصةً لإنهاء الصراع بين البلدين ترتكز على النجاح الذي حصل في ترسيم الحدود البحرية بينهما.

ديناميات جديدة على الحدود البرية بين إسرائيل ولبنان

شهدت المنطقة الحدودية في الأشهر الأخيرة توتراً حاداً بين حزب الله وإسرائيل تمثل في بناء مواقع عسكرية (خيام بالأساس) لحزب الله على الحدود اللبنانية، وزيادة الوجود العسكري لأفراده على الحدود، وبالذات في منطقة مزارع شبعا، حيث نشر حزب الله ألف عنصر من قوته الخاصة (وحدة الرضوان) على طول الحدود مع إسرائيل، مما دفع الطرفين إلى إطلاق تهديدات متبادلة بمواجهة عسكرية. وإضافة إلى نصب الخيام، نظَّمَ حزب الله مظاهرات حاشدة في منطقة الغجر ومزارع شبعا، تخللتها محاولات لتجاوز الخط الأزرق الذي وضعته إسرائيل في أعقاب انسحابها من جنوب لبنان عام 2000، وإعلان وقف إطلاق النار في حرب 2006. وفي شهر يونيو الماضي أُطلق صاروخ مضاد للطائرات على قرية الغجر، كما تصاعد التوتر بين الطرفين في أعقاب بناء إسرائيل حاجز حدودي على الجزء الشمالي من قرية الغجر في جنوب شرقي لبنان، ووضع سياج شائك وجدار إسمنتي حول البلدة.

اقرأ أيضاً: الأعداء الكُثر لحركة فتح

تضع هذه المسألة إسرائيل أمام تحدٍّ أمني وسياسي كبيرَين؛ فمن جهة، قد يُنذِر الرد العسكري على وجود حزب الله على الحدود باندلاع مواجهة عسكرية شاملة، وهي مواجهة لا تريدها إسرائيل. ومن جهة أخرى، يُسهِم الصمت على هذا الوجود في تأكّل الردع الإسرائيلي، ويشجع حزب الله على المزيد من الخطوات “الاستفزازية” بحسب التوصيف الإسرائيلي. وهو فعلاً ما حدث، حيث كشف وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، خلال خطابه في مؤتمر معهد السياسات ضد الإرهاب في هرتسليا، بداية شهر سبتمبر الفائت، أن إيران تبني مطاراً عسكرياً في جنوب لبنان يَبعُد نحو 20 كيلومتراً عن الحدود الإسرائيلية، ويدل هذا الأمر على تراجُع قوة تأثير الردع الإسرائيلي على الجبهة اللبنانية.

انتهجت إسرائيل مجموعة من الوسائل للضغط على حزب الله لتفكيك خيامه، ومنها:

التهديد المستمر من قادة إسرائيل السياسيين والعسكريين بأن هذا الوجود سيدفع إسرائيل إلى عمل عسكري.
استعمال قوة غير مفرطة في تفريق المظاهرات التي نظمها الحزب على الحدود.
إقناع مجلس الأمن بقبول التصور الإسرائيلي لعمل قوات “اليونيفيل” في جنوب لبنان، والذي عُدَّ في إسرائيل إنجازاً دبلوماسياً لها، حيث سمح قرار التمديد رقم 2695 بحرية الحركة للقوات الأممية في المناطق المحاذية للحدود من دون “إذن مسبق أو تصريح للقيام بالمهام المنوطة بها” من السلطات اللبنانية.
التواصل الدبلوماسي مع فرنسا والولايات المتحدة من أجل الضغط على الحكومة اللبنانية للضغط على حزب الله بوقف نشاطه على الحدود.
استمرار العمل على بناء الجدار الفاصل على الحدود اللبنانية، والذي يصل طوله إلى نحو 120 كيلومتراً بما في ذلك قرية الغجر، والذي يضمن عدم اختراق الحدود من أفراد أو مجموعات كما حدث في الفترة الأخيرة، ويدور الحديث عن جدار فاصل يمتد في أعماق الأرض أيضاً لمنع بناء أنفاق نحو الأراضي الإسرائيلية.

نجحت هذه الخطوات في ردع حزب الله بشكل جزئي، فقد أزال واحدة من الخيام، وأبقى على الأخرى، وتراجعت محاولات تجاوز الخط الأزرق، ولكن ذلك لم يمنع الحزب من إبقاء وجوده العسكري الظاهر للعيان قرب الحدود عبر مواقع عسكرية صغيرة.

جوهر الخلاف اللبناني-الإسرائيلي على الحدود

يعود الخلاف اللبناني الإسرائيلي على الحدود إلى العام 2000، بعد انسحاب القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان في ذلك العام، إذ لم تنسحب إسرائيل إلى الحدود الدولية بحسب اتفاق الهدنة عام 1949، وأبْقت سيطرتها على نقاط حدودية، ورسمت حدّاً، بالتنسيق مع الأمم المتحدة، أُطلق عليه الخط الأزرق، ضم هذا الخط قرية الغجر ومزارع شبعا وتلال كفر شوبا.

في خضم المباحثات للتوصل إلى تهدئة أمنية طالب الجانب اللبناني بوقف الانتهاكات الإسرائيلية لسيادة لبنان وفي مركزها احتلال شمال قرية الغجر، التي يمر منها الخط الأزرق. وقد سوَّغ حزب الله وجوده على الحدود بذريعة تحريره الأراضي اللبنانية المحتلة، ففي خطاب الأمين العام للحزب، حسن نصر الله، في 12 يوليو الماضي، ربط بين إزالة الخيمة وبين انسحاب إسرائيل من قرية الغجر، كما قال في خطابه إن الحديث لا يدور عن مباحثات مع إسرائيل لترسيم الحدود، وإنما عن انسحاب إسرائيلي من منطقة لبنانية محتلة، ليؤكد أن لبنان لا يفاوض إسرائيل بل يُطالبها بالانسحاب، وأن المسألة ليست خلافات على ترسيم الحدود بل احتلال لأراض لبنانية. وينسجم هذا الموقف مع الموقف اللبناني الرسمي الذي يرى أن القضية ليست “ترسيم حدود”، بل “تثبيت حدود” اُتُفِقَ عليها في عام 1923 خلال تقسيم المنطقة بين الانتدابين البريطاني والفرنسي، واتفاق الهدنة عام 1949.

وبعد توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين البلدين في 27 أكتوبر 2022، أعلنت لبنان أنها تريد إنهاء ملف الحدود البرية أيضاً، والذي من شأنه المساعدة في إنهاء قضية قرية الغجر الحدودية ومزارع شبعا. وعملت لبنان على إقناع دول مجلس الأمن على تبنّي هذا البند في قرارها الصادر في أغسطس الماضي، حول تمديد عمل قوات “اليونيفيل”. وقد أخذت الولايات المتحدة على عاتقها هذه المهمة، كما فعلت في ترسم الحدود البحرية، حيث زار هوكستين لبنان من أجل التقدم في هذا الموضوع، ولكن يبدو أن إسرائيل غير معنية بتسوية الخلاف الحدودي في الوقت الحالي، كما تشير إلى ذلك المصادر الإسرائيلية.

لن تكون المباحثات سهلة بين الطرفين، فلا ينحصر الخلاف حول قرية الغجر ومزارع شبعا وتلال كفر شوبا فحسب، بل تشمل المباحثات أيضاً 13 موقعاً على طول الحدود الإسرائيلية-اللبنانية، ووفق وزير الخارجية اللبناني، عبد الله بن حبيب، فإن “سبع نقاط منها هناك اتفاق عليها، وست نقاط لا تزال موضع خلاف”، وبخاصة النقطة B1 في منطقة رأس الناقورةعلى الساحل، والتي سبق لها أن سببت الخلاف الرئيس بين لبنان وإسرائيل خلال ترسيم الحدود البحرية، حيث كان لبنان يُطالب باعتبارهامنطلقاً برياً لترسيم حدوده البحرية، وسط رفض من الجانب الإسرائيلي الذي يسيطر على تلك المنطقة الحدودية ويَعُدَّها جزءاً من أراضيه.

وفي هذا السياق، ثمة مَن يرى في إسرائيل أنه يتعين عليها الانخراط في مباحثات جادة مع لبنان لتسوية ملف الحدود البرية، وفي الوقت نفسه الاستمرار في بناء الجدار الفاصل، من منطلق أن تسوية الخلاف الحدودي سوف تُخفف حدة التوتر الأمني على الحدود، وتنزع من حزب الله ذريعة وجوده العسكري الذي ازداد في الفترة الأخيرة على الحدود مع إسرائيل، غير أن توجهات إسرائيلية أخرى ترفض هذه السياسة في سياق نشاط حزب الله العسكري، إذ ترى أن الرضوخ للمطالب اللبنانية سوف يؤدي إلى تآكُل منظومة الردع الإسرائيلية.

مصالح الأطراف في التوصل إلى تسوية بشأن الخلاف الحدودي

إلى جانب إسرائيل ولبنان، تُعد الولايات المتحدة اللاعب الرئيس في محاولة التوصل إلى اتفاق ترسيم للحدود البرية بين البلدين، مثلما كانت حين قادت الوساطة لترسيم الحدود البحرية. ويحمل كل طرف مصالح قد تؤدي دوراً في التوقيع على اتفاق بين لبنان وإسرائيل.

وتتمثل المصالح الأمريكية في النقاط الآتية:

الحفاظ على الاستقرار الأمني على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية من خلال إنهاء حالة الصراع بين البلدين على الحدود.
تقليل قوة نفوذ إيران في لبنان من خلال نزع فتيل التوتر والمواجهة بين إسرائيل وحزب الله.
تحقيق إنجاز دبلوماسي للإدارة الأمريكية على غرار الإنجاز في ترسيم الحدود البحرية، والذي يصب في السياسة الأمريكية الدافعة نحو تطبيع العلاقات بين إسرائيل والمنطقة.
دعم تطوير حقول الغاز في منطقة حوض المتوسط، والذي يتطلب تحقيق الاستقرار الأمني. لذلك جاءت زيارة هوكستين للبنان مع بدء عمليات التنقيب عن الغاز والنفط في نهاية شهر أغسطس الماضي.

أما المصالح الإسرائيلية فتتمثل في الآتي:

تسوية الحدود البرية بشكل نهائي مع لبنان، ما يعني إغلاق ملف الصراع اللبناني-الإسرائيلي.
نزع ذريعة حزب الله في أنه يحارب إسرائيل بسبب احتلالها لمناطق لبنانية، وبذلك يُقلل من خياراته العسكرية، ما يُسهِم في تقليل حدة التوتر العسكري والأمني مع لبنان.
عزل حزب الله في الساحة اللبنانية، والضغط عليه سياسياً من أجل نزع سلاحه، وتقويض مكانته في لبنان التي اعتمدت، من بين ما اعتمدت، على أنه حركة مقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي.
الاستجابة للسياسة الأمريكية في الدفع بهذا الاتفاق، كجزء من التوجه الأمريكي نحو استقرار المنطقة، ومن رؤية التطبيع العامة بين إسرائيل ودول المنطقة.

ومع أن المصالح الإسرائيلية واضحة في هذا الشأن، غير أن هناك عقبات أمام موافقة إسرائيل على إجراء مباحثات أو التوصل إلى اتفاق ترسيم الحدود مع لبنان، أهمها الآتي:

موقف الحكومة الإسرائيلية الحالي الرافض لتوقيع اتفاق حدودي مع لبنان، الذي يعني الانسحاب من مناطق لبنانية محتلة.
الموافقة على ترسيم الحدود في ظل الوجود العسكري لحزب الله سوف يُفسَّر لدى أعضاء الحكومة واليمين بأنه رضوخ لضغوط حزب الله، وهو نفس الاتهام الذي أطلقه اليمين على الحكومة السابقة حين أبرمت اتفاق ترسيم الحدود البحرية.
الخوف من أن الانسحاب سوف يُقرِّب حزب الله من الحدود الإسرائيلية ويُقيّد إسرائيل في مواجهة ذلك بعد ترسيم الحدود، لا سيّما أن انسحاب إسرائيل لن يؤدي بالضرورة إلى نزع سلاح حزب الله.
تداعيات ذلك على الجبهة الفلسطينية، إذ إن الاتفاق سيُقدِّم دعماً لمواقف الفصائل الفلسطينية المسلحة، وبخاصة حماس والجهاد الإسلامي، التي ترى أن العمل المسلح وحده هو الذي يُجبر إسرائيل على الانسحاب من المناطق المحتلة، مما قد يزيد عدم الاستقرار الأمني في الضفة الغربية.

وتتمثَّل المصالح اللبنانية من ترسيم الحدود البرية بالآتي:

إغلاق ملف الصراع مع إسرائيل من خلال التوصل إلى اتفاق حول حدود الدولتين، ومنع أي مواجهة عسكرية مستقبلية تؤدي إلى دمار لبنان، وبخاصة أن بقاء الاحتلال الإسرائيلي يعطي سبباً لحزب الله باستمرار وجوده في الجنوب ويزيد التوتر مع إسرائيل، والذي قد يتدهور بأي لحظة إلى حرب مدمرة.
حل الخلاف الحدودي مع إسرائيل يضمن الاستقرار وقد يكون بدايةً لعودة الاستثمارات الأجنبية، وبخاصة أنه سيتم في الفترة المقبلة العمل على استخراج الغاز من حقل قانا، وهناك اهتمام دولي كبير بهذا الشأن.
تحقيق إنجاز دبلوماسي للحكومة اللبنانية في ظل الأوضاع الاقتصادية والسياسية المتأزمة في البلاد.

استنتاجات

تتيح الأحداث والديناميات الأخيرة على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية فرصةً للتوصل إلى اتفاق لترسيم نهائي للحدود البرية بين إسرائيل ولبنان. ويطمح لبنان في طرح كل نقاط الخلاف على الحدود (13 نقطة خلافية)، حيث يَعدُّ لبنان الوجود الإسرائيلي في شمال قرية الغجر نوعاً من الضم للقرية إلى السيادة الإسرائيلية، والتي يقسمها الخط الأزرق إلى نصفين.

بالنسبة لإسرائيل، فإنها تجد نفسها في مواجهة معضلة حقيقية. فمن جهة، رفع حزب الله من شأن هذه القضية، مسوغاً وجوده على الحدود بأنه يأتي رداً على احتلال إسرائيل لأراض لبنانية، وهو أمر يُعد في إسرائيل خطراً أمنياً واستفزازاً للسيادة الإسرائيلية، ومن جهة أخرى فإن إسرائيل لا تفضل الخيار العسكري في مواجهة هذا الوجود، ولم تتخذ أي عمل عسكري ضد أنشطة حزب الله على الحدود، إذ إن أي عمل عسكري إسرائيلي لن يستند إلى شرعية دولية، لأن لبنان يجادِل بأن المناطق التي نُصبت فيها خيام حزب الله هي أرض لبنانية، بالإضافة إلى أن إسرائيل لن تتلقى دعماً دولياً لغياب سبب مقنع لعمل عسكري قد يتسبب بتدهور المواجهة إلى حرب غير معروفة تبعاتها.

وبناءً على ذلك، يبقى الخيار الدبلوماسي هو الحل الأنسب بالنسبة لإسرائيل، بحيث يعتمد على تسوية الخلاف الحدودي مع لبنان مقابل انسحاب حزب الله وتفكيك وجوده على الحدود. وعلى الرغم من أفضلية هذا الحل بالنسبة لإسرائيل، فإن موقف الحكومة الإسرائيلية سيكون العائق أمام هذا الحل، بسبب رفضها فكرة الانسحاب من أي أراض تحت سيطرتها، وبسبب أن السياق جاء في ظل التوتر الأمني الذي فرضه حزب الله، وربطه بالعامل الإيراني.

لذلك لا يُتوقع أن يحدث تقدُّم في المسار الدبلوماسي على المدى القريب المنظور، وذلك بسبب الموقف الإسرائيلي الرافض للانسحاب بسبب تشكيلة الحكومة، ونظراً لأن الانسحاب سوف يُفسَّر على أنه رضوخ لتهديدات حزب الله، وأخيراً بسبب المطالب اللبنانية بحل كل نقاط الخلاف بحسب قرارات مجلس الأمن، وهو أمر إسرائيل غير مستعدة له أمنياً، على الأقل حتى اكتمال بناء الجدار الحدودي بين الطرفين.

السابق
النازحون السوريون في الجنوب «عود على بدء».. إحصاءات وإجراءات أمنية مشددة!
التالي
قرار قضائي بجريمة قتل الشيخ الرفاعي.. هكذا استدرجوه وقتلوه لمنافسته على رئاسة بلدية القرقف