البحث عن «تقاطُع» عابِر للاصطفافات: سيناريوهات الأزمة الرئاسية اللبنانية بعد فشل ترشيح أزعور وفرنجية

نبيه بري مجلس النواب

أمام الفراغ المستمر في رئاسة الجمهورية اللبنانية وتمسُّك الثنائي الشيعي بترشيح سليمان فرنجية المرفوض من الأغلبية المسيحية، نجحت جولات من المفاوضات بين قوى المعارضة على تنوعها والتيار الوطني الحر بزعامة جبران باسيل، صاحب الموقف شديد الرفض لترشح سليمان فرنجية، في التقاطع على اسم وزير المالية الأسبق جهاد أزعور، الأمر الذي شكّل ضغطاً على رئيس مجلس النواب نبيه بري للدعوة إلى جلسة لانتخاب رئيس الجمهورية، هي الثانية عشرة، في 14 يونيو 2023، لم تنجح -كما كان متوقعاً- في انتخاب رئيس للجمهورية، دون أن يغير ذلك الاصطفافات الحالية المستجدة بعد، ولينفتح أفق الفراغ الرئاسي على احتمالات متنوعة.

السياق وجلسة تنافُس أزعور وفرنجية

مع نهاية ولاية الرئيس اللبناني السابق ميشال عون آخر في آخر أكتوبر 2022، سيطر الفراغ الرئاسي على لبنان دون انتخاب بديل له يملأ سدة الرئاسة في قصر بعبدا، وعلى الرغم من انعقاد 11 جلسة رئاسية انتخابية في مجلس النواب طوال الأشهر الماضية، لم يتمكن أغلبية النواب من الاتفاق على مرشح يدعمونه للوصول إلى الرئاسة، مع أن جزءاً من نواب المعارضة اللبنانية كانوا قد اتفقوا في فترة سابقة على دعم المرشح ميشال معوض الذي تراوحت حصته من أصوات النواب في حدود 34 إلى 44 صوتاً.

بعد آخر جلسة انتخابية في يناير 2023، بادر الثنائي الشيعي في مارس الماضي إلى إعلان دعم ترشيح سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية دون أن يترافق ذلك مع دعوة رئيس مجلس النواب نبيه بري إلى جلسة انتخابية جديدة، ويُعتقد أن الثنائي عوّل على قدرة حزب الله في إقناع جبران باسيل، وقدرة نبيه بري في إقناع وليد جنبلاط بفرنجية، الأمر الذي لم يَجرِ كما خُطط له.

اقرأ أيضاً: وجيه قانصو يكتب ل«جنوبية»: لبنان بين تناقضات الداخل ومؤثرات الخارج!

تشكل كلمة “تقاطع”، التي أجمعت عليها قوى المعارضة والتيار الوطني الحر بشأن اتفاقهم على ترشيح جهاد أزعور، المفتاحَ لفهم الحالة السياسية المستجدة بينهم، إذ لا يعني ما حصل تحالفاً سياسياً كاملاً، أو خروجَ كل فريق عن ثوابته، بل يعني مجرد اتفاقهم على مرشح واحد في وجه مرشح الثنائي الشيعي، مع بقاء أجندة كل فريق من القوى السياسية الداعمة لأزعور على حالها.

من هنا أعلن رئيس مجلس النواب نبيه برّي عن جلسة هي الثانية عشرة لانتخاب رئيس للجمهورية، سبقتها حسابات كثيرة وتصريحات عن ضغوط مورست على النواب، وأسفرت الجلسة في دورتها الأولى عن نيل أزعور 59 صوتاً وفرنجية 51 صوتاً، من أصل 128 صوتاً، قبل أن ترفع الجلسة قبل الدورة الثانية لانسحاب نواب الثنائي الشيعي وحلفائهما منها، مُفقدين الجلسة النصابَ القانوني المطلوب.

بقيت الأصوات الفعلية التي نالها جهاد أزعور ضمن الحدود المتوقعة سلفاً، إذ توزعت الأصوات بحسب التقديرات الأكثر ترجيحاً كما يأتي: 18 صوتاً من القوات اللبنانية، و11 على الأغلب من التيار الوطني الحر، و9 أصوات من القاء الديمقراطي، و4 من الكتائب، و4 من كتلة التجدد، و9 من التغييريين، و4 من المستقلين. في حين كان من المرجح ارتفاع الأصوات التي نالها أزعور لو وصلت الجلسة إلى دورة ثانية من الانتخاب.

أما سليمان فرنجية فقد نال 30 صوتاً من الثنائي الشيعي، و4 أصوات من التكتل الوطني المستقل المحسوب على فرنجية نفسه، و5 من كتلة التوافق الوطني المقربة من حزب الله، و3 من النواب الأرمن، و5 من نواب مستقلين، و2 من اللقاء النيابي المستقل، و2 مجهولو المصدر قد تكون من كتلة التيار الوطني الحر. حصل أيضاً الوزير السابق زياد بارود على 6 أصوات، وقائد الجيش جوزف عون على صوت واحد، في نال شعار “لبنان الجديد” 8 أصوات، وكانت هناك ثلاث أوراق تصويت ما بين ملغاة وبيضاء وضائعة.

المواقف الدولية والمحلية

المواقف الدولية من الاصطفاف الطارئ في معركة رئاسة الجمهورية في لبنان غير محسومة هي الأخرى، قد يكون ذلك ناتجاً عن قناعة بأن تقاطع المعارضة اللبنانية والتيار الوطني الحر على ترشيح أزعور، في قسمها المسيحي بشكل خاص، يبقى في دائرة المناورة لإسقاط ترشيح فرنجية وإحراج الثنائي الشيعي.

سعت فرنسا، التي تُعد المتعهد الدولي الرئيس للأزمة اللبنانية، إلى تظهير مبادرة ترتكز على التوافق على فرنجية لرئاسة الجمهورية مقابل السفير نواف سلام لرئاسة الحكومة، إلا أن المبادرة لم تلقَ تجاوباً من كل الأطراف المتصارعة، وعقب جلسة مجلس النواب الأخيرة يمكن اعتبارها في حكم الساقطة. ما حصل يدفع الفرنسيين إلى إعادة دراسة دورهم في الأزمة الرئاسية اللبنانية، دون أن يرفضوا أزعور أو يدعموه علناً. على المدى البعيد تبقى المصلحة الفرنسية مرتبطة بحسن العلاقة مع حزب الله، بوصفه اللاعب الأقوى في البلاد ولو تعثر أو فشل في إيصال مرشحه إلى رئاسة الجمهورية. في هذا الإطار يصل إلى بيروت خلال الأيام المقبلة الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لو دريان في زيارة لمدة ثلاثة أيام يُتوقع خلالها أن يقوم بجولة على القوى السياسية اللبنانية لاستمزاج آرائها ومواقفها، وإعادة تقييم المبادرة الفرنسية تجاه ملف الفراغ الرئاسي اللبناني.

ومن ناحية الولايات المتحدة فلا إشارة علنية مؤيدة لأزعور، إشارة من شأنها إنْ صدرت فستكون سلاحاً في يد الثنائي الشيعي ضد المرشح المناوئ لفرنجية، ولكنْ من المنطقي القول إن الخيارات الأمريكية تبقى أقرب إلى أزعور منها إلى فرنجية، نظراً لارتباطات كل من المرشحَين الداخلية والخارجية، وبخاصة مع الدفع الأمريكي نحو عقد الجلسة الانتخابية الأخيرة.

أما من جهة المملكة العربية السعودية، وعلى منوال سياستها الجديدة تجاه لبنان، فلم يصدر عنها ما يشير إلى ضغوط على نواب سُنة أو مُقربين منها لدعم أزعور، ويؤكد سلوك هؤلاء النواب خلال الجلسة الانتخابية الأخيرة هذا التوجه، وبخاصة بعد ما فُسِّر بأنه تقارب بين السعودية وفرنجية بعد الاتفاق السعودي-الإيراني وقبل تقاطع المعارضة والتيار الوطني الحر على أزعور. بغض النظر عن تدخل أو تأثير سعودي في المعركة الرئاسية الحاصلة، يمكن القول بأن هزيمة مرشح الثنائي الشيعي على يد مرشح قوى المعارضة، المتمثل بجهاد أزعور الذي كان وزيراً محسوباً على تيار المستقبل في حكومة فؤاد السنيورة، نتيجةٌ -إن حصلت- لن تُحزن الرياض.

داخلياً، الحالة التي وصل إليها السباق الرئاسي في لبنان فريدة من عدة جوانب، فشبه الإجماع المسيحي -حتى الآن- ولو على شكل تقاطع لا تحالف على جهاد أزعور غير مسبوق منذ سنوات، وهو يعبّر عن صراع سياسي يتضمن وقوفاً صلباً في وجه رغبة حزب الله وخياره، ويظهر أن نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة التي أفرزت تراجع حصة قوى “8 آذار” قد يُبنى عليها -ولو في حالات استثنائية- لمنع حزب الله من ممارسة دور الحاكم المطلق المتحكم في مسار البلاد. صحيح أن وصول أزعور إلى رئاسة الجمهورية كان ولا يزال أمراً مشكوكاً فيه، لكن الرفض اللبناني بشكل عام، باستثناء القوى السياسية الشيعية، مع أغلبية مسيحية في وجه خيار الحزب هو رفضٌ صلبٌ ومن الصعب تجاوزه.

يبدو من الصعب الجزم بجدية نوايا داعمي جهاد أزعور على اختلافهم في إيصاله فعلياً من خلال التصويت له إلى رئاسة الجمهورية، لكن من الثابت اتفاقهم الضمني على إسقاط ترشيح سليمان فرنجية من خلال طرحهم مرشحاً مقابلاً يحوز دعم الأغلبية الكبرى من المسيحيين مُمثلين في كتل القوات اللبنانية وأغلبي التيار الوطني الحر والكتائب ومسيحيين مستقلين، فنيله عدداً أكبر من الأصوات من منافسه سليمان فرنجية، قد يُفرز -بحسب مقاربتهم- سقوطَ الترشيحَين، فرنجية وأزعور، والذهاب بالتالي إلى الاتفاق على اسم ثالث، وهو الأمر الذي لم تظهر بوادر جدية بشأنه حتى الآن، بعد أيام من الجلسة الانتخابية الثانية عشرة.

من خلال هذه المناورة السياسية الشائكة حاولت الأطراف الداعمة لأزعور التخلص من ترشيح فرنجية المزعج بالدرجة الأولى للقوات اللبنانية والتيار الوطني الحر، فهو يمثل للأولى مرشحاً محسوباً على قوى الممانعة و”8 آذار”، وشديد القرب من زعيم حزب الله حسن نصر الله والرئيس السوري بشار الأسد، في حين يمثل لزعيم التيار الوطني الحر جبران باسيل منافساً داخل ملعبه بوصف باسيل الحليف المسيحي القوي التقليدي لحزب الله على الرغم من تهالك اتفاق مار مخايل الذي يجمعهما، على خلفية المعركة الرئاسية الحالية.

ما يُشكك في نوايا القوى الداعمة لأزعور تجاه إيصاله فعلياً إلى رئاسة الجمهورية هو غياب عميق للثقة بين قوى المعارضة والتيار الوطني الحر، إذ لا يمكن النظر إلى تقاطعهم اليوم إلا في إطار المناورة السياسية المحدودة، لا بوصف أزعور خيارهم الجدي لرئاسة الجمهورية وإنْ كانت أغلب قوى المعارضة لا تمانع وصوله إلى الرئاسة إن كان البديل الوحيد المتوفر عن فرنجية، في حين يبدو أن لجبران باسيل خيارات أخرى قد يكون أبرزها بحسب المتداول وزير الداخلية الأسبق زياد بارود بعد إسقاط ترشيح فرنجية والانتقال للتحاور حول اسم ثالث.

يبرز هنا بشكل خاص الدور الذي يلعبه جبران باسيل على رأس التيار الوطني الحر بوصفه حليفاً رئيساً تقليدياً، وطنياً ومسيحياً، لحزب الله منذ تفاهم مار مخايل عام 2006، إذ يتشبث باسيل برفض وصول فرنجية إلى رئاسة الجمهورية، فمع قناعة باسيل بصعوبة وصوله حالياً إلى قصر بعبدا يرفض أن يُفرض عليه واحدٌ من منافسيه التقليديين من خارج دائرة سيطرته، مُخاطراً حتى الحدود الأقصى بتحالفه المتداعي مع حزب الله، وهو التحالف الحيوي له في الانتخابات النيابية والتعيينات الإدارية وبالطبع في أي معركة رئاسية يكون جبران باسيل مرشحاً فيها.

لم يكتف باسيل بالمخاطرة بتحالفه مع حزب الله، بل هدد أيضاً تماسك كتلته النيابية ووحدة التيار الوطني الحر بالتزامه مع قوى المعارضة دعم ترشيح جهاد أزعور والتصويت له، فمع موافقة بعض الصقور في التيار على رفض ترشيح فرنجية لم يتقبلوا فردية باسيل وترشيح شخصية كأزعور، وبخاصة مع بروز طموحات لدى بعضهم، سواء داخل التيار أو في سباق رئاسة الجمهورية نفسه، وهو الأمر الذي تُرجم في انخفاض عدد الأصوات التي نالها أزعور من نواب التيار الوطني الحر والتي يُعتقد أن بعضها ذهب حتى إلى المرشح المنافس المرفوض من باسيل أي سليمان فرنجية.

يترافق كل ذلك مع تكرار جبران باسيل في مناسبات مختلفة سبقت الجلسة وتبعتها، حرصه على التفاهم مع حزب الله على الرغم من إشارته إلى الحالة التي يعاني منها هذا التفاهم، وتشديده على الحوار في سبيل الوصول إلى انتخاب رئيس للجمهورية، حوار يُفهم أن المَعني الأول به هو حزب الله بشكل خاص وبالدرجة الأولى.

من هنا يمكن فهم موقف حزب الله المتشنج في رفض ترشيح أزعور، هذا الرفض وإن أتى شكلاً مَبنياً على تاريخ أزعور في حكومة السنيورة (2005-2008) ودوره في صندوق النقد الدولي، إلا أنه في الحقيقة موقف مُوجه ضد فعل معارضة حزب الله، فقد شدد الحزب على لسان نوابه على رفض وصول أزعور إلى رئاسة الجمهورية بوصفه “مرشحَ تحدٍّ”، مع التهديد بأن نَفَس الحزب طويل والتعويل على الوقت لن يصب في مصلحة معارضيه، وكأنها إشارة إلى الفراغ الرئاسي الطويل الذي سبق انتخاب مرشح حزب الله ميشال عون رئيساً للجمهورية عام 2016.

في الواقع نجح حزب الله وحركة أمل في حشد ما أمكن من الأصوات لمرشحهما سليمان فرنجية، وحجْب بعض الأصوات عن أزعور، وربما تحويلها إلى فرنجية كي لا يكون فارق الأصوات في الجلسة المذكور بينهما مرتفعاً على نحو يدعم مسعى داعمي أزعور -لو لم ينجحوا في إيصاله إلى قصر بعبدا- في القول بأن الفارق الكبير يُسقط ترشيح فرنجية ويُضعف موقفه وموقف داعميه. بهذا يبدو أن الثنائي الشيعي قد نجح في إبقاء ترشيح فرنجية على قيد الحياة، على الرغم من نيله عدداً أقل من أصوات منافسه الحالي جهاد أزعور.

وبعيداً عن ملعب القوى السياسية المسيحية الأبرز، اختارت كتلة الحزب التقدمي الاشتراكي بزعامة وليد جنبلاط دعم ترشيح جهاد أزعور في خطوة لم تكن متوقعة كثيراً مع تفضيل جنبلاط الخيارات التوافقية والبُعد عن معاداة الثنائي الشيعي ما أمكن. أما النواب التغييرين، الذين انفرط عقد تكتلهم عملياً قبل أشهر، فقد منح 9 منهم أصواته لأزعور، في حين صوت 3 آخرين منهم لزياد بارود.

من جهة القوات اللبنانية لم يكن جهاد أزعور هو خيارها الأمثل، ولكنْ تبقى الرغبة في إسقاط ترشيح فرنجية ومواجهة تسلط حزب الله أقوى، ما سمح لسمير جعجع بالقبول بأزعور وتصويت كتلة القوات كاملة له، باعتباره الاسم الذي أمكن التقاطع عليه مع زعيم التيار الوطني الحر جبران باسيل في خطوة يشوبها الكثير من الحذر وعدم المراهنة على ثبات طويل لباسيل على موقفه، فلكلٍّ من القوتين المسيحيتين دوافعها لهذا التقاطع، ولا تَخفى على أحد رغبة باسيل في محاورة حزب الله بشأن مرشح ثالث.

بعد الجلسة النيابية الانتخابية التي شدت إليها أنظار اللبنانيين والمراقبين، يبدو من الواضح أن حزب الله لن يتخلى عن دعم مرشحه سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، لا لشخص فرنجية والصفات التي يتمتع بها، بقدر الاهتمام بحفظ هيبة حزب الله وصورته بوصفه القوة المسيطرة في البلاد والملتزمة الوفية بخياراتها ودعمها لحلفائها.

السيناريوهات المحتملة

بعد انتهاء الجلسة المذكورة بالطريقة التي ظهرت عليها، يقف الملف الرئاسي في لبنان أمام سيناريوهات أربعة مرتبة أدناه من أكثرها إلى أقلها ترجيحاً:

السيناريو الأول، استمرار الفراغ في رئاسة الجمهورية مع أو من دون الدعوة إلى جلسات نيابية انتخابية جديدة؛ ففي ظل التوازنات الحالية لمجلس النواب، لا مرشح لدى أي من القوى السياسية قادراً على الفوز في الدورة الأولى بثلثي أصوات النواب (86 صوتاً)، في حين يملك كلٌّ من الفريقين القدرة، بل النية المعلنة، على تعطيل أي جلسة انتخابية سواء في الدورة الأولى أو الثانية.

ما يدعم هذا السيناريو هو عدم قدرة الجلسة الانتخابية الأخيرة على تغيير واقع الاستعصاء الحاصل قبلاً في ملف انتخاب رئيس الجمهورية؛ فالثنائي الشيعي ثابت على دعمه لفرنجية وليس في وارد التراجع عنه، والقوى المسيحية والتغييريون ثابتون بدورهم على رفض فرنجية ولو كان اتفاقهم على رفض فرنجية أقوى من أي اتفاق حاصل أو مقبل على مرشح منافس. وما يعيق تحقق هذا السيناريو هو الضغط الدولي، الأمريكي-الفرنسي بشكل خاص، الذي وصل إلى حد التهديد بعقوبات على معرقلي الانتخاب للدفع باتجاه انتخاب رئيس. في هذا الشأن قد يلجأ رئيس مجلس النواب إلى الدعوة إلى جلسات انتخابية جديدة لذر الرماد في العيون، مُظهراً أنه يلعب الدور المطلوب منه في الشكل أقله لتسهيل انتخاب رئيس، ومُساهماً في إظهار تضعضع تقاطع قوى المعارضة والتيار الوطني الحر على ترشيح جهاد أزعور.

السيناريو الثاني، تمكُّن الثنائي الشيعي من الوصول إلى تفاهم مع التيار الوطني الحر أو الحزب التقدمي الاشتراكي و/أو كتلة الاعتدال الوطني. فتفاهُم من هذا النوع سيرفع أصوات النواب الداعمين لفرنجية لتصل إلى 65 صوتاً أو أكثر، مما يقوي موقف فرنجية والثنائي الشيعي من خلفه. وقد يسمح سيناريو عدم تعطيل النصاب إلى انتخابه فعلياً في دورة انتخابية ثانية من جلسة مقبلة.

ما يرفع حظوظ تحقق هذا السيناريو، قابلية كتلتي التقدمي الاشتراكي والاعتدال الوطني لتغيير موقفهما، والاستجابة لرغبة نبيه بري المقرب من جنبلاط تاريخياً، والخضوع لضغط حزب الله الذي يملك في جعبته الكثير من أساليب الضغط على مخالفيه. أما ما يضعف من حظوظ تحقق هذا السيناريو فهو ثبات جبران باسيل العنيد على رفض أي نقاش يُفضي إلى أن يدعم ترشيح سليمان فرنجية، فباسيل منفتح على نقاش خيار ثالث مع حزب الله في حين أن هذا الأخير ليس في وارد التخلي عم ترشيحه لفرنجية. وما قد يُضعف مثل هذا السيناريو أيضاً تغيير الرياض سياسة الحياد تجاه الأزمة السياسية في لبنان، في حال وجدت أن التوافق مع إيران لا يحقق لها النتائج المرجوة في الملف اليمني، فتعمل على الضغط جنبلاط للثبات على موقفه.

السيناريو الثالث، توافق الداعمين لترشيح جهاد أزعور على اسم جديد يمكن أن يجمعوا خلفه عدداً أكبر من الأصوات التي نالها أزعور، بما في ذلك أصوات مَن لم يصوت لأزعور من التغييريين وكتلة الاعتدال الوطني. فشل أزعور في الوصول إلى 65 صوتاً في الجلسة السابقة، والاحتمالية الكبيرة لعدم وصول جبران باسيل إلى تفاهم مع حزب الله على اسم ثالث، قد يدفع بهذا السيناريو إلى الواجهة كخيار جديد لباسيل وقوى المعارضة. لكن نجاح سيناريو من هذا النوع سيُفضي إلى تكرار تجربة أزعور، حتى ولو نال المرشح الجديد المفترض عدداً أكبر من الأصوات التي نالها أزعور. قد يُحرج نيل هذا المرشح 65 صوتاً الثنائي الشيعي وفرنجية، ولكن حائط الانسحاب من الجلسة وتعطيل النصاب يبقى واقفاً في وجه وصول هذا المرشح إلى رئاسة الجمهورية.

السيناريو الرابع، بروز رعاية خارجية مقترنة بالضغط للوصول إلى تسوية شاملة تضم إلى ملف رئاسة الجمهورية ملفات أخرى، من قبيل رئاسة الحكومة وغيرها. يستقي هذا السيناريو احتماليته من اتفاق الدوحة عام 2008 الذي أفضى إلى انتخاب ميشال سليمان رئيساً للجمهورية حينها، ضمن صفقة متعددة الجوانب، وأيضاً من انتظار بعض القوى السياسية اللبنانية الإشارة الخارجية أو حتى التدخل الذي اعتادوا عليه في السابق. لكن على الرغم من قدوم الموفد الفرنسي الرئاسي إلى لبنان قريباً، لا يبدو أن ظروف وإمكانيات تحقق تسوية مماثلة متوافرة في المدى القريب المنظور، فضلاً عن أن السعودية، اللاعب الإقليمي المهم، قد لا تجد من مصلحتها تغيير موقفها الحيادي تجاه أزمة الشغور الرئاسي اللبناني، وهذا ما تجلى في هامشية الموضوع اللبناني على أجندة الدبلوماسية السعودية في الشهر الحالي، سواء في زيارة وزير الخارجية فيصل بن فرحان لطهران أو زيارة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لباريس.

خلاصة

لا يزال داعمو المرشحَّين جهاد أزعور وسليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية اللبنانية، مُصرّين -حتى اللحظة- على خياراتهم بالرغم من نتائج الجلسة الانتخابية الأخيرة، ولكن ثبات الثنائي الشيعي خلف ترشيح فرنجية الذي لم تنجح القوى المناوئة له في إسقاط ترشحيه يبدو أقوى من تقاطع قوى المعارضة والتيار الوطني الحر على دعم أزعور، ومن المرجح أن تحمل الأيام المقبلة مؤشرات أوضح على تضعضع هذا التقاطع.

ويبقى ما حصل مناسبةً مهمة للتعامل الديمقراطي مع الفراغ والاستعصاء السياسيَّين، وفرصة للانطلاق منه إلى حل جديد بطرح مرشح ثالث تتوافق عليه أغلب القوى المتناحرة اليوم. ولا يكمن التحدي في التوافق على اسم المرشح الثالث فحسب، بل يكمن أيضاً في التوافق على البرنامج الذي سيحمله هذا المرشح في حال وصل إلى قصر بعبدا، وقد يتطلب الوصول إلى مثل هذا التوافق حول منصب رئيس الجمهورية اتفاقاً أوسع برعاية دولية-إقليمية، يشمل أيضاً التوافق على منصب رئيس الحكومة، كما حصل عام 2008، وإلا فإن البلد سيُواجه مصير الفراغ السياسي الطويل الذي سيعني انهيار ما تبقى من مؤسساته وانفجاراً اجتماعياً واسعاً.

وفي الأخير، يظهر أن الاصطفاف الحاصل اليوم، على تناقضاته وعوامل ضعفه، يعبّر عن إمكانية الوقوف -في حال توافر الظروف- في وجه هيمنة حزب الله على السلطة الفعلية في البلاد.

السابق
بعد واشنطن.. إطلاق لجنة التنسيق اللبنانية – الفرنسية من باريس
التالي
العودة إلى سياسة «صفر مشكلات»: مستقبل التطبيع التركي-السوري بعد فوز الرئيس أردوغان بولاية ثالثة