النظام اللبناني «ينحر» مواطنيه.. والرجال المنتحرون «يتفوقون» على النساء!

تعدّ ظاهرة الانتحار قديمة، فهو ملازم للمجتمعات البشرية، باعتباره قد ينجم عن اضطراب يختبره “الأنا”، عند تعرّض الفرد لأزمات وصدمات تتسبّب بعدم توازن عالمه الداخلي، هذا إلى جانب ضعف علاقاته مع الآخرين ومجتمعه من ثم. ومن المعروف، على المستوى السيكولوجي أيضاً، أن الفرد يصل إلى الانتحار و ينفّذه نتيجة لضغط اللاوعي وسيطرته. بمعنى آخر، عندما يعاني الفرد تحت وطأة الاضطراب النفسي، فإنه يتخطّى الانتحار، كفكرة تشكّلت من جرّاء وقوعه ضحية يأس شديد وسوداوية، ليذهب، بصورة لا واعية، إلى تنفيذها.

الفرد يصل إلى الانتحار و ينفّذه نتيجة لضغط اللاوعي وسيطرته


و إذا ما أردنا تناول المراحل الزمنية، أو الأوقات التي تتواتر فيها نسب حالات الانتحار، فمن الملاحظ، على سبيل المثال، أنها لا تظهر في زمن الحروب. يعود السبب في ذلك إلى أن القتل هو نتيجة طبيعية وحتمية لها. لذلك، لا نسمع بحالات الانتحار حتى لو حصلت. بينما تزداد وتيرة الانتحار في المجتمعات، التي تئنّ تحت وطأة الأزمات الاقتصادية التي تثقل كاهل الأفراد، الذين قد يقعون أسرى لضغط نفسي يصعب تخطّيه، فيجدون في الموت الإرادي ملاذاً للهروب منه.

تزداد وتيرة الانتحار في المجتمعات التي تئنّ تحت وطأة الأزمات الاقتصادية التي تثقل كاهل الأفراد

تأتي مقاربة الانتحار من زاوية جندرية، لتبيّن أن نسبة الرجال الذين ينفّذون الانتحار “الناجح”، أو كما أشارت إليه منظمة الصحة العالمية “الكامل”، أعلى من النساء اللواتي يقمن بمحاولات انتحار، لأنهن يردن “حفظ خط الرجعة” كما يقال، و يتمّ إنقاذهنّ. لذلك يلجأن إلى تناول جرعات زائدة من الادوية، بعكس الرجال الذين يستخدمون “السلاح”. بمعنى آخر، تكثر حالات الانتحار في صفوف الرجال و”محاولات الانتحار” عند النساء!!!

تكثر حالات الانتحار في صفوف الرجال و”محاولات الانتحار” عند النساء

لسنا هنا في صدد تناول الانتحار من زاوية سيكولوجية بحتة، لكن كان لا بدّ من عرض سريع و موجز، قدر المستطاع، لتقديم فكرة عامة شاملة عنه. وما يهمنّا، هنا، هو مقاربة العلاقة بين ما يجري في الواقع اللبناني، وبين ازدياد حالات الانتحار بين صفوف المواطنين.
يتبدّى التدهور الاقتصادي الذي وصل إلى حدود الكارثة الاجتماعية، عاملاً رئيسياً في اتساع ظاهرة الانتحار في المجتمع اللبناني، خصوصاً في الآونة الأخيرة، بحيث أصبح اللبناني من ذوي الدخل المحدود، والعاطل عن العمل بصورة خاصة، في حاجة إلى أدنى متطلبات الحياة من مأكل و مشرب. و أضحت حياته محصورة البحث عن ما يمكن أن يضمن له البقاء على قيد الحياة. كما اجتاحت خيبة الأمل الكثيرين من اللبنانيين، الذين باتوا تحت خطّ الفقر، وذلك مع انسداد أفق تغيير الاوضاع الاقتصادية، التي شكّلت محدّداً رئيسياً للانحدار النفسي، نحو الاكتئاب وغيره من الاضطرابات التي تسهم في نسبة كبيرة في الانتحار.
وأتى انتحار أرباب الأسر، الذي يقع على عاتقهم تربية أطفالهم وتأمين مستلزمات عيش كريم لهم، من غذاء و مسكن و دواء و تعليم… ليظهر مدى اهتزاز صورة الأب في الأسرة، والذي يشكّل نموذجاً في سلوكه و مكانة أساسية في عائلته، نظراً لما يمثّله من سلطة تحمي وتمدّ الطفل، بكل ما يحتاجه للعيش، هذا عدا عن الأمان و الحماية. وقد يسري هذا الاهتزاز أيضاً في صورة الأب أمام الزوجة والأم.

أتى انتحار أرباب الأسر، الذي يقع على عاتقهم تربية أطفالهم وتأمين مستلزمات عيش كريم لهم من غذاء و مسكن و دواء و تعليم… ليظهر مدى اهتزاز صورة الأب في الأسرة


كذلك الأمر، قد يكون البعض ضحية تربية، تركز على أن الشخص لا يُهاب ولا يُحترم أيضاً، ما لم يكن مستنداً إلى قوى عائلية أو اجتماعية أو سياسية تدعمه و تساعده، و تؤمّن له ما يسمّى بالواسطة في حياته. لذلك فإن نشر مثل هذه القيّم، يجعل من الفرد اتكالياً و ضعيفاً في الوقت نفسه. بمعنى أنه قد يقع فريسة سهلة لسوء تقدير الذات و تحقيرها أيضاً، في حال واجه أزمة عجز عن تخطّيها، بعد أن يكون قد فقد واسطته. وفي هذه الحال، قد يجد في الانتحار سبيلاً للهروب من مشاعره المحبَطة و الكدرة.
وأما بالنسبة إلى التعليم، فمن المعروف، أن تحصيل الفرد لشهادة علمية، تخوّله ليس فقط ممارسة بعض المهن، بل أيضاً قد تؤدي دوراً في تعويضه نفسياً عن وضعه الاقتصادي المتدنّي. وغالباً ما يحاول صاحب الشهادة العليا، أن يحل أزمته بطريقة متجاوزة لخيبته، ويقوى عنده عامل ما يسمّى بالمقاومة النفسية، التي تظهر خلال الصدمات، وتؤدي دوراً في مساعدته على تخطّيها إلى جانب إعادة بناء الذات وتماسكها. ومن هذا المنطلق، فإن من يترك التعليم مبكراً، قد يقع فريسة سهلة للانتحار نتيجة عدم تسلّحه بهذه المقاومة النفسية.

باتت مأساة لبنان بيئة حاضنة للإنتحار الذي استوطن بين صفوف مواطنيه بعد أن توهّموا أو اقتنعوا لا فرق بأنه هو المنقذ


ولا يمكن ، بالتأكيد، تبرئة النظام السياسي اللبناني، الذي امتهن حرفة إغراق المواطن في مستنقع من الحرمان و التخلّف، فحوّله إلى عاجز و منهَك، بحيث لم يرَ منفذاً له سوى قتل نفسه. لقد تمادى هذا النظام في النفاق، عبر الوعود الكاذبة التي أغدق بها سياسيون، احترفوا تضليل المواطن و تصوير المستقبل الصاعد بأنه مشرق. لقد استخدم وعوده التي كان يطلقها بشكل دوريّ كمخدّر، إلى أن اعتاد عليها اللبنانيون، الذين باتوا يعيشون على أمل سماع المزيد منها بدلاً من تنفيذها!
خلاصة القول، باتت مأساة لبنان بيئة حاضنة للإنتحار، الذي استوطن بين صفوف مواطنيه، بعد أن توهّموا أو اقتنعوا، لا فرق، بأنه هو المنقذ.

السابق
منتدى «جنوبية» يدعو للمشاركة في جلسة حوارية مع الوزير متري
التالي
رسائل عسكرية بطعم رئاسي من «حزب الله» لجنبلاط..والدولار إلى خمسة أصفار مع تجدد إضراب المصارف!