حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: بين الحليف السياسي وعامل الديليفري

حارث سليمان
يخص الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته الإلكترونية.

منذ خمسين عاما او أكثر، كان عامل التوصيل او ال Delivry يعمل بشكل رئيس في توصيل عبوات الغاز المنزلية وتبديلها، وفي احيان قليلة كان بعض اصحاب حوانيت البقالة، يرسلون مع اطفالهم بعض الخضار والفواكه الى بعض منازل سيدات احيائهم، كانت مهنة توزيع الخدمات الى المنازل تتضمن ايضا حركة عربات مدولبة، يجرها اصحابها في الشوارع، فيما تصدح اصواتهم بأنواعها واسعارها. وكانت تعلو نداءاتهم وترنيماتهم، تماما كما تعلو خطابات السياسيين والنواب وزعماء الاحزاب، من على المنابر العامة وفي الاعلام ووسائط التلفزة والاذاعة اليوم، حتى يدخل في خلد المراقب شك او سؤال، عن صلة ممكنة تربط باعة الامس وباعة اليوم.

في الماضي كان الغذاء والطعام يطبخ في المنازل، على ايدي ربات البيوت ومساعداتهن في حالة العائلات الميسورة، اما وظيفة المطاعم فكانت على الاغلب، مخصصة للمناسبات والسياحة والسفر والولائم في الاعياد والافراح والاحتفالات.

مع انخراط المرأة في العمل خارج المنزل، ومع انتشار طعام الوجبات السريعة، وظهور ما يدعى ال Lunch بدل وجبة الغداء الممتدة لثلاثة اطباق على الاقل (سلطة وطبق رئيسي وتحلية او فاكهة) انتشرت عمليات التوصيل الى المنازل بشكل واسع، واتت جائحة كورونا لكي تجعل من ظاهرة عمال ال delivery، والخدمة حتى باب البيت، ممارسة تطال كل منزل وكل عائلة.

ما حدث في الخدمات المنزلية وصناعة وجبات الطعام حدث مثله في السياسة وفي العلاقات الدولية

ما حدث في الخدمات المنزلية وصناعة وجبات الطعام، حدث مثله في السياسة وفي العلاقات الدولية، فنتيجة انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية حقبة من الاصطفافات الدولية، التي كانت تقوم على انتظام قوى واحزاب وتيارات ودول، تتبنى عقائد متآلفة وتقيم تحالفات دائمة، وتخوض صراعات مشتركة وتنخرط في منظومات عسكرية وثقافية ونقابية موحدة، وتواجه منظومات اخرى بعقائد اخرى ومناهج نقيضة، كان الطرف الحليف لدولة كبرى يفترض تأهيله من مستويات مختلفة؛ عقائدية كمنظومة الدول الاشتراكية، او عسكرية كحلف الناتو، او اقتصادية كتحالف ال G7 قبل ان يتوسع ليضم روسيا، ثم يتطور الامر الى دول العشرين. كانت السياسة الدولية محكومة بصلابة التحالفات وانتظامها، لدرجة ان اعداد كبيرة من الدول، خلقت لنفسها تحالفا يتجاوز صرامة الانقسام الدولي، فخلقت تحالف “دول عدم الإنحياز”.

كان الحليف يضبط ايقاع خطواته، ويرسم خياراته على ايقاع الحلف الذي ينتمي له، كبير التحالف يحرص على صغيره، وصغيره لا يخرج عن طاعة الكبير او يعبث بمصالحه ( دول المعسكر الشرقي وكوبا).

كان الحلف كأسرة في منزل، له سيدة تديره وله رب اسرة يتمتع بسلطة، تضبط سلوك العائلة وادوار افرادها (اميركا ودول حلف الناتو).

مع سيادة مفاهيم اقتصاد السوق، وانفتاح حدود الدول امام التجارة، والتبادل الحر المفتوح للرساميل والسلع والافراد والاعمال، الساعي بدأب الى الربح، نشأ الى جانب اقامة التحالفات والمنظومات المندمجة، نمط علاقات دولية جديدة، تنفلت من الالتزام بضوابط التحالف واجراءاته وسلوكياته التقليدية، وتذهب الى تحديد اهداف محددة، وتلبية مصالح مبتغاة، يوكل أمر تنفيذها وتحقيقها لأطراف خارج تحالفها، وفي اغلب الاحيان تعتمد على قوى في معسكر الخصوم واعضاء في نادي الاعداء.

تغيرت العلاقات الدولية واستراتيجيات تنفيذها، فأصبحت كل دولة، حتى وان كانت داخل حلف او منظومة سياسية او عسكرية او تجمع اقتصادي، تلجا الى تجزئة سياساتها وتقسيم وتنويع مصالحها

فكما حل نسبيا، في إطعام العائلة، عامل التوصيل بدل ربة المنزل، وحلت الوجبات السريعة بدل مائدة الاسرة، تغيرت العلاقات الدولية واستراتيجيات تنفيذها، فأصبحت كل دولة، حتى وان كانت داخل حلف او منظومة سياسية او عسكرية او تجمع اقتصادي، تلجا الى تجزئة سياساتها وتقسيم وتنويع مصالحها، بحيث تنفذ بنفسها بعضا منها، وتوكل الى حليف بعضا آخر، فيما يتولى، بناء لمقايضات متبادلة، او تسويات غير معلنة، طرف من معسكر الاخصام، تنفيذ المهمة المتوخاة وتامين انجازها، بحيث حل فتى ال Delivry السياسي، ينفذ من موقعه، ما قد لا يقوى على تنفيذه حليف اصيل محسوم الولاء.

لذلك ظهرت في معارك الصراع الدولي والاقليمي واستراتيجياته، تقنية سياسية جديدة، لا تهتم فقط بهندسة وترسيم معسكر الاصدقاء، بل وبشكل اعمق بهندسة واعادة ترسيم معسكر الاعداء.

لعب نظام الاسدين في سوريا دور عامل الديليفري السياسي لصالح اميركا في الشرق الاوسط، على مدى اربعين عاما، من تسليم الجولان، الى ازمة احداث جرش وعجلون، الى تصفية فصائل حركة التحرر العربية في لبنان وفلسطين والاردن، وتأمين حدود اسرائيل الشمالية، كما لعبت ايران دورا مركزيا في مواجهة ثورات الربيع العربي في سوريا واليمن، وواجهت بعنف ثوار التيشرينين في لبنان والعراق، كما سهلت وتواطأت في حربي أميركا لاحتلال افغانستان والعراق، وشجعت انفصال غزة عن السلطة الفلسطينية في رام الله، كما هيأت مع نظام بشار الاسد، كل ما يلزم لسيطرة داعش في مهلة قصيرة على معظم العراق وسوريا.

ما فشلت اسرائيل في تحقيقه يوم اجتاحت لبنان سنة ١٩٨٢، امنته ايران وحزب الله، في اتفاق ترسيم الحدود البحرية

وما فشلت اسرائيل في تحقيقه يوم اجتاحت لبنان سنة ١٩٨٢، امنته ايران وحزب الله، في اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل سنة ٢٠٢٣.

ولذلك شهدنا على مدى العقود الماضية، انهيار قضايا الحرية والعدالة والتنمية في كل دول المشرق العربي، كما شهدنا تراجع القضية الفلسطينية ودوام ازمتها، في وقت تعلو اهازيج عامل الديليفري وصيحات انتصاراته، فوق سطح من خراب شامل في كل المنطقة. فعامل الDelivry بخير يتكسب، وشعوب المنطقة في فم الوحش تتعذب.

السابق
«تفجيران» أمام المجلس العدلي.. «حارة حريك» ينطلق و«جبل محسن» يتثبت من مقتل ابو مالك التلي وشادي المولوي!
التالي
«لودريان ميّز فرنجية عن غيره».. هذا ما كشفه بري