وجيه قانصو يكتب ل«جنوبية»: الانتقال إلى طور مواجهة جديد

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

خرج مشهد السباق الرئاسي في لبنان من أن يكون مشهدا سياسياً، أو تجسيداً لحياة ديمقراطيةً، أو تنافساً على سلطة وفق قواعد محددة، بل حتى خرج من كونه استحقاقاً دستورياً يضمن الإنتقال السلمي والهادىء للسلطة. مشهد لم تعد تحكمه قاعدة أو مبدأ، ولا يسوغه عقل أو منطق. فلعبته فن العبث، وحرفته ابتكار الكلمات الساقطة، وافتخاره التفاهة والغباء، وهوايته التسلي بيأس الناس وكراماتهم المبعثرة فوق حقول الموت، وغايته العدم النافي لكل صور الحياة، والسالب لكل معاني الوجود.

ما يحصل هو كسر لكل عرف ذي قيمة في لبنان بل لكل أعراف العالم


ما يحصل هو كسر لكل عرف ذي قيمة في لبنان، بل لكل أعراف العالم، تحطيم لكل ذاكرة جميلة، تفتيت لكل رابط جامع، تذرية لكل مشترك، دفع الغرائز إلى ذرى عدوانية قياسية، تلوث يحقن الفضاء بسموم العبارات، ويزرع في النفوس السآمة من كل قيمة للأشياء، ودافع للمبادرة أو حتى رغبة بالبقاء.

الدستور لا يمكن أن ينصّ على ما ينفيه وهو الفراغ والتعطيل


 لم يعد هنالك نص دستوري يسوّغ أو يفسر ما يحدث. فالدستور لا يمكن أن ينصّ على ما ينفيه، وهو الفراغ والتعطيل. ففكرة النصّ(دستوري كان أم قانوني) هي لسدّ الطريق على الطباع المتقلبة، والأمزجة المستبدة والفهم الاعتباطي. حين ينص الدستور على وجوب نصاب الثلثين، فغرضه اقتراب الرأي من الإجماع ومنع استبداد الأكثرية، ومع عدم إمكان ذلك، يكون اعتماد الأكثرية هو الخيار الأنسب. لكن نصاب الثلثين لا يمكن أن يدل بأي حال، على أن يكون ورقة تعطيل بيد الثلث الآخر، أو أداة لموقف مزاجي تفرضه الأقلية على الأكثرية.

ما يعني ان الضمانة لا تمنح الأقلية العددية في المجلس النيابي الحق في أن تملي على الأكثرية ما تريد أو يكون ذلك ورقة لها لتعطيل المجلس النيابي وإبقاء الفراغ إلى ما لا نهاية


فإذا كان غرض نصاب الثلثين هو لأخذ رأيّ الاقليّة العددية بعين الاعتبار، أي هي ضمانة، والضمانة مفهوم سلبي لا إيجابي، قصد منها أن تكون أداة منع وقيد ضد الأكثرية لحماية الأقلية، وليست أداة إثبات أو صلاحية بيد الأقلية. ما يعني أن الضمانة، لا تمنح الأقلية العددية في المجلس النيابي، الحق في أن تملي على الأكثرية ما تريد، أو يكون ذلك ورقة لها لتعطيل المجلس النيابي، وإبقاء الفراغ إلى ما لا نهاية. فهذا ليس منطق دستور، بل منطق قتل للدستور نفسه، وإفناء لكل أوجه الحياة العامة، وحالة عبث سياسية.

انتخاب الرئيس لا بد أن يكون فورياً ومباشراً لا يحتمل التأجيل والتسويف


إذا نص الدستور على وجوب المبادرة فوراً إلى انتخاب الرئيس، فإن هذا يعني أن انتخاب الرئيس لا بد أن يكون فورياً ومباشراً، لا يحتمل التأجيل والتسويف، وكل تأجيل أو إدخال البلاد في الفراغ، ليس فقط هو تعطيل للدستور، بل إفراغه من كل محتوى ومعنى.

حين ينص الدستور على وجوب انتخاب رئيس للجمهورية، فإن ملء هذا المنصب يكون لا مشروطاً، بمعنى عدم جواز ربطه بأي شيء غير منصوص عليه في الدستور، وإلا بات مقيّداً ومرهونا وخاضعاً لغيره. انتخاب الرئاسة من دون شروط يتناسب مع كون هذا الموقع المعبّر الأول عن السيادة المطلقة للدولة، وأي شرط أو قيد مسبق للرئاسة، من قبيل تغطية سلاح أو ولاء لمحور أو ضمانة لحزب، فهو حجرٌ للسيادة نفسها، ووضع الرئاسة بتصرف قوة فرعية ومذهبية، خارجة في أكثر مسلكياتها عن منطق الدولة.
من هنا، لا يمكن اعتبار ما حصل ويحصل لعبة تنافس بين حملات انتخابية على رئاسة الجمهورية، ولا يمكن اعتباره أداءً مستوحى من الدستور ومن وحي نصوصه. لا يمكن تسويغ فشل اثني عشر جلسة نيابية مظهراً للديمقراطية، أو اعتباره تقليداً محلياً يفتخر ويتباهى به اللبنانيون. سياق الاحداث يُفصح بنحوٍ غير مباشر على مقاصد لم تعلن، وأغراض تتخفى خلف العبارات المموهة والإشارات الملتبسة، وسيناريوهات مرسومة تنفذ بهدوء وثبات لكن بطريقة مواربة. ما يشي بأن انتخاب رئيس الجمهورية لم يعد هو الهدف أو الغرض، بل يكاد موضوع انتخاب الرئيس داخل المشهد الراهن هامشياً وثانوياً، لأن إشكالية الصراع في مكان آخر، وذات عمق تعدت بخطورتها مشكلة الفراغ الرئاسي.

لا يمكن تسويغ فشل اثني عشر جلسة نيابية مظهراً للديمقراطية او اعتباره تقليداً محلياً يفتخر ويتباهى به اللبنانيون


ما يحصل حلقة من مسار تحويلي كامل للبنان، بمستويات مختلفة وأبعاد متعددة. مسار لم يعد بالإمكان إخفاءه والتستّر عليه، ولم يعد بالإمكان التظاهر بعدم وجوده، والإصرار على أن الحياة السياسية ما تزال محكومة لمبادىء وقواعد راسخة وثابتة.
حبذا لو تتوقف لعبة التكاذب المملّة والمقزّزة، ويكشف كل طرف عما وراء الستار بالإفصاح عن مشروعه الفعلي، وعن حقيقة اللبنان الذي يطمح ويريد.  
آن أوان انتقال الجميع إلى طور مواجهة جديد، بعد أن استنفدت لعبة الصراع، بشكلها وتوزيعها القائم، جميع أغراضها واستهلكت جميع صورها المحتملة.

السابق
بعد رفضها إزالة منشور ضد الحلبي.. توقيف الناشطة شاهين!
التالي
بو حبيب يدعو لحوار بنّاء وصريح في موضوع النازحين