وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: المؤتمر الدولي مبادرة رعاية لا مقترح حل

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

 لا يحمل طرح المؤتمر الدولي حول لبنان، الذي دعا إليه البطريرك الراعي تفاصيل مشروع سياسي، أو مقترح نظام جديد. لكن ظروف هذا الطرح وسياقه، يشيان بأن الدعوة تتضمن رفضاً لمآلات الواقع السياسي الراهن ومساراته، وتعبير احتجاج ضد وضعية الاختلال الحاصلة في موازين القوى وحالة ترهل الدولة، إضافة إلى إثارة المعضلة الأشد خطورة، وهي معضلة ثنائية السلاح، التي رأى الراعي أنها تناقض معنى الدولة ووظيفتها، بل باتت تمثل بحسب تعبيره “محاولة انقلابية على كل ميادين الحياة العامة، على المجتمع وعلى ما يمثّل وطننا من خصوصية حضارية، وعلى وثيقة الوفاق الوطني التي أقرت في اتفاق الطائف”. 

هذا يعني أن الدعوة إلى مؤتمر دولي، لا تقتصر على مسعى لحل أزمة راهنة أو الخروج من مأزق اقتصادي خانق، بل هي ذات طبيعة تأسيسية، تستبطن التنبيه إلى أن الانسداد الحاصل ليس مسألة عابرة أو آنية، بل تهدد مسلمات الكيان اللبناني، سواء أكان في فكرته الأولى، أم في تركيبته الداخلية الدقيقة أم في استمرارية نظامه.إصرار البطريرك الراعي على الرعاية الدولية لأي حل سياسي، ينطلق من أمور ثلاثة:  أولها، تأكيده عجز الداخل اللبناني، بمؤسساته وقواه وفاعلياته عن الخروج من وضعية الإنسداد الراهنة. أي فشل الصيغة السياسية القائمة، وضرورة إعادة النظر بقواعدها ومبادىء توزيع القوة فيها. العجز الداخلي يعني وصول لبنان إلى حالة قصور ذاتي، تمنعه توليد واقع متوازن، أو السيطرة والتحكم بالأزمات المستجدة، وأن ترك الأمور للقوى الداخلية، يزيد الواقع سوء وتدهوراً ودمارا. بالتالي تكون الدعوة إلى مؤتمر دولي، بمثابة استدراج الإهتمام الدولي بلبنان من جهة، وتأسيس نوع من رعاية أو وصاية دولية مبطنة على لبنان، في تسيير شؤونه وحل مشكلاته الداخلية. 

الدعوة إلى مؤتمر دولي هو جزء من رغبة لتأمين حماية وضمانات دوليتين للحؤول دون تضخم قوة مكون على المكونات الأخرى

ثانيها، أن الخلل الحاصل في موازين القوى الداخلية، رسخ واقع غلبة لمكون على باقي المكونات، ما يحول دون الخروج بحل أو ترتيب متوازن بين مكونات المجتمع اللبناني. ما يعني أن المؤتمر الدولي قد يسهم في تحقيق توازن دولي، يخرج لبنان من هيمنة دولة معينة عليه، ويؤمن ضمانات خارجية لتغيير معادلة القوة الداخلية، واستعادة توازن معتبر بين مكوناته الداخلية. هذا يفسر رفض حزب الله لفكرة المؤتمر الدولي، لا لجهة حرصه على السيادة، التي يمثل سلاحه بوضعيته الراهنة المنتهك الأخطر لها، وإنما للاحتفاظ بمرتكزات القوة والنفوذ التي يتمتع بها الحزب، واستمرار حالة الخلل في ميزان القوى لصالحه. وهذا يتم بعزل المؤثرات الخارجية، والإصرار على أن يكون الداخل منبع الحل ومرجعه ومنطلقه.  ثالثها،  بناء علاقات متوازنة بين لبنان والمنظومة الدولية، وهو ما عبر عنها البطريرك بالدعوة إلى حياد لبنان. والحياد يعني عدم انحياز لبنان إلى دولة، على حساب دولة آخرى، وخروج لبنان من أي اصطفاف دولي، أو محاور دولية، وعدم تفرد أية دولة بتقرير سياساته الداخلية، وعدم تحويل لبنان إلى ساحة صراع وتنافس دوليين.

إقرأ أيضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: لبنان من الصراع داخل النظام إلى الصراع على النظام!

هي جميعها أمور لا تتحصل إلا بضمانات دولية وانتزاع التزامات خارجية. 

بقدر ما تحمل الدعوة إلى مؤتمر دولي مسوغاتها الواقعية ودوافعها المبدئية، في المسارعة إلى وقف انهيار الدولة، والحد من تفاقم التناقضات التي قد تهدد السلم الأهلي، والإلتفاف على فرض ترتيب سياسي، يعكس حالة الخلل في موازين القوى، بقدر ذلك كله، فإن هذه المبادرة تعاني من نقاط ضعف وارتدادات خطرة، يصعب تجاوزها أو التحكم بها، أهمها:  أولها: أن المبادرة لا تقدم مقترحات حل، ولا تشخص مواقع الخلل الفعلية في صيغة النظام اللبناني. هي محاولة لكسر واقع قائم، من دون تقديم بدائل واقتراح خيارات مناسبة وممكنة. أي هي مسعى للخروج من راهن معلوم ومأزوم مع بقاء المستقبل ضبابياً ومجهولاً. فالمبادرة لا تقدم مشروع حل، وتستبطن هروباً من الإمام، وتجنباً مقصوداً لطرح المشكلات البنيوية، التي تقف وراء حالة الإنسداد الراهنة.  ثانيها، أن الرعاية الدولية لحل الأزمة اللبناني، ترسخ حالة القصور عند اللبنانيين، وتعطل قدراتهم الذاتية ويعفيهم من تحمل مسؤولية أنفسهم في إدارة بلدهم. فالرهان على الخارج، يقوض السيادة إلى حد بعيد، وينقل لبنان من معضلة موازين القوى الداخلية إلى معضلة أكبر، وهي معضلة موازين القوى الخارجية، الأمر الذي يعرض لبنان من جديد إلى تجاذبات وصراعات دوليتين تحصل على أرضه.  

التناقضات الحاصلة في المجتمع الدولي تجعله عاجزا عن الحد من تفاقم أكثر الأزمات الإقليمية والمحلية

ثالثها: إن التناقضات الحاصلة في المجتمع الدولي، تجعله عاجزا عن الحد من تفاقم أكثر الأزمات الإقليمية والمحلية. بل إن المجتمع الدولي أظهر فشلاً في حل أزمة الكثير من الدول العربية المجاورة: مثل ليبيا، سوريا، أفغانستان، اليمن، فلسطين، الصومال، السودان. ما يعني أن الرهان على الدور الدولي، يعقد الأزمة اللبنانية ويزيدها توتراً ويفاقم من تناقضاتها ويطيل أمدها. 

رابعها: أن الدعوة إلى مؤتمر دولي، هو جزء من رغبة لتأمين حماية وضمانات دوليتين، للحؤول دون تضخم قوة مكون على المكونات الأخرى، ولغرض رفع الغبن وتوفير مقومات الشعور بالأمان لمكون، يشعر أنه مهدداً أو فاقداً زمام المبادرة في الداخل. ما يعني أن خلفية الدعوة، تستند إلى الإبقاء على البنية الطائفية للنظام اللبناني، التي أثبتت التجارب أنها أحد أهم مسببات الإنسداد السياسي الراهن. فالمبادرة تقوم على الاحتفاظ بطائفية النظام مع تأمين رعاية دولية لمنع هذا النظام من السقوط، والتدخل المباشر في حال طرأ متغيرات داخلية، تهدد السلم الأهلي أو تتسبب بحالات غبن أو غلبة.   

ما طرحه الراعي يؤكد عدم جدوى الخروج من حالة الإنسداد الداخلية في لبنان بأسلوب التسويات السياسية أو الحوار الداخلي بين القوى أو توافقات محلية مبتذلة

مهما يكن من أمر، فإن ما طرحه البطريرك الراعي، يؤكد عدم جدوى الخروج من حالة الإنسداد الداخلية في لبنان، بأسلوب التسويات السياسية أو الحوار الداخلي بين القوى أو توافقات محلية مبتذلة، وإنما بمقاربة جذرية للمسببات العميقة والحقيقية للأزمة اللبنانية. بالمقابل، فإن المبادرة، بقدر ما مثلت رغبة قوية لإسقاط سلطة الأمر الواقع، فإنها في الوقت نفسه تجاهلت بقصد، تقديم مقترح حلول جذرية لمسألة الحكم. هي مبادرة لحل أزمة راهنة، لا معالجة جدية لمأزق نظام قائم. 

السابق
بعد تنصل «الثنائي الشيعي» من اشتباكات الشياح والمشرفية..بلدية الغبيري ترمي المسؤولية على القوى الامنية!
التالي
ترحيل موقف نواب الحاكم من الاستقالة الى الأسبوع المقبل!