أبي نادر تغوص في تفحص نقدي لكتاب «الانتظام العربي العام» لوجيه قانصو: تفكيك للواقع من صدر الإسلام إلى الثورات العربية!

قدمت امين عام الحركة الثقافية – انطلياس الدكتورة نايلة ابي نادر؛ دراسة علمية عميقة لكتاب الدكتور وجيه قانصو، “الانتظام العربي العام”؛ اذ ناقشت ابي نادر وحللت فصول الكتاب التسعة؛ ساردة حلاوة الفكر النقدي الذي قدّمة ببراعة فائقة الدكتور قانصو، محاولا فيه أن يُخرج الواقع العربي بأبعاده الثقافية والسياسية والاجتماعية من الغموض الذي يحيط به، ومن حيرة الباحثين فيه. ساعيا لتقديم نماذج ومقترحات تفسّر ما يخفيه الواقع العربي، من أجل التوصّل إلى فهمٍ صحيح له ولتوقّعاته، أولاً، ومن أجل العمل على تطويره وتحويله ثانيا. وجاء في كلمة ابي نادر التالي:

في ظل الانكماش الذي يسيطر على ساحة الحراك العربي منذ مدّة، وفي سياق ما نسمعه، هنا وهناك، من نقاشات ومواقف لا تخلو من الحدّية، يطلّ علينا الدكتور وجيه قانصو في كتابه “الانتظام العربي العام” من زاوية المفكّر النقدي الذي يسعى إلى تفكيك الواقع والتفكير فيه، لكي يستجلي بشكلٍ معمّق أسباب الفشل المتراكم، على أكثر من صعيد. نجده يحثّنا على أن نطرح معه إشكالياتٍ لا تزال تُقلق من يسعى إلى فهم الواقع العربي المعاصر، بخاصة في ما يتعلّق بالدين والدولة والمجتمع.
إن التفحّص النقدي لما جرى، ولأسباب الإخفاقات المتتالية، أمر يتوجّب على الفيلسوف الملتزم بالشأن العام، من أمثال الدكتور وجيه، القيام به. نراه ينكبّ بجهد وحرفية مميّزة على طرح تسعة فصول تسبقها مقدّمة، وتلحق بها خاتمة، بأسلوب علمي دقيق، منهج يحاول أن يُخرج الواقع العربي بأبعاده الثقافية والسياسية والاجتماعية من الغموض الذي يحيط به، ومن حيرة الباحثين فيه. إنه يسعى إلى تقديم نماذج ومقترحات تفسّر ما يخفيه الواقع العربي، من أجل التوصّل إلى فهمٍ صحيح له ولتوقّعاته، أولاً، ومن أجل العمل على تطويره وتحويله، ثانياً. (ص35).

يربط د. وجيه بقوة بين المنهج وفهم الواقع إذ يقول: “القصد من المنهج التمكين أو الإسهام في فهم الواقع لا أن نبني توقعات تُحدّد فينا استياءً أو تفاؤلاً بل الكشف عن واقع يُنتج توقّعاته من داخله


يربط د. وجيه بقوة بين المنهج وفهم الواقع، إذ يقول: “القصد من المنهج التمكين أو الإسهام في فهم الواقع، لا أن نبني توقعات تُحدّد فينا استياءً أو تفاؤلاً، بل الكشف عن واقع يُنتج توقّعاته من داخله”. واضح هنا البعد الفلسفي الذي ينهمّ بالمنهج قبل البدء بالكلام على الموضوع الذي يودّ المفكّر أن يعالجه. يشدّد في هذا السياق على أن المسافة تبقى قائمة بين الواقع والمفهوم، مهما علا شأن المفكر، ومهما تطورت أدواته البحثية. “إذ لا وجود لمعرفة نهائية، وكلّ معرفة قائمة تشكّل باعثاً ومدخلاً لتكوين معرفة جديدة، بحكم أن الإدراك غير قادر على التقاط الواقع أو نسخه كما هو، إنما يُبني الواقع ويتمّ تمثّله ذهنياً، (…)، بواسطة مفاهيم ونماذج فهم وتفسير”.(ص32)


يُلفت القارئ، أن المؤلّف، منذ الصفحات الأولى للمقدمة، يُكثر استخدام الهامش لتفسير المفاهيم، والتدقيق فيها، منعاً للغط، أو لسوء الاستخدام. اختار أن يفسّر لفظين وردا في عنوان كتابه: الانتظام، والعام، مميّزا بين النظام والانتظام، مشيراً إلى أن “الانتظام عملية تقف وراء النظام، لجهة أن النظام هو جملة القوانين والقواعد والبنى التي تحكم سلوك ظاهرة وتحدّد العلاقة بين مجموعة من العناصر، (…)، أما الانتظام فيعبّر عن العملية التي يتحقّق بها النظام نفسه، (…)”. (ص16-17) فيصبح بذلك الانتظام عبارة عن حدود تحقّق النظام، “وشرط فعليّته”. أما في ما يتعلّق بلفظ العام الوارد في العنوان أيضاً فهو يقابل الخاص، ويدلّ على ما يشمل جميع الأفراد “بما هم أفراد داخل المجموع ومنتمون إليه ومشمولون به”. الأمر الذي يجعل لفظ عام الوارد إلى جانب لفظ انتظام، في عنوان الكتاب، يقرب في الدلالة من لفظ public بالفرنسية والانجليزية. يشدّد د.قانصو هنا على “النشاط والتفاعل والعلاقات والمجالات التي تتعدّى الإطار الفردي والشخصي والظرفي، وتحصل في دائرة الوجود الجامعة والحاضنة لجميع الأفراد بصفتهم جسماً واحداً أو وحدة قائمة بذاتها وراء خصوص الأفراد، مع بقاء الأفراد فاعلين داخل هذه الدائرة والوحدة، لكن لا بصفتهم الخاصة المنعزلة والمنحصرة بكل فرد والمغايرة للأشخاص الآخرين، بل بصفتهم العمومية التفاعلية التي تخلق آثاراً ووضعيات أبعد من خصوص وجودهم ونشاطهم”. (ص17)

د. نايلة ابي نادر امين عام الحركة الثقافية – انطلياس

يُلفت القارئ أن المؤلّف منذ الصفحات الأولى للمقدمة يكثر استخدام الهامش لتفسير المفاهيم والتدقيق فيها منعاً للغط أو لسوء الاستخدام


تتمحور فصول الكتاب حول “الانتظام العربي العام”، والمقصود به تلك “العملية التي يتحقّق بموجبها واقع عام داخل المجال العربي وفق هيئة مخصوصة وإيقاع محدّد وتآلف وتناسق داخليين وطريقة أداء منتظمة ومتوقّعة”. (ص17). سوف يعمل د.قانصو على مدى الفصول التسعة على تقصّي مبادئ العلاقات ونسقها الذي يربط بين العناصر المقوّمة لمختلف أنماط التكوينات العمومية، والممارسات، والوضعيات التي تجعل من تحقّق هذه التكوينات في المجال العربي، أمراً ممكناً.

تتمحور فصول الكتاب حول “الانتظام العربي العام” والمقصود به تلك “العملية التي يتحقّق بموجبها واقع عام داخل المجال العربي وفق هيئة مخصوصة وإيقاع محدّد وتآلف وتناسق داخليين وطريقة أداء منتظمة ومتوقّعة


يبدأ الفصل الأول بوقفة منهجية لرسم المسار، واختيار أدوات البحث، حيث نجد طرحاً لإشكالية المنهج الذي سيدرس المؤلف من خلاله السلطة في أبعادها الثلاثة، والمجتمع، معتبراً أنهما من “الكائنات السيّالة المتحرّكة” التي “تُنشئ عند كل نقطة تحقّق وانوجاد تاريخي نُظماً خاصة بها متمثّلة ببنى علاقات وقواعد إنتاج وشبكة سلطة ومرجعية قيّم، وتتّخذ رغم سيلانها التاريخي سماتٍ وخصائص محدّدة لها، (…)”.

كتاب «الانتظام العربي العام»

يبحث د.قانصو في الفصل الثاني بالنظم السابقة التي مهّدت لقيام السلطة في الإسلام، متوقفاً عند النظام الاجتماعي في مرحلة ما قبل النبوّة، حيث كان للعرب علاقات وثيقة مع الحضارات المحيطة بشبه الجزيرة العربية، كالبيزنطية والفارسية، وحضارة الشرق الأقصى بحكم الخط التجاري في ذلك الحين، كما كان هناك تواصل أيضاً مع العمق الأفريقي. أبرز ما يلفت الانتباه في هذا الفصل التوقّف عند “ألوهية السلطة”، و”الاختبار اليهودي”، و”تعالي الإله وكوننة الإنسان”، و”ثنائية الدين والدنيا”. لكن العنوان الأبرز في هذا الفصل هو “الانتظام العربي قبل الإسلام”، حيث نجد دراسة دقيقة للواقع العربي تحاول تفكيك الترسّبات الدفينة داخل الانتظام العربي بشكل عام في الزمن القديم كما الحديث والمعاصر. هذه الترسّبات التي يتوقف عندها المؤلّف ما تزال تمارس “مهامها ووظائفها بشكل مباشر حيناً وخفي حيناً آخر”.(ص78).

يبحث د.قانصو في الفصل الثاني بالنظم السابقة التي مهّدت لقيام السلطة في الإسلام متوقفاً عند النظام الاجتماعي في مرحلة ما قبل النبوّة

يصل الفصل الثالث إلى لحظة “النبوة بصفتها حدثاً تأسيسياً” لكي نجد قراءة لهذا الحدث الذي أحدث تحوّلاً في ما كان سائداً وراسخاً ومألوفاً في اتجاه مسار غير معهود. ما حدث كان صدمة انبثقت “من قلب الواقع القائم”، وأثّرت في صيرورته التاريخية. يقول د.قانصو “ليس غرضنا في هذا الفصل عرض السيرة أو الكشف عن الملامح الكبرى للدعوة الجديدة، بقدر المسعى المغامر في رؤية الحدث النبوي مشروع انتظام عام جديد في المجال العربي”.(ص106). من العناوين الملفتة في هذا الفصل: “دعوة من قلب الواقع”، “دعوة من قلب المجال العربي”، “حلم قريش وصبرها على آلهتها”، “هجوم قريش المضاد”، “تأسيس ديني على قاعدة سياسية”، “من الدعوة إلى السلطة المطلقة”، “اكتمال حلقات المشروع النبوي”، “مفهوم الأمة”.

تتمحور فصول الكتاب حول “الانتظام العربي العام” والمقصود به تلك “العملية التي يتحقّق بموجبها واقع عام داخل المجال العربي وفق هيئة مخصوصة وإيقاع محدّد وتآلف وتناسق داخليين وطريقة أداء منتظمة ومتوقّعة”


يطرح الفصل الرابع مسألة “تشكّل المجال السياسي” من خلال البحث في عملية “العودة إلى العرف القبلي”، وما تحقّق من “متغيّرات في المشهد المجتمعي”. يلفت القارئ الاشتغال على “عقيدة القدر”، وكيفية “ظهور مفهوم الجماعة”، والانتقال “من القدر إلى خلافة الله”، و”الاصطفاء والإمامة”، و”ثنائية الخليفة والسلطان”.
يعمل الفصل الخامس على تسليط الضوء على بدايات ترسّخ الدولة في الاسلام، والدور الذي كان للدين والمجتمع في هذه العملية، انطلاقاً من قراءة جديدة للتاريخ، إذ يتوقّف د.قانصو عند “تمفصل الدولة والدين والمجتمع”، ملفتاً الانتباه إلى تمايز السلطة عن الدين. يقول إن مجريات السلطة “وشؤونها لم تعد فقط لخدمة أهداف الدين وغاياته، وأن مشروعيتها لم تعد تُستمدّ من التطابق مع روحية الدين وأخلاقياته، بل باتت الغلبة والقوة العسكرية أساساً لكل استمرارية”. من هنا جاء “تخارج الدين والدولة” كعنوان بارز في هذا الفصل يشير إلى “تعزيز ظهور الدولة ونموها بما يتناغم مع حقيقتها وطبيعتها، أي السلطة للسلطة والقوة للقوة، (…)”.(ص206). يتوقّف المؤلف في هذا السياق عند “تآكل مكانة الفقيه”، كما عند “دولة الخلافة ودولة الشريعة”، وعند “تخارج الدولة والمجتمع”، كما عند “انتظام المجتمع على قاعدة دينية”، ثم ينتقل الى دراسة “نظرية الانتظام العام في الفكر الكلاسيكي” باعتبار أن “الفكر مرآة الواقع” في حلوه ومرّه. نجد تحت هذا العنوان درس معمّق لنظرية كل من الماوردي، وابن خلدون، وللآداب السلطانية، ولما أورده الفلاسفة بخصوص السياسة والاجتماع. نجد ذكراً لفكر الفارابي السياسي، ولتصور ابن سينا للمجتمع. كما هناك وقفة عند الثنائية المعرفية في فكر ابن رشد بالمقارنة مع الثنائية في فكر توما الأكويني. يهمّنا أن نذكر ما توصّل إليه قانصو في هذا السياق، من أنه “لم تتعرّض الفلسفة الإسلامية إلى الواقع السياسي، لتحلّله أو حتى لتنقضه، بل آثرت تجاهله وبناء سياسة متخيّلة ومدينة افتراضية بديلة، وقيادة تترجم مقولات الفلسفة وتجسّدها”.(ص254). هذا ما أدّى إلى اعتزال الفيلسوف للواقع وتجنّبه الانخراط فيه، ولم يعد بذلك الخطاب الفلسفي يتوجّه إلى “المجتمع أو الجماعة” إنما إلى “الفرد في مسعاه لتحصيل كماله الفردي الخالص وسعادته التامة مهما كان حسن أو سوء البيئة التي يعيش فيها”.(ص254).

يطرح الفصل الرابع مسألة “تشكّل المجال السياسي” من خلال البحث في عملية “العودة إلى العرف القبلي” وما تحقّق من “متغيّرات في المشهد المجتمعي


من هنا يأتي العنوان الأخير في الفصل الخامس: “المشهد بكليّته: غياب نظرية الدولة”.
يتوقّف الفصل السادس عند حدث هام يكمن في “اقتحام الغرب لأسوار الداخل الإسلامي والعربي، وصيرورته من مجرد محتل، أو مستغل لخيرات البلد المحتل، أو طامح بتوسيع مدى نفوذه السياسي وسوق منتجاته،(…)، إلى جزء أساسي من تكوين الداخل العربي، وصانع لمؤسساته، وصادم لقوالب تفكيره، ومزعزع لمرجعيات المعنى وموجبات الأمر والإكراه والانصياع فيه، بعد أن ضمنت له هذه الأمور استقراراً نسبياً واستمرارية تكوينية امتدّت أكثر من ألف عام”.(ص261). عنوان هذا الفصل: “إصلاح الدولة وتحديثها”، تندرج تحته عناوين فرعية تدرس “السلطة في المجال الغربي”، و”الانتظام الإسلامي الموازي”، و”إصلاح الدولة الإسلامية”، و”الموقف الإصلاحي من التحديث السياسي”. يهتمّ قانصو بدرس كيفية تلقّي الفكر العربي للمنجز الغربي، ليبحث في ما إذا “كانت القوالب المعرفية والفكرية حينذاك قادرة على التقاط الأساس الفلسفي للحداثة الغربية، بخاصة في مجال انتظامها العام”. (ص302). يصل قانصو في ما بعد إلى درس ظاهرة الأصولية في وجهيها القومي والإسلامي لكي يستخرج بعض السمات الأصولية المشتركة بينهما.
يختم قانصو هذا الفصل بنقد ما وصل إليه مسار التحديث العربي، فيلحظ أن الحداثة دخلت إلى المجال العربي “فكراً وممارسة، منفصلة عن شروطها المادية التي لم يختبرها العرب، فتلقّوها أفكاراً مجرّدة وبوضعية مادية ملتبسة بسبب اقترانها بالاحتلال والتوسّع”. (ص317). من هنا جاء التوتر والعداء بين الجانبين، وتشكّلت ثنائية التراث والحداثة، والشرق والغرب. وكانت النتيجة أن “أسّسنا لأنفسنا عزلة سمّيناها أصالة أو استقلالاً فكرياً. حصل هذا في الوقت الذي كان الغرب الحداثوي يجتاح بحداثته العالم كلّه، ويستولي علينا عبر انبهارنا به، وتحويلنا إلى سوق مفتوح له نستهلك منتجاته بنهم، من دون أن نعرف سرّ قوته الحقيقية، ومن دون المغامرة بتحويل أسئلته باتجاهنا”. (ص318).

ينهمّ قانصو بدرس كيفية تلقّي الفكر العربي للمنجز الغربي ليبحث في ما إذا “كانت القوالب المعرفية والفكرية حينذاك قادرة على التقاط الأساس الفلسفي للحداثة الغربية بخاصة في مجال انتظامها العام


ينتقل د.قانصو في الفصل السابع إلى البحث في “الدولة الحديثة في أصولها النظرية”، مقدّماً تحليلاً يكشف أسس انبناء الدولة في الفكر الغربي. يبدأ بعرض السياق التاريخي لمفهوم الدولة في الغرب، لكي يعرّف بعده مفهوم “الدولة الحديثة” متوقّفاً عند أبرز النظريات التي تمّت بلورتها في الفكر الغربي، منذ روسو، مروراً بكانط وهيغل، وصولاً إلى ماكس فيبر، مختتماً الفصل بنظرية كل من ماركس وغرامشي في نقد الدولة وما تمارسه من هيمنة على المجتمع المدني.
أما في الفصل الثامن، ما قبل الأخير، فيحطّ الملّف الرحال عند “راهن الدولة العربية” الحديثة والمعاصرة، لكي يبحث في “عوامل نشوئها المعاصرة وبناها العامة ووظائفها الكلية، إضافة إلى الخطاب الذي يسم شرعيتها ونشاطها”. (ص369). وفي ظننا إن د.قانصو كتب كل ما كتب في هذا المؤلَّف لكي يصل إلى تفكيك المأزق الذي وقعت فيه الدولة العربية المعاصرة. وكأنه يفجّر طاقاته البحثية لكي يضع نصب أعيننا أسباب فشل قيام الدولة الحديثة في مكان، ونجاحها في مكان آخر، هو الذي اختبر من قرب العيش في المكانين، الهنا والهناك.

في الفصل الثامن ما قبل الأخير فيحطّ الملّف الرحال عند “راهن الدولة العربية” الحديثة والمعاصرة لكي يبحث في “عوامل نشوئها المعاصرة وبناها العامة ووظائفها الكلية اضافة إلى الخطاب الذي يسم شرعيتها ونشاطها”


يبحث في هذا الفصل في “غياب النظرية حول الدولة”، وفي “دولة الاستقلال”، متوقّفاً عند نموذجين للحكم “في المجال العربي” وهما: الحكم الملكي، وحكم الحزب الواحد الذي ما لبث أن تحوّل إلى حكم الشخص الواحد. انطلاقاً من هذين النموذجين نتجت صورتان للدولة: دولة القرابة، ودولة القائد والحزب الواحد. أما في ما يتعلّق بالسمات المشتركة بين النموذجين، فنجد د.قانصو يتوقف عند خمس نقاط: دولة ريعية، تشاركية سياسية، تضخّم الدولة، بيروقراطية مشخصَنة، الدولة الأمنية، لكي ينتقل مباشرة إلى تفكيك عملية تحديث الدولة، كما حصلت في المجال العربي، بالمقارنة مع المجتمع الغربي، ويختم الفصل الثامن بالكلام على “الدولة والمجتمع والمعارضة”. إنها المسألة الأبرز من وجهة نظرنا، إذ نجد في هذه النقطة معالجة فشل الدولة في التعاطي مع المجتمع، إي فشل الديمقراطية العربية، عندما تحوّلت “السلطة الشديدة المركزية” إلى “خدمة مصالح شديدة الخصوصية والضيق”. (ص417) عملت السلطة الحالية على “استتباع المجتمع لها، وبناء شبكة هيمنة تضمن ولاء الفرد والجماعات للدولة”. (ص418) الأمر الذي نتج عنه “عزلة جماعة السلطة عن المجتمع وتحوّلهم من جماعة تدير مجالاً عاماً إلى نخبة حاكمة يهمّها الدفاع عن مواقعها ومصالحها وسطوتها”. (ص418) كل ذلك أدّى في نظر قانصو إلى تشوّه أصاب الدولة والمجتمع في آن، هذا المجتمع الذي تشوّه إلى حدّ فقدان “زمام المبادرة في التغيير السياسي، وإذا بادر وقرّر يوماً التمرّد أو الثورة، فإنه وبدلاً من إصلاح الدولة أو تأسيسها على قاعدة حديثة، فإنه يقوّض الدولة القائمة من دون أن يكون قادراً على إعادة بنائها من جديد”. (ص421).

وضمن التسلسل المنطقي الذي اتبعه د.قانصو في ترتيب فصول الكتاب يصل في الأخير إلى تحليل وتفكيك ظاهرة “الثورات العربية” لكي يطرح في العنوان السؤال الأساس حول ما إذا كانت “جدّة أم تأصيل


وضمن التسلسل المنطقي الذي اتبعه د.قانصو في ترتيب فصول الكتاب، يصل في الأخير إلى تحليل وتفكيك ظاهرة “الثورات العربية” لكي يطرح في العنوان السؤال الأساس حول ما إذا كانت “جدّة أم تأصيل”. يبدأ الفصل بوقفة مع “حدث الثورة وتفسيره” وذلك “لفهم الحدث وتفسيره والكشف عن جديده (في حال وجوده) وبناء توقعات حوله”. (ص428) وتحت العنوان الثاني “الثورة تأصيل أم جدة”، يطرح السؤال الآتي: “هل كان هدف الثورات العربية إحداث انتظام عام، بقيم وقواعد ومبادئ جديدة، مختلفة عن مرجعيات ومرتكزات الانتظام القائم ام أنها كانت مجرد ارتداد إلى أصل مفقود وانتصار لقيمة راسخة مهدّدة ومنتهكة؟”

هل كان هدف الثورات العربية إحداث انتظام عام بقيم وقواعد ومبادئ جديدة، مختلفة عن مرجعيات ومرتكزات الانتظام القائم أم أنها كانت مجرد ارتداد إلى أصل مفقود وانتصار لقيمة راسخة مهدّدة ومنتهك

الثورة والمؤثرات الخارجية، والنخبة والثورة، والثورة والدولة، والثورة والمجتمع. اقترح د.قانصو عدّة تفسيرات منتجة للثورات الاجتماعية يتوقف عند أربعة منها: التفسير الوظيفي-المؤسساتي في التغيير الثوري، التفسير القيمي أو الثقافي، التفسير البنيوي، والتفسير الجماهيري (السيكولوجي). وينهي الفصل بطرح سؤال هو الأكثر إيلاماً وعمقاً: “ثورة على السلطة أم على الذات”؟ ليستدعي القارئ إلى التفكير “في قابلية الواقع نفسه للتحوّل والانتقال الفعلي إلى الديمقراطية، وفي الأرضية المشتركة التي يقف فوقها الثوار وأهل السلطة معاً، (…)”. (ص466) وهنا يستوقفنا ما أورده د.قانصو بأنه “لم يدرك أكثر الثوار أن نصف المشكلة كانت في السلطة، والنصف الثاني كان فيهم، وأن تغيير سلطة بالذهنيات والقيم والروابط القائمة نفسها، سيعيد إنتاج السلطة نفسها التي اعتدنا قيامها على منطق الغلبة، لكن هذه المرة بوجوه جديدة ونخب مختلفة”. (ص469) نجده يدعو إلى “مسار جدلي وتفاعلي، لا يلغي التراث بل يعيد تأويله، ولا يفكك الروابط العضوية بل يؤطرها بالقانون، ولا يقصي الدين عن الحياة، بل يشق في داخله ورشة اجتهادية تفتح مسام النص الديني على رهانات الحياة المعاصرة، ولا يقتصر على مظاهر الحداثة بل يستدعي أصولها الفلسفية والقيمية ويجذّرها في الحياة العامة، والأهم من ذلك خلق أو مأسسية المجال السياسي العام، الذي يفتح قنوات التواصل والتفاعل والتكامل بين مكونات المجتمع، على قاعدة الإرادة الحرة والتفكير العقلاني، لغرض بناء الصالح العام والرأي العام والاجتماعات العامة وحتى الإرادة العامة”. (ص469-470) ويختم الكلام على الثورات بعبارة تفتح بارقة أمل حيث يقول: “لم تعد الثورة حدثاً يحقق التغيير بطريقة دفعية وسحرية، بل سياقاً ووجهة، لا تحقق أهدافها منذ لحظة ظهورها، بل لحظة الإدراك أننا لم نعد بحاجة إليها”.(ص470)

اقترح د.قانصو عدّة تفسيرات منتجة للثورات الاجتماعية يتوقف عند أربعة منها: التفسير الوظيفي-المؤسساتي في التغيير الثوري التفسير القيمي أو الثقافي التفسير البنيوي والتفسير الجماهيري (السيكولوجي)

هكذا، وعلى مدى 511 صفحة، حرص د.قانصو أن يفي مشروع بناء المجال السياسي العربي حقه. لم يكتف بالتنظير، وعرض النظريات، ولا بسرد الوقائع التاريخية وتحليلها، إنه في كتابه هذا: الانتظام العربي العام، يفصح عن قدرات فلسفية عالية، وعن همّ تغييري حق. نزل الفيلسوف معه إلى المجال العام، وانغمس بوحوله كما قطف من وروده. رسم خارطة طريق، واضحة المعالم، لكل من يرغب فعلاً أن يحدث تحوّلا ما في اتجاه الأفضل، تبدأ بإطلاق ورشة اجتهادية-تأويلية لتحرير النص الديني، إلى تكثيف التضامنات المدنية داخل المجتمع، مروراً بالعمل على بناء المجال السياسي، والتأسيس للحرية، وصولاً إلى تعزيز التفكير والممارسة العقلانيَّين، والسعي إلى تبلور عقل نيّر “يتمثل في إدراك الحقائق (…) في وجوهها المتعددة وتقلباتها وتحولاتها التاريخية”. كل ذلك من أجل التوصّل إلى سلوك مبدع يبتكر الخيارات، وإلى احترام الحرية الإنسانية التي “تضع قانون حريتها بنفسها”. (ص492).
لا يسعنا في الختام إلا أن ندعو القارئ العربي إلى الاستفادة من هذه المأدبة الفكرية الغنية التي تمتدّ أمامه وألا يدعها أسيرة دفتي الكتاب. الدعوة مفتوحة إلى تذوق حلاوة الفكر النقدي الذي قدّمة ببراعة فائقة الدكتور وجيه قانصو.

امين عام الحركة الثقافية – انطلياس؛ خلال لقاء عقد حول كتاب د. وجيه قاصنو “الانتظام العربي العام”

السابق
بعدسة جنوبية.. موقف مشترك لنواب المعارضة وتغييريين ومستقلين من مناورة حزب الله
التالي
تطوّر جديد في موقف باسيل الرئاسي؟!