من أنشاص إلى جدة.. قمة عربية واحدة ذات «ديباجة» خالدة!

ياسين شبلي

 إنتهت القمة العربية الأخيرة في مدينة جدة السعودية، ب”الديباجة” المعهودة والأشبه بال menu، التي يختار كل عضو في الجامعة العربية “طبقه” المفضل منها، مقابل الموافقة على بقية  الكليشيهات، مثل العمل العربي المشترك  وإنهاء الخلافات العربية، وتأييد حقوق الشعب الفلسطيني، والمطالبة بإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، وغيرها من العناوين التي باتت محل سخرية الشارع العربي، الذي بات يحفظها عن ظهر قلب. 

فمنذ قمة أنشاص في مصر عام 1946، التي ضمت سبع دول عربية وكانت قمة التأسيس ، وحتى قمة جدة الأخيرة عام 2023، و “العناوين هي هي والأسامي تغيرت”، و”الأسامي” هنا هي أسماء الزعماء، الذين حاول البعض منهم  على مدار السنين والقمم، “تسويق” نفسه  ومشاريعه، عن طريق مؤسسة القمة العربية، بدل العمل الجدي لتحقيق مصالح الشعوب العربية، وتكفي نظرة عامة على القمم العربية السابقة ومقرراتها، حتى نتأكد من صدقية هذا القول.

برز زعيم جديد على الساحة حاملاً مشروعا سياسيا يريد تسويقه ليتوِّج نفسه قائداً للأمة يبدأ بجمع الزعماء في مؤتمر قمة متحدثاً عن ضرورة إنهاء الخلافات العربية التي يكون هو أول من أشعلها

 فكلما برز زعيم جديد على الساحة، حاملاً مشروعا سياسيا يريد تسويقه ليتوِّج نفسه قائداً للأمة ، يبدأ بجمع الزعماء في مؤتمر قمة، متحدثاً عن ضرورة إنهاء الخلافات العربية، التي يكون هو أول من أشعلها، وضرورة رص الصف العربي وغيرها من الشعارات، بإستثناء بعض القمم غير العادية، التي كانت مخصصة لأحداث وتطورات دراماتيكية. قمة القاهرة عام 1964 كانت قمة جمال عبد الناصر، الذي دعا إليها بهدف إنهاء الخلافات العربية، وبحث سُبل تنظيم الشعب الفلسطيني في كيان، فكانت منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة أحمد الشقيري، ومن ثم إنطلاق الكفاح المسلح في الفاتح من كانون الثاني عام 1965.

   عام 1967 كانت قمة الخرطوم التي جاءت بعد النكسة، والتي غابت عنها سوريا، التي كانت تطالب بإعلان حرب شعبية لتحرير الأراضي المحتلة، فكانت قمة اللاءات الثلاث المعروفة، لا إعتراف لا تفاوض لا صلح، مع التأكيد على دعم دول المواجهة لإزالة آثار العدوان.

 كان للنكسة وقع الصاعقة على الأوضاع العربية العامة  والوضع الفلسطيني بشكل خاص، حيث بدأت المقاومة الفلسطينية ومعها حديث عن أخذ زمام الأمور بيديها، وحديث عن القرار الفلسطيني المستقل، فكانت أحداث الأردن عام 1970 بين السلطة الأردنية وقوات منظمة التحرير، التي إستوجبت إنعقاد قمة القاهرة في  محاولة لرأب الصدع وإنهاء القتال، وكانت آخر قمة يحضرها الرئيس المصري جمال عبد الناصر، الذي توفي إثر عارض صحي تعرض له في المطار، وهو يودع الزعماء العرب في طريق عودتهم إلى بلادهم.

 بعد النكسة قامت عدة “ثورات” عربية، في كل من ليبيا والسودان والعراق، فبرزت عدة قيادات عربية جديدة وشابة على الساحة، منها معمر القذافي وصدام حسين، قبل أن ينضم إليها حافظ الأسد بعد “ثورته التصحيحية” في سوريا، فضلاً عن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت قد إنتقلت إلى ياسر عرفات، بما كان يملكه من رمزية الكفاح المسلح  وكاريزما لا يختلف عليها  إثنان، وكان للفراغ الذي تركه غياب جمال عبد الناصر، دور في محاولة كل من هذه الشخصيات طرح نفسها كقيادة بديلة له، في وقت كانت مصر تتخبط في صراع داخلي نشب بين الحرس القديم للثورة، من رجال عبد الناصر التي كانت تشكل مراكز قوى في النظام، والقيادة الجديدة الممثلة بأنور السادات، الذي ما لبث أن حسم هذا الصراع لصالحه  في ما أطلق عليه يومها ثورة مايو عام 1971.  

بعد النكسة قامت عدة “ثورات” عربية في كل من ليبيا والسودان والعراق فبرزت عدة قيادات عربية جديدة وشابة على الساحة منها معمر القذافي وصدام حسين

جاءت قمة الجزائر عام 1973 بعد حرب تشرين من نفس العام، التي غابت عنها ما كان يسمى وقتها دول الرفض كسوريا والعراق وليبيا، وكانت أول قمة تعلن إستعداد العرب للسلام، على أساس قراري مجلس الأمن 242 و 338، ومقابل شرطين هما الإنسحاب من الأراضي العربية المحتلة وإستعادة الحقوق الفلسطينية، ما قسَّم العالم العربي إلى محورين، محور دول الإعتدال، ويضم مصر ودول الخليج، مع غالبية الدول الأخرى، ومحور دول الرفض ويضم سوريا والعراق وليبيا، قبل أن تنضم إليها كل من الجزائر واليمن الجنوبي ومنظمة التحرير الفلسطينية، التي أُعلنت ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني في قمة الرباط عام 1974. 

قمتا الرياض والقاهرة في العام 1976، كانتا مخصصتين للأزمة اللبنانية، التي كانت قد إنفجرت عام 1975، على خلفية الخلافات بين المحاور العربية، فضلاً عن المشاكل الداخلية الناجمة عن ترهل النظام اللبناني، فكان أن لُزِّم لبنان يومها للأسف لسوريا، بغطاء من قوات الردع العربية، التي ما لبثت أن إنسحبت لتنفرد سوريا بالساحتين اللبنانية والفلسطينية، مع ما جرَّه هذا الإستفراد من مآسٍ ومجازر ومشاكل لكل من لبنان وفلسطين.

قمتا الرياض والقاهرة في العام 1976 كانتا مخصصتين للأزمة اللبنانية، التي كانت قد إنفجرت عام 1975

 دخلت سوريا إلى لبنان، وذهب أنور السادات بمصر إلى إسرائيل  في زيارة سلام عام 1977 نتج عنها إتفاقيات كامب ديفيد، فكانت قمة بغداد عام 1978 – وكانت عملياً قمة صدام حسين – التي قاطعت مصر وعلَّقت عضويتها في الجامعة العربية, ونقلت مقر الجامعة إلى تونس، وكانت بعدها قمم راحت تجتر نفس البيانات والعناوين من دون أي فعل حقيقي على أرض الواقع، حتى كانت قمة فاس عام 1981, وكانت قمة الأمير فهد ولي عهد السعودية ومشروعه للسلام مع إسرائيل، على وقع الحرب العراقية – الإيرانية من جهة ،والمعارك في لبنان بين السوريين والقوات اللبنانية المسيحية،  وكذلك بين قوات منظمة التحرير وإسرائيل عبر الحدود الجنوبية اللبنانية من جهة أخرى، وهو المشروع الذي ردت عليه إسرائيل بإجتياح لبنان عام 1982، وإخراج قوات منظمة التحرير وقيادتها من بيروت. 

إستمرت الأوضاع العربية تسير من سيء إلى أسوأ، فكانت قمة الدار البيضاء عام 1989، التي أعادت مصر إلى “الحضن” العربي وكان سبقها خروج العراق منتصراً من حربه مع إيران، ما سهَّل أيضاً الإتفاق على تشكيل لجنة ثلاثية لحل الأزمة اللبنانية، بعد المعارك التي أشعلها ميشال عون ضد القوات السورية، تحت مسمى حرب التحرير ، وهي اللجنة التي توصلت إلى إتفاق لعقد مؤتمر الطائف للنواب اللبنانيين لبحث سبل حل الأزمة. عام 1990 كان عام الغزو العراقي للكويت، الذي أدى لإنعقاد قمة القاهرة المثيرة للجدل، والتي شهدت مناقشات حامية على خلفية الغزو، وطريقة التعامل معه، فكانت آخر القمم العربية الدورية، قبل أن تعود للإنعقاد بدءاً من العام 2000.

 قمة بيروت عام 2002 كانت قمة الأمير عبد الله بن عبد العزيز ومبادرته للسلام، التي باتت مبادرة عربية، وذلك بعد حوالي 20 عاماً على مبادرة شقيقه فهد في قمة فاس 1981، جاءت المبادرة في ظل حصار إسرائيل لمقر إقامة ياسر عرفات في المقاطعة برام الله، فكان الرد الإسرائيلي عليها كما كان ردها على مبادرة سَلَفه فهد عام 1982، وهذه المرة بإجتياح الضفة الغربية وتضييق الحصار على عرفات، بعد أن ساهمت القمة في حصاره عبر منعه من إلقاء كلمة عبر الفيديو، لدواعٍ “أمنية” إرتأتها السلطات اللبنانية – السورية عبر جهازها الأمني المشترك.  

بعد العام 2002 كانت القمم تعقد بصورة دورية روتينية، فكانت قراراتها عبارة عن “فوتوكوبي”، تُسحب من الأدراج لإعادة تصويرها عاماً بعد عام، حتى إندلاع ” الربيع العربي “، فكانت قمة الدوحة عام 2013، قمة الإعتراف بالإئتلاف الوطني السوري ومنحه مقعد سوريا، وهكذا حتى الوصول إلى قمة جدة الأخيرة، التي بدت  وكأنها “قمة الأمير محمد بن سلمان” ومشروعه في المنطقة، وربما بهدف إظهار الدعم العربي له في إتفاقه مع إيران ، في تكرار بات مملاً وغير مقنع للشارع العربي، خاصة وأنها رفعت نفس الشعارات عن وحدة الصف العربي التي إتخذتها مطية لإعادة النظام السوري إلى “حضنها”، ضاربة عرض الحائط بتضحيات ومصالح الشعب السوري ومن دون أدنى ضمانات، أقله لإعادة اللاجئين إلى ديارهم والإفراج عن المعتقلين، إن لم يكن من ضمانة لحل سياسي شامل.

وعلى مر السنين باتت مؤسسة القمة العربية مجرد ديكور للزينة وتحولت إلى ما يشبه مناسبة “إجتماعية” أكثر منها سياسية جادة

 هكذا وعلى مر السنين، باتت مؤسسة القمة العربية مجرد ديكور للزينة، وتحولت إلى ما يشبه مناسبة “إجتماعية” أكثر منها سياسية جادة، وهو ما جعل الشارع العربي في حالة غربة عنها، وعدم إكتراث سواء لإنعقادها أو لقراراتها، وبات حدث مثل الإنتخابات في تركيا مثلاً، يأخذ حيزاً  من الإهتمام والتفاعل أكثر بكثير من إنعقاد القمة العربية، وهو أمر مؤسف ويؤشر إلى فشل صيغة العمل العربي المشترك بشكلها القديم والحالي، على أمل ولو ضعيف – على إعتبار أننا لا نملك سواه – أن تكون الطبعة الجديدة من القيادة العربية ومشروعها للإصلاح والتنمية، مشروع جدي بعيداً عن الشخصانية التي طبعت المراحل السابقة، والتي نعيش نتائجها اليوم من تشرذم وتخبط وإنهيارات متلاحقة، وأن تكون القمم العربية بعد اليوم على مستوى التحديات، حتى لا نبقى في دوامة الكلام المنمق والمكرَّر، الذي أوصلنا إلى وضع وواقع حال يختصر مسيرة القمم العربية بشعار “قمة عربية واحدة ذات ديباجة خالدة” لا تتبدل ولا تتغير، وهي “ديباجة” أثبتت الأيام أنها لا تغني ولا تسمن من جوع. فهل نطلب المستحيل؟        

السابق
شينكر: حزب الله يحاول إجبار المسيحيين على القبول بفرنجية
التالي
نورا جنبلاط تطلق مهرجانات بيت الدين الدولية الـ ٤٠.. وهذه مواعيدها وجديدها لصيف 2023!