وجيه قانصو يكتب ل«جنوبية» : القمة العربية.. الرسائل والدلالات

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

تعددت وتباينت تأويلات القمة العربية الأخيرة في جدة، لغرض تفسير المفارقات التي احتوتها، أو فهم الجديد فيها.  هي قمة حملت دلالات متعارضة ورسائل في كل الاتجاهات، أخرجتهما من رتابتها  المتكررة والوهن المعهودين فيها.

القمة مثلت مرحلة جديدة ليس فقط في الأداء الدبلوماسي وإنما في صنع السياسات في تأطير جديد للعلاقات الدولية والتضامنات العربية

من المؤكد أن القمة مثلت مرحلة جديدة ليس فقط في الأداء الدبلوماسي، وإنما في صنع السياسات، في تأطير جديد للعلاقات الدولية والتضامنات العربية، وفي مقاربة مختلفة للأزمات والملفات العالقة في المنطقة . ويمكن ذكر ودلالات أساسية أظهرتها القمة، فضلا عن  رسائل متعددة تقصدت إرسالها:

أولها: ظهور المملكة العربية السعودية نقطة الارتكاز الأولى للتضامنات العربية، ومرجعية عربية في حل النزاعات الداخلية داخل أي قطر عربي.  هذا الأمر أخذ يتظهر ويبرز مع الزمن، لكنه ترسخ وتعزز مع  أفق السعودية الجديد، الذي تجلت بنوده وعناوينه مع الرؤية الجديدة لولي العهد محمد بن سلمان، التي تعطي أولوية للتنمية والنمو الاقتصادي والتطور التقني.  هو أفق يرسم للحاضر وجهة واضحة تقلل من ثقل المحظورات والقيود الدينيتين، وتغلِّب المستقبل على الماضي، وتقدم التحديث على التقليد.  ما يجعل من السعودية مركز استقطاب وجاذبية استثمار ومصدر وفرة ونماء اقتصاديين لمحيطها العربي، يؤهلها أن تكون في موقع القطب والمركز العربيين لفترة طويلة.

ظهور المملكة العربية السعودية نقطة الارتكاز الأولى للتضامنات العربية ومرجعية عربية في حل النزاعات الداخلية داخل أي قطر عربي.

هو أفق طامح، محمل بالمجازفات والمخاطر والعقبات، ويستدعي تغيراً جذرياً في أسلوب الحكم في الداخل يضمن إطلاق الطاقات والمبادرات الفردية.  إضافة إلى انتهاج مسار علاقات دولية لا يكتف بضرورات الحماية والأمان، بل يوفر محفزات ودوافع لتحولات عميقة في المجتمع السعودي، توفر بداخله شروط الاستجابة للطموحات الكبرى التي أعلنت القيادة السعودية عنها على لسان ولي العهد. 

ثانيها: تموضع جديد للملكة العربية السعودية في العلاقات الدولية. هو تموضع لا يدل على انتقال من محور إلى آخر، أو توليد محور جديد، بقدر ما هو خروج من التزامات قديمة مع الشريك الأمريكي، استنفدت كل إمكاناتها وضروراتها، ولم تعد عنصر أمان وحماية للملكة، بل تكاد تكون عبء عليها، لجهة كلفتها المالية، ولجهة تبعات السياسة الأمريكية المربكة وغير الحازمة في الكثير من الملفات، بخاصة ملفات إيران وسوريا واليمن. 

تموضع جديد للملكة العربية السعودية في العلاقات الدولية

هو تموضع يستجيب لمتغيرات العالم، الذي ينزع إلى الخروج من القطبية الواحدة، أو ثنائية المحاور، إلى عالم متعدد الأقطاب، لم تعد المشتركات الايديولوجية أو القدرة التدميرية للدول عنصراً مرجحاً أو دافعاً للتحالف والتآزر، بقد ما باتت العلاقات والتحالفات الدولتين، عبارة عن تقاطع معقد بين المصالح والسياسات والاستراتيجيات التنموية والقدرات التقنية والفاعلية الإنتاجية. 

ثالثها:  المسعى إلى تغيير جذري في معالجة أو مقاربة الملفات المتفجرة والمتوترة في المنطقة العربية، بالانتقال من حالة الصراع والمواجهة إلى الاحتواء والتهدئة. وهو ما بات يتداول بتعبير “تصفير المشاكل”. هو تغير يشي بعجز جميع أطراف الصراع عن حسم المواجهة لصالحه، ووصول المواجهة إلى حالة مراوحة وانسداد في أفقها المحلي والدولي.

المسعى إلى تغيير جذري في معالجة أو مقاربة الملفات المتفجرة والمتوترة في المنطقة العربية

غياب المنتصر في هذه المواجهات، يعني توليد ترتيب يحظى باتفاق ورضى جميع أطراف الصراع.  أي اتفاق التسوية الضامن للمصالح، والرضوخ لمعطيات الأمر الواقع التي تعكس موازين القوى الفعلي، ويتجاوز المعضلة الأخلاقية، بل يتجاهل الاعتبارات الإنسانية من خلال تجديد الشرعية والإعتراف السياسيين للعديد من الشخصيات والقيادات، التي تورطت في جرائم ضد الإنسانية من العيار الكبير، بل تكاد هذه التسوية تصدر صك براءة أو عفو لهذه الشخصيات، تعفيها من الملاحقة والمحاكمة.

هكذا تسويات قد توفر ظروف استقرار لمدة معتبرة، لكنها لا تفكك عناصر التفجر الحالية، بل تتوارى هذه العناصر، استعداداً لدورة تفجرات جديدة في مناسبات وظروف أخرى.  قد تؤمن التسويات مهلة استراحة للملمة الجراح، لكنها لا تخلق شروطاً فاعلة، لإطلاق مسارات وتحولات جدية وجديدة في العمق والتكوين العربيين.  هي تسوية تبدو في جانب منها واقعية سياسية تبتعد عن الطوباوية، وتتعامل مع أفضل الممكن، لكنها في جانب آخر منها علامات إخفاق وعجز عربيين، عن توليد شروط حياة آمنة وحرة للإنسان العربي.      

غياب المنتصر في هذه المواجهات يعني توليد ترتيب يحظى باتفاق ورضى جميع أطراف الصراع

رابعها: دلالة قوية إلى الداخل العربي، بأن إمكانات التغيير السياسي والتحول إلى أشكال نظم جديدة تقوم على أسس ديمقراطية، تستند إلى سيادة فعلية للشعب، وبأن التطلع النخبوي إلى تداول السلطة، والمشاركة الشعبية الفعلية في صنع القرار وحرية التعبير والتفكير والتجمع، بل التطلع إلى الحد الأدنى من تقيد السلطة الفعلية بنصوص دستورية ملزمة.  هذه الإمكانات والتطلعات، باتت جميعها بحكم الملغاة أو المرجأة، والمسحوبة من التداول إلى أمد بعيد.

مهما يكن من أمر، فإن القمة حملت مفارقات عدة، أهمها: التباين بين التكيف مع متغيرات العالم، ومسعى مخلص وتطلع طموح إلى المستقبل، ورغبة نهوض وتطور لا سقف لها من جهة، وبين أفق داخلي مسدود وانتظام مجتمعي ونظم سياسية وعلاقة بين الحاكم والمحكوم، لا تنسجم جميعها مع هذه الرغبة والتطلعات، وعاجزة عن تلبيتهما من جهة أخرى.      

السابق
رحيل محمد جمال.. «مطرب الزمن الذهبي»!
التالي
بالصور.. تجمع سلمي لموظفي بنك مصر لبنان في رياض الصلح