نمر صبّاح مبدع فكريّ تربوي كرّمه الاغتراب وتجاهله لبنان


الدكتور نمر صبّاح* (الصبّاح) مبدع وباحث في حقول التربية والتعليم والترجمة والأدب، بعد تفوقه الجامعي والتعليمي ودراساته التي أنجزها في لبنان واستكملها في جامعات فرنسا. عرفت قيمته الفكرية والبحثيّة جامعات الأخيرة وأكاديمياتها، وتجاهلت طاقاته وزارات الدولة اللبنانية ومؤسساتها المعنيّة. حلم بالعودة إلى وطنه من أجل تطبيق أفكاره وأبحاثه العلميّة، التعليميّة المتطوره وإفادة أبنائه، بيد أنّه سرعان ما عاد خائباً، إلى فرنسا ثم إلى السنغال حيث عُيّن عميداً لكلّيّة الآداب، بقرار من صديقه الشاعر سينغور، رئيس البلاد آنذاك.

وُلِد نمر صبّاح في مدينة النبطيّة العام 1920، من عائلة لها إرثها الثقافيّ والشعريّ، والده الحاج توفيق صبّاح كان شاعراً، كتب باللهجتين المحكيّة اللبنانيّة، والفصحى العربيّة.

تعلّم نمر صبّاح في مدرسة النبطيّة الابتدائيّة التي كان يديرها عبد اللطيف فيّاض، في زمن كانت ظروف التعليم فيه تعيسة، وخصوصًا في المناطق البعيدة عن العاصمة بيروت، ولكي يتمكّن من الفوز في دار المعلّمين الابتدائيّة التي كانت قد أُنشئت في العام 1924 في بيروت، تخرّج نمر صبّاح في العام 1938 وعُيِّن مُدرّسًا في مدرسة ذات معلّم منفرد في قريَة العبّاسيّة ولاحقًا في الدوير، إلى أن نُقل إلى النبطيّة في العام 1943. التحق بالجامعة اليسوعيّة مُندفعًا بمعاناته وطموحه الشخصيّ، وسافر بعدها إلى فرنسا 1948 على نفقته الخاصّة، بهدف تعرُّف الأساليب التربويّة الحديثة التي درسها نظريًّا في دار المعلّمين، التي حاول تطبيقها عمليًّا في أثناء مرحلة تدريسه.

أنجز أطروحته الأولى لنيل درجة الدكتوراة في التربية، وعلم النفس في العام 1950، وفي العام 1952 أنجز أطروحة في الأدب العربيّ من جامعة ليون، ونال تهنئة رئيس الجامعة ثم ميدالية الأكاديمية الفرنسية (جائزة شارل قرم) فأقيم له حفل مهيب في القصر التاريخيّ “أوتيل دو فيل” حضره أعضاء الأكاديميّة، وأساتذة الجامعة، والمسؤولون الرسميّون، والإداريّون، ورجال العلم والأدب.

كان لشدّة ثقته بذاته وقوّة حضوره الأكاديميّ في فرنسا يؤمن بأنّ لبنان سيستدعيه للاستفادة من علمه وخبرته، ولا سيّما في المجال التربويّ، لوضع نظريّاته التربويّة التي وردت في كتابه “التطوّر الثقافيّ في لبنان، والتوجّه الجديد للمدرسة اللبنانيّة”، ولكن أمله قد خاب، فعاد نمر خائب الرجاء إلى فرنسا في العام 1954، استدعي للتدريس جزئيًّا في المدرسة التطبيقيّة للعلوم العالية في السوربون، وكان طيلة مدّة إقامته في فرنسا التي امتدّت حتّى نهاية 1959 فاعلًا في التجمعات الفكريّة، والأدبيّة للطلاّب العرب في فرنسا، كذلك شارك في تجمّع الطلبة العرب والأفريقيّين، وهناك تعرّف إلى ليوبولد سنغور.

في العام 1960 سافر إلى موريتانيا لتدريس اللغة العربيّة في جامعتها، فبقي هناك سنتين، يعاني من صعوبة العيش لجهة تأخّر الرواتب، واضطراب أحوال البلاد، حتّى يستدعيه سنغور – الذي أصبح رئيس السنغال – (1962) إلى داكار العاصمة ويسلّمه عمادة كلّيّة الآداب فيها، فيفتتح قسمًا لتعليم اللغة العربيّة، يشرف عليه بنفسه، إضافة إلى مَهَمَّة التدريس، وينال وسام الاستحقاق من حكومة السنغال تقديرًا لجهوده، برتبة أوفيس كوموندور في القصر الجمهوريّ. لم يعد إلى لبنان إلا لمامًا في الإجازات الصيفيّة لعيادة أهله والإطمئنان إلى أحوالهم، حتّى وفاته في العام 1981 في السنغال ودفن هناك.

لم تستطع النبطيّة التي حملها في قلبه طوال سنوات اغترابه أن تفيه حقّه من التكريم، بسبب العدوان الإسرائيلي، فكتب عنه سعيد صبّاح في مجلة الراية، ونعته جريدة السفير اللبنانية معرِّفة به وبآثاره وبقصيدة رثاء من صديقه ياسر بدر الدين “وانطفأ نمر صبّاح..” قتلته الغربة هو الغريب في وطنه، “مات نمر صبّاح وهدأ في قلبه نبض التراب” كما جاء في القصيدة.

نمر صبّاح باحثًا تربويًّا وأدبيًّا وشاعرًا

أنجز كتابه “التطوّر الثقافيّ في لبنان، والتوجّه الجديد للمدرسة اللبنانيّة” في العام 1950، – كتبه باللُّغة الفرنسيّة – وتكمن أهمّيّته في أنّه من أوائل الدراسات التي عالجت مشاكل التعليم في لبنان في النصف الأوّل من القرن بالاستناد إلى النظريّات التربويّة الحديثة، إضافة إلى مباحث أستاذه واصف بارودي، الذي كان أوّل العاملين على معالجة مشكلة التربية، والداعين إلى تعميم التعليم الرسميّ، وتطويره في المناطق اللبنانيّة كلّها.

أنجز في العام 1952 أطروحة دكتوراة في الأدب العربيّ عن “جرجي زيدان وآثاره الأدبيّة”، وهي دراسة غير منشورة، عالج فيها مشاكل النهضة الأدبيّة، حياة زيدان، مؤلّفاته، وآثاره الصحافيّة، وفكره، وأعماله الأدبيّة والتاريخيّة.

طَبَع نمر في العام 1978، على نفقة الجالية اللبنانيّة في السنغال ترجمته لكتاب ليبولد سينغور “أسس العنصريّة الأفريقيّة، أو المزنجة والعروبة” وأعطاه عنوان: “الانتساب الى العرق العربيّ: تأمّلات حول قضيّة الثقافة”، كان سينغور رئيس جمهوريّة السنغال مثقّفا نادرًا، عالمًا، وفيلسوفًا وشاعرًا، اعتمد في كتابه على التحليل العميق لمعطيات علوم الإناسة، والإثنيّات، والخصائص العرقيّة والألسنيّة، استطاع نمر أن ينقل المعنى من اللغة الفرنسيّة إلى اللغة العربيّة من دون تحريف.

تجلّت شاعريّة نمر صبّاح في الشعر المترجم أكثر منها في الشعر الشخصيّ.

ظهرت شاعريّته الفذّة في ترجمته لـديوان “أناشيد الظلال”، وقد ساعدته الصداقة الحميمة التي تربطه بسنغور حامل شعلة التغيير في أفريقيا السوداء وأوّل الدُعاة إلى إحياء قيَم الثقافة الأفريقيّة الأصيلة، على الإبداع في ترجمة مضامين شعره.

يُمثل الدكتور نمر صبّاح أنموذج الإنسان الحُرّ العالم، والمجاهد في سبيل الخروج من قوقعة البلدة، والوطن إلى رحاب الإبداع في أرض الله الواسعة.

*مصدر المعلومات كتاب “نمر الصبّاح وليوبولد سنغور (لقاء مبدعين ولقاء ثقافتين)”، للدكتورة دلال عباس، طبعة أولى سنة 2000.
دراسة عن الكتاب نشرتها نسرين رجب في مجلة أوراق ثقافية (23 أيلول/سبتمبر، 2019)

السابق
إيران والسعودية.. إتفاق «داحس والغبراء»!
التالي
خاص «جنوبية»: تهرب شيعي من وراثة الأزمة بعد «استقالة» سلامة.. والمنظومة «تتحسس رقبتها» بعد التحقيق الاوروبي!