وجيه قانصو يكتب ل«جنوبية»: النظام الإيراني واختبار الرهانات

وجيه قانصو

لا يقين في السياسة، هي رهان على معطيات وعناصر قوة أو تفوق يظن صاحبها أنها تحقق غرضه وهدفه، إما بغلبة أو ابتزاز أو حيازة سلطة. السياسة الناجحة والمستدامة هي القادرة على التقدير الواقعي لرهاناتها، ولا تبالغ في نتائجها المتوقعة، وتكون جاهزة لتعديل مسارها ومراجعة رهاناتها في التوقيت المناسب. هذا يسمح بمسار سلس للاداء السياسي ولا يتعرض إلى تقلبات ولا يمر بمنحنيات حادة، بحكم ضيق الفجوة بين المتوقع والفعلي، واستناد الهدف إلى المعطى الحقيقي والعيني لا المتخيل والوهمي.

حين يبالغ نظام برهاناته مثلما يفعل النظام الإيراني ويذهب بها حتى النهاية متجاهلا موانع الواقع الشديدة لها فإنه يتعرض دائما إلى تقلبات وانتكاسات بنحو متكرر

حين يبالغ نظام برهاناته، مثلما يفعل النظام الإيراني، ويذهب بها حتى النهاية، متجاهلا موانع الواقع الشديدة لها، فإنه يتعرض دائما إلى تقلبات وانتكاسات بنحو متكرر، رغم صخبه الدعائي وادعائه الأيديولوجي وتظاهره بالصمود والمنعة. اللافت، أنه حين يصل هذا النظام إلى لحظة الخطر الوجودي والكياني، تجده يغير إيقاعه بسرعة ومن دون سابق إنذار، بخاصة في سياساته الخارجية وعلاقاته الدولية. تجده يوحي لك بأنه ذاهب في موقفه “المبدئية” أو “العقائدية” حتى النهاية، ثم في لحظة غير متوقعة ومن دون سابق إنذار يُحدث تغييرا فجائيا ومنعطفاً جدياً في التعامل مع الأحداث والمعطيات، ليولد رهانات جديدة وخطابا مغايراً. 

 كانت أولى هذه المنعطفات، إعلان الخميني شرب “كأس السم” بإيقاف الحرب العراقية- الإيرانية في العام 1989، بعد حرب دموية كلفت أكثر من مليون إيراني بين قتيل وجريح. كان لهذا القرار وقع الصاعقة على الأتباع والموالين، الذين كانوا مقتنعين بأن الانتصار في هذه الحرب مؤكد ويقيني، إما بسبب بشارات مهدوية وإشارات نبوءاتية تم تداولها بكثافة، أو بسبب العقيدة الخالصة، بأن الحرب صراع إيمان محسوم ضد الكفر، تخلق قوة صمود وشدة جهادية ودوافع استشهادية.       

 كانت رهانات النظام حينها ذات طابع أيديولوجي تقوم على كثافة اعتقادية، ظن قادة النظام، قليلي الدراية حينها بحقيقة مجريات العالم، بأنها عناصر قوة تكفيهم مؤونة الانتصار والغلبة. تبين لدى هؤلاء، أن معطيات القوة الموضوعية، التي كان يفتقدها النظام من كفاية عسكرية واستراتيجية سياسية وعلاقات دولية، تغلب المعطى العقائدي وتهزم الرهان الغيبي. لذلك بدأنا نشهد سلوكاً أكثر براغماتية لدى قيادة خامنئي الذي خلف الخميني. وأخذ الأداء حينها يقوم على ازدواجية: تعبئة عقائدية داخلية لشد العصب المذهبي، والتعبئة الشعبية وتوثيق الولاء الداخلي من جهة، وسياسة أكثر واقعية وموضوعية في التعامل مع العالم الخارجي من جهة أخرى. وهي الفترة التي قوي فيها الرهان على تكثيف التسلح الداخلي والتمدد الخارجي وإيجاد الأذرع التابعة للنظام في كل الأماكن الممكنة في العالم، كوسيلة ابتزاز وتهديد لاستقرار المنطقة، تكون بحد ذاتها عنصر قوة وفعالية في أية مواجهة أو صراع قادم بين إيران وخصومها الخارجيين.

كان مجمل الاتفاق النووي رابحاً لهذا النظام فالقيد على نشاطها النووي كان مؤقتا ويمكنها التحايل عليه أو انتظار نهاية أمده

كانت محطة التحول الثانية في أداء النظام الإيراني مع الخارج، هو الاتفاق النووي، الذي قيَّد نشاط إيران النووي  ووضعه تحت المراقبة الدقيقة، لكنه بالمقابل أطلق يد إيران في المنطقة، ومنحها اعترافا بمكانتها الإقليمية ونشاطها التوسعي، وجعلها من صناع سياسات المنطقة، بالاخص في العراق وسوريا ولبنان.

  كان مجمل الاتفاق النووي رابحاً لهذا النظام، فالقيد على نشاطها النووي كان مؤقتا، ويمكنها التحايل عليه أو انتظار نهاية أمده، أما النفوذ الإقليمي  فأخذ يتعمق ويتمأسس يصعب معه إزاحته أو إضعافه. ولد ذلك شعوراً مفرطاً بالثقة لدى النظام، ودفعه إلى تشديد الرهان على توسعه الخارجي بإحكام القبضة في سوريا والعراق ولبنان، وزيادة وكلائه الخارجيين، من خلال فتح الجبهة اليمنية عبر الحوثيين.دفع النظام الإيراني برهاناته إلى أقصاها، ظناً منه أنه يستطيع إخضاع أو إضعاف خصمه الأقوى، وهو المملكة العربية السعودية، بالتالي تكون له الغلبة والكلمة الحاسمة في المنطقة. تبين أنها رهانات مبالغ في تقدير فعاليتها، لجهة سوء فهم الواقع العربي، وخطأ في تقدير قدراته وإمكاناته على مقاومة المسعى الإيراني. هذا إضافة إلى إغفال النظام الإيراني للعامل الإقتصادي، الذي أخذ يتدهور في الداخل الإيراني، ويولد ارتدادات خطيرة ساهمت إلى حد بعيد، في التوترات والاضطرابات داخل إيران. هي رهانات قامت على حسابات خاطئة في الخارج، وأغفلت المعطى الداخلي واستخفت به، ما تسبب بتهديد جدي لمشروعية النظام نفسه وحتى لاستمراريته.

رغم المكابرة الإيرانية والإيحاء بأن النظام ذاهب في صراعه حتى النهاية فقد جاء الاتفاق السعودي الإيراني ليعكس الاقتناع الإيراني غير المعلن بأن رهاناته لم تحقق أغراضها

 رغم المكابرة الإيرانية، والإيحاء بأن النظام ذاهب في صراعه حتى النهاية، فقد جاء الاتفاق السعودي الإيراني ليعكس الاقتناع الإيراني غير المعلن، بأن رهاناته لم تحقق أغراضها، بل ارتدت عليه سلباً. بالتالي كان الاتفاق حاجة ملحة لإيران، يوحي باستعدادها إحداث تحول أو تغيير جذري في أدائها الخارجي، وكان أيضاً نقطة اختبار النوايا الإيرانية بالنسبة للنظام السعودي، الذي أثبت كفائة عالية في إدارة صراعاته وملفاته الخارجية. هذا لا يعني أن النظام الإيراني سيحدث تحولات جذرية في سياساته، أو أنه مستعد للتخلي عن أوهامه الأيديولوجية. إذ قد يكون الاتفاق وسيلة لكسب الوقت في بلورة استراتيجيات جديدة، ومعالجة أزماته الداخلية، وخلق محفزات إيجابية لتفعيل الاتفاق النووي.

الاتفاق السعودي الإيراني نقطة اختبار جدية للنظام الإيراني نفسه

لكن من المؤكد أن هذا النظام ما كان ليندفع بإبرام اتفاقه مع النظام السعودي، بهذه الوتيرة المتحمسة وهذا التغير الفجائي في الخطاب، لو لم يدرك بقوة أن الكثير من رهاناته باتت موضع موضع شك، ووصلت إلى انسدادات محكمة.

الاتفاق السعودي الإيراني نقطة اختبار جدية للنظام الإيراني نفسه، إما أن يحقق مصالحة حقيقية وجدية مع محيطه والعالم، بتخليه عن رهانات، تبين أنها أقرب إلى الوهم وذات آثار مدمرة عليه قبل غيره، وإما أن يكون الاتفاق مجرد استراحة فاصلة، استعداداً لجولة صراعات وحروب جديدة في المنطقة.  

السابق
حارث سليمان يكتب ل «جنوبية»: الجنرال غورو بين بيع الخطايا وتسويق المزايا
التالي
الكشف عن تفاصيل محاولة اغتصاب الصحافية البريطانية.. واعترافات صادمة!