عندما يتجدد الحلم من رحم.. «جنين»!

ياسين شبلي

منذ نكبة عام 1948 والشعب الفلسطيني جيلاً بعد جيل، في الداخل والخارج، يحلم ويسعى لإستعادة أرضه والعودة إليها بكل وسائل المقاومة الممكنة من مدنية وعسكرية وسياسية، في المقابل هناك من يحاول وأد هذا الحلم كذلك جيلاً بعد جيل، وهم الصهاينة عبر أسلوب واحد وحيد وهو المجازر قتلاً وإعتقالاً وتنكيلاً ومصادرة للأراضي، من بن غوريون إلى شمعون بيريز مروراً بليفي أشكول وغولدامائير ورابين ، ومن بيغن إلى نتنياهو مروراً بأسحق شامير وشارون، مدعومين من طيف واسع من هذا العالم، من أغراب يدعمون بالسلاح والعتاد والحماية السياسية، ومن أعراب يدعمون بالعجز والصمت وقلة الحيلة، فيما الشعب الفلسطيني يقف وحيداً مدعوماً فقط بدعاء غالبية الشعوب المستضعفة، وفي مقدمها الشعوب العربية التي لا حول لها ولا قوة، بعد أن سلبتها أنظمة الحكم العربية منذ الإستقلال وحتى اليوم حريتها، وسبل تنميتها وعيشها الكريم ،  وذلك كله – يا للمفارقة – بإسم فلسطين وقضيتها وتحريرها.  

سلَّم الشعب الفلسطيني مصيره مرغماً للدول العربية التي وعدته أو أوهمته بأن وقت العودة لن يطول فصبر عاضَّاً على جراحه في الخِيم التي أقامتها الأمم المتحدة

في البداية وتحت هول المأساة، سلَّم الشعب الفلسطيني مصيره مرغماً للدول العربية، التي وعدته أو أوهمته بأن وقت العودة لن يطول، فصبر عاضَّاً على جراحه في الخِيم التي أقامتها الأمم المتحدة، بعدها بدأت الأنظمة العربية التي سقطت في إمتحان 1948 تتساقط الواحد تلو الآخر  عبر إنقلابات عسكرية إتخذت من النكبة ذريعة للتسلق إلى السلطة، وبدأت المزايدات بين أنظمة الحكم الجديدة التي إختلفت على كل شيء، وإتفقت فقط على القضاء على النخب السياسية المدنية بذرائع مختلفة منها “التبعية للإستعمار” و “الفساد” و “الإقطاع”، وذلك كله بإسم فلسطين والإستقلال الوطني من جانب، وبإسم العدالة الإجتماعية من جانب آخر، فكان أن تسيَّد البعض من أهل الريف من أصحاب البدلات العسكرية، قبل أن تدِّب الخلافات بعدها فيما بينهم في صراع على السلطة مرير، خاصة في سوريا ومصر “جناحي” الأمة العربية بحسب الأدبيات القومية العربية السائدة يومها، والتي دخلت في وحدة “ما يغلبها غلاب” فيما بينها، فلم تستطع الإستمرار لأكثر من ثلاث سنوات، وكانت الغلبة فيها للإنفصال وإستمرار النزاعات التي كانت السلطة هي محورها، ودائماً الذريعة من كل الأطراف هي فلسطين وقضيتها.  

إنطلق الحلم لأول مرة مع إنطلاق حركة التحرير الوطني الفلسطيني – فتح – في الأول من كانون الثاني 1965على يد ثلة من شباب فلسطين في محاولة لأخذ مصيرهم بأيديهم

إنطلق الحلم لأول مرة مع إنطلاق حركة التحرير الوطني الفلسطيني – فتح – في الأول من كانون الثاني 1965، على يد ثلة من شباب فلسطين، في محاولة لأخذ مصيرهم بأيديهم، بعيداً عن سيطرة النظام العربي الرسمي، فكانت شرارة الثورة الفلسطينية، التي حظيت بدعم شعبي عربي واسع عبر إنضمام مئات الشباب العرب إليها، حتى كانت هزيمة 1967, التي لم تكن بأقل كارثية من النكبة، حيث ضاع المزيد من أراضي فلسطين, ومعها أراضٍ مصرية وسورية، فكان أن خبا الحلم، قبل أن يعود فيولد جراء معركة الكرامة التي خاضتها قوات الثورة الفلسطينية عام 1968، وبعدها حرب الإستنزاف على الجبهة المصرية، إلى أن كانت مبادرة روجرز عام 1970، وقبول جمال عبد الناصر بها ما عرَّضه لسيل من حملات التخوين، من قِبَل بعض الفصائل الفلسطينية اليسارية، التي بدأت تنشط على يسار حركة فتح، كالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة جورج حبش، التي كان عمادها حركة القوميين العرب، قبل إنشقاق الجبهة الديمقراطية بقيادة نايف حواتمة عنها.

هذه التعددية الثورية، ما لبثت أن أدت إلى صدام مع النظام الملكي الأردني، كنتيجة طبيعية للصراع بين السلطة والثورة، فكانت أحداث الأردن عام 1970، التي أريقت فيها الكثير من الدماء العربية في غير مكانها الصحيح، والتي كان العمل على وقفها من آخر مهام جمال عبد الناصر قبل وفاته في 28 أيلول 1970، فكان لوفاته وقع الصاعقة في مثل تلك الظروف، فكان أن خبا الحلم ثانية جراء هذه التطورات. عاد الحلم ليتجدد مع إنطلاق العمليات الفدائية، سواء عبر لبنان الذي إنتقلت إليه قوات الثورة الفلسطينية من الأردن، أو داخل الأراضي الفلسطينية كعملية مطار اللد، أو في أوروبا كعملية ميونيخ ضد الفريق الأوليمبي الصهيوني، وغيرها كعمليات خطف الطائرات، التي ساعدت يومها بلا شك على تعريف العالم بالقضية الفلسطينية، رغم الإنتقادات التي تعرضت لها. هذه النضالات كلها إضافة لنتائج حرب أكتوبر عام 1973 بين العرب وإسرائيل، أوصلت ياسر عرفات إلى الأمم المتحدة عام 1974، ليلقي خطابه من على منبرها، وينال تصويت وإعتراف الجمعية العامة بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني. 

هذا الإنتصار السياسي الذي جعل الحلم بنظر البعض أقرب إلى التحقق لم يدم طويلاً إذ بدأت تتكشف إتفاقيات فك الإشتباك على الجبهة المصرية

هذا الإنتصار السياسي الذي جعل الحلم بنظر البعض أقرب إلى التحقق، لم يدم طويلاً إذ بدأت تتكشف إتفاقيات فك الإشتباك على الجبهة المصرية، والرحلات المكوكية التي بدأها وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر في المنطقة، عن بداية عملية مفاوضات لم ترق للفلسطينيين وبعض الدول العربية الراديكالية، كسوريا والعراق وليبيا، التي بدأت تدخل على خط العمل الفدائي الفلسطيني، عبر تشكيل منظمات تابعة لها، بدأت بإستخدامها في صراعاتها البينية،  فإختلط الحابل بالنابل، ليعود الحلم ويخبو مع إنغماس فصائل منظمة التحرير الفلسطينية في الحرب الأهلية اللبنانية، مع ما رافقها من صراعات عربية وتصفية حسابات، ما أدى في النهاية إلى خروجها من بيروت إلى المنافي، بعد الإجتياح الصهيوني للبنان وعاصمته بيروت عام 1982. 

عاد الحلم ليتوهج، مع إنطلاق إنتفاضة الحجارة عام 1987، التي إنتهت مع إنطلاق عملية سلام مدريد، التي إنطلقت في أعقاب حرب تحرير الكويت من الغزو العراقي عام 1991، وأدت في النهاية إلى إتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل عام 1993، حيث عاد ياسر عرفات إلى غزة أولاً، وبعدها إلى الضفة الغربية ليقيم السلطة الفلسطينية عليها، بإنتظار مفاوضات الوضع النهائي بخصوص عودة اللاجئين ووضع القدس. 

كان عام 1995 عاماً سيئاً لعملية سلام أوسلو، وذلك بإغتيال شريك عرفات فيها إسحاق رابين، على يد متطرف يميني صهيوني، بدأت بعدها المتاعب والصعوبات في عملية التفاوض بين الجانبين بخصوص الوضع النهائي، خاصة مع صعود تيار اليمين مجدداً في إسرائيل، ما دفع حزب العمل بزعامة إيهود باراك للتشدد أكثر، ما أفشل قمة كامب ديفيد بينه وبين عرفات عام 2000، لتندلع بعدها إنتفاضة الأقصى، في أعقاب إقتحام أرييل شارون للمسجد الأقصى في 28 أيلول 2000.

مات الكبار لكن الصغار كبروا وحملوا الراية يسلمونها من جيل لآخر ليعلنوا بأن فلسطين باقية في الضمائر ما دام هناك جَنين في بطن أمه كما هي جِنين في بطن فلسطين

 إستمرت إنتفاضة الأقصى، التي تحولت بعدها إلى حرب حقيقية، نتيجة العنف الصهيوني حوالي خمس سنوات، تخللها حصار ياسر عرفات في مقره في رام الله، وإعادة إحتلال الضفة الغربية، وتقطيع أوصالها وإعتقال القائد مروان البرغوثي عام 2002 ولا يزال، كذلك معركة مخيم جنين الذي أبلى بلاءً حسناً بقيادة زكريا الزبيدي، ومن ثم إغتيال الرمز ياسر عرفات “الختيار” بالسم عام 2004، ليغدو بعده الحلم بعيد المنال، خاصة مع إنقسام الشارع الفلسطيني بين فتح في الضفة، وحماس في غزة التي باتت تعيش منذ سنوات تحت الحصار والنار، بينما تعيش الضفة الغربية التنكيل اليومي، ومصادرة الأراضي وزيادة معدلات الإستيطان، وصولاً إلى معركة جنين اليوم، التي سطر مخيمها مرة أخرى ملحمة بطولية، في الصمود والتصدي لقوات الإحتلال، رغم الخسائر والنكبات التي تعرض لها سكانه، ما أعاد إحياء الحلم مجدداً من رحم المعاناة، بأن ما فشل به كل من بيغن وشامير وشارون، من عتاة  اليمين الصهيوني الإرهابي على ما إرتكبوه من مجازر، لن ينجح به ورثتهم من أمثال نتنياهو وبن غفير وغيرهم مهما فعلوا.إنها حتمية التاريخ، وستنتصر مهما طال الليل وعم الظلام، فلا بد لليل أن ينجلي ولا بد للفجر أن يلوح، ليعلن عن صباح يوم مقبل، ما دامت هناك ذاكرة فلسطينية حيَّة، كسرت نظرية موشيه دايان بأن الكبار سيموتون والصغار سينسون، مات الكبار لكن الصغار كبروا وحملوا الراية يسلمونها من جيل لآخر، ليعلنوا بأن فلسطين باقية في الضمائر، ما دام هناك جَنين في بطن أمه كما هي جِنين في بطن فلسطين. 

السابق
مقتل لبناني رمياً بالرصاص في البراغواي
التالي
«الدين أفيون الشعوب».. في نسخته اللبنانية!