العائلة اللبنانية في مهبّ… الانتحار والقتل والطلاق والانهيار

الفقر في لبنان

… قتْل، انتحارٌ، طلاق، خلافاتٌ، هجرة، كآبة، فقر وعنف… هذا هو الواقع الذي دَهَمَ العائلات اللبنانية على وقع كوارث وكوابيس ونكبات تحوطها وتتسلّل إليها جراء الانهيار الكبير الذي يجتاح البلاد منذ أعوام… هموم تُفَجِّرها من الداخل وتدفعُ بها إلى الهاوية بعدما كانت تعاند على حافتها في الأعوام الماضية.

تَضَعْضُعٌ مريع ومريب يَحْدث في قلب «العائلة»، الخلية الصلبة التي صار بعضها مرتعاً لأحداث دموية تُفْشي سرَّها أرقامٌ يُخشى معها أن يكون لبنان وصلَ إلى نقطة اللاعودة بعدما كانت الأُسرة حزام الأمان وخط الدفاع الأخير في وجه الفواجع التي تقبض على البلاد.

اقرأ أيضاً: هل تحول الإنتحار بسبب الفقر الى «واجب»؟!

قطاعاتٌ لبنانية تتهاوى واحدة تلو الأخرى: الاقتصاد، المال، الصحة، التعليم، القضاء، المؤسسات العامة… لكن غالباً ما كانت هذه المصائب على فظاعتها تقف خارج جدران البيت، هذا الحصن الأمين والملجأ الدافئ الذي يحتضن العائلة، تصيبه شظاياها لكنه يبقى صامداً.

ماذا يحدث داخل العائلات اللبنانية؟ أرقام وحوادث ومؤشرات أخذت بُعداً دراماتيكياً بدءاً من أوائل سنة 2023 وتنبئ باقتراب الانهيار من قدس أقداس اللبنانيين… من عائلاتهم.

يهربون من همومهم نحو العالم الآخَر

«تعبتُ وقرفتُ… دعاء وجواد وجوري أمانة برقبتك، أهمّ شيء جوري، لم أعد قادراً على التحمّل». بهذه الكلمات توجّه ربّ العائلة اللبناني الشاب موسى الشامي إلى صديقه يوم الثامن والعشرين من فبراير المنصرم موكلاً إياه بعائلته بعدما قرر إنهاء حياته بطلقة رصاصة لأن الأعباء الثقيلة التي رماها الوطن المُنْهَك على كاهله وكاهل كل رب عائلة صارت أثْقلَ من أن يحملها.

وقبله بأسبوع تماماً، كانت المأساةُ أكبر وأشدّ فظاعة حيث قام ربُّ عائلةٍ شاب بخنْق زوجته وطفله البالغ من العمر أربع سنوات ثم رمى بنفسه من على سطح المنزل وفارق الحياة. ويقول أهله وعارفوه إنه كان عاطلاً عن العمل ويعيش ظروفاً مَرَضية وعصبية صعبة، ويعاني اضطراباً نفسياً تَفاقَمَ بسبب الظروف المادية القاسية التي تلفّ البلاد والتي دفعت به إلى تعاطي الممنوعات.

وفي السياق المؤلم نفسه الذي يعصف بالعائلات اللبنانية عَمَدَ زوجٌ إلى إطلاق النار على طليقته منى الحمصي في وسط الشارع وتحت أنظار المارة جميعهم وأرداها قتيلة ووقف هناك دون أي ردة فعل وكأن شيئاً لم يكن. وهذه الحادثة إن دلت على شيء فعلى الاضطراب النفسي الكبير الذي يصيب أرباب العائلات ويدفع بهم إلى حافة الجنون و… الجريمة.

ولم يكد يهمد لهيب هذه الحادثة حتى جاء توالي 4 حوادث انتحار في خمسة أيام ليعيد طرح السؤال الحارق: ماذا يحدث داخل العائلات ويدفع بأربابها وأبنائها لوضع حد لحياتهم؟

حسين مروة الناشط الاجتماعي الذي يُجْمِع كل مَن عرفه على صلابته والذي كان يشارك في المناسبات الوطنية والتظاهرات ويرفع الصوت دائماً، استسلم أمام صعوبة الأوضاع التي يمر بها بلده فأنهى حياته بطلقة من بندقية صيد في بلدة زرارية الجنوبية بعد اتصال أخير بزوجته أعلمها فيه أنه ذاهب لينتحر فحاولتْ اللحاقَ به وتبعتْه إلى حقل زيتون خارج البلدة لكن الأوان كان قد فات ووجدتْه مضرجاً بدمائه. ويقال إن الانتحار جاء بسبب مشاكل مادية ربما فاقت قدرته على التحمل.

ولم يكد يطوى النهار حتى استفاق جنوب لبنان على حادثة انتحار أخرى تعود إلى الشاب محمد إبراهيم وهو ابن شقيق قاضٍ معروف وهو موظّف في أحد قصور العدل التي تعاني ما تعانيه من انعكاسات الأزمة المالية على موظفيها بحيث لم يعد راتب أحدهم يتخطى المئة دولار. وقبْلهما أنهى موسى الشامي حياته ولم يقوَ علي أبو حمدان على «الصمود» أكثر فكان تَجَرُّع سم الانتحار أسهل فأطلق النار على نفسه في منزله في تعلبايا (قضاء زحلة).

ولا تقتصر ارتدادات الأزمة المالية التي يتخبّط فيها لبنان على رفْع معدلات الانتحار، بل هي تنعكس بأشكال أخرى على العائلات.

فالروابط العائلية تتفكك والانهيار يطول العلاقات بين أفرادها.

«زهراء» التي تحمل شهادة دكتوراه في الفلسفة تعرّضت للضرب من شقيقيها وللسرقة أيضاً بسبب خلافات على الإرث.

وتقول بالحرف «كالوحوش انقضّا عليّ وضرباني بحقد وكأنني عدوتهما اللدودة».

لكن شقيقيْها بدورهما يرفضان الخبر من أساسه رغم الأدلة ويدّعيان أن زهراء قامت بضرب وإيذاء والدتهم… مشكلة داخل الأُسرة كان بالإمكان حلها بالتفاهم لو كانت الأعصاب هادئة ولم يكن كل فرد محقوناً ومستعداً للانفجار في أي لحظة حتى بوجه أقرب المقربين منه.

والجرائم العائلية التي كانت تحدث سابقاً بين الفينة والأخرى اتخذت واقعاً مختلفاً ولم تعد جرائم شرف أو جرائم عاطفية أو حتى عنف ضد النساء فقط بل باتت بحسب ما يراه الاختصاصيون النفسيون حصيلةَ الوضع المعيشي والنفسي المتأزّم الذي يعيشه اللبنانيون.

وفي السياق الدموي نفسه في قلب العائلات تحوّل إشكالٌ لفظي بين شقيقين في مدينة طرابلس الشمالية إلى إطلاق نار أقدم خلاله أحد الشقيقين على رمي أخيه بالنار والتسبّب بإصابةٍ له استدعتْ نقلَه إلى المستشفى. خلاف كان يمكن أن يحل بكلمة بعتاب بقبلة بين الأخوين لو لم يكن حبل الأعصاب مشدوداً إلى حد التمزّق والانهيار.

خوف من الزواج

وإذا كان تشتت العائلات لا يعني بالضرورة ودائماً الوصول إلى العنف والقتل والانتحار، لكنه يعني في غالبية الحالات تباعداً وانفصالاً. والأرقام في هذا الإطار مُقْلِقة وتشي بالكثير.

إذ وبحسب تقرير نشر في إحدى الصحف اللبنانية فإن إحصاءات دوائر الأحوال الشخصية في لبنان تشير إلى أن نسبة الطلاق بلغت 26.5 في المئة في العام 2022 ما يعني أن أكثر من ربع الزيجات في لبنان قد آلت إلى طلاق، وقد ترتفع النسبة إذا احتسبنا أيضاً فسخ الخطوبة وفك الارتباط بين مَن كانا مقبلين على الزواج.

وإلى هذه الأرقام يضاف تخوف كبير عند المتزوّجين حديثاً من الإنجاب في ظل الظروف المعيشية والمادية الصعبة وفقدان حليب الأطفال من الصيدليات بين الحين والآخَر.

وبات لبنان الذي يعيش منذ عقود تراجعاً في عدد الولادات فيه يشهد بحسب د. علي فاعور الاختصاصي في الدراسات السكانية نمواً سلبياً وعدم قدرة على تأمين جيل جديد يحل محل القديم، وتفاقمت هذه المعدلات اليوم مع اشتداد الأزمة بعد العام 2019 إذ وفق التصنيفات الدولية فإن 34 دولة في العالم من أصل 234 يتناقص عدد سكانها ويحتل ّلبنان مراتب متقدمة في التناقص السكاني الذي وصل حد 0.88 في المئة.

فقد بات الشباب يخشون تأسيس عائلة في هذه الظروف كونهم غير قادرين على تلبية متطلباتها المادية والاستقرار المعنوي والنفسي والمعيشي الذي تحتاجه العائلة، حتى ان البعض ساخراً لخّص الزواج في لبنان بكونه انتقالا للمحبس من اليد اليمنى إلى اليسرى ثم إلى إحدى مؤسسات رهن الذهب مقابل قرض مالي… ومع اتساع أزمة المصارف وتوقُّفها عن منح القروض السكنية صار الزواج وتأسيس منزل الزوجية حلماً بعيد المنال.

الانفصال العاطفي

الطلاق المنجَز الذي ارتفعت أعداده في لبنان يقابله طلاقٌ من نوع آخر تشعر به كل عائلة مهما كانت الأواصر التي تشدّ بينها قوية. هو الطلاق النفسي أو الانزواء العاطفي.

وتقول الاختصاصية والباحثة في علم الاجتماع غريس كرم لـ «الراي» إن غالبية الرجال أرباب الأُسَر «يعيشون اليوم حالة من الكآبة وانعدام الوزن بدرجات مختلفة بعدما أضاعوا كل المرتكزات التي كانوا يبنون عليها استقرارَهم الشخصي والعائلي، وبات دورهم كمُعيل أساسي للأسرة مهدَّداً أو انتفى في أحيان كثيرة، ما جعلهم يشعرون بأن قيمتهم وسلطتهم تراجعت.

فالزوج لم يعد قادراً على تأمين الأساسيات لعائلته وبات يعتمد اما على الزوجة و إما الأولاد وإما يصارع وحيداً في وجه أزمة ليس قادراً على الصمود في وجهها، الأمر الذي يغرقه في إحباط نفسي وعاطفي ويجعله ينزوي في عالمه الخاص بعيداً عن زوجته وأولاده. وقد يذهب أحياناً إلى حل متطرف هو العنف تجاه عائلته أو نفسه».

وتروي إحدى السيدات كيف أن زوجها بات عاطلاً عن العمل وهي المسؤولة عن تأمين معيشة العائلة ومتطلّبات البيت. ورغم كونها تقوم بما يتوجب عليها ولا تُشْعِر الزوجَ بأي لومٍ، إلا أنه بات منزوياً غريباً في بيته يمضي يومه على الكنبة كأنه يقاصص نفسه على وضعٍ ليس هو مَن تَسَبَّبَ به.

وقصص التباعد داخل العائلة والتشنجات بين أفرادها كثيرة جداً وهذا ما يفسر وفق الاختصاصية الاجتماعية لجوء الأبناء إلى أماكن السهر في شكل مبالَغ فيه، وذلك سعياً منهم للابتعاد عن أجواء البيت المشحونة دائماً بسبب الخلافات والضغوط.

وقد يتساءل كل مَن يزور لبنان عن سرّ فورة أماكن اللهو والترفيه التي تعجّ في شكل خاص بالشبان والشابات الذين يَبدون وكأنهم غير مبالين بما يحدث حولهم أو بما يعانيه الأهل.

ولكن في الواقع يشكل الأمر نوعاً من الهروب والحماية الذاتية من حال الكآبة التي تسيطر في البيوتات.

وتقول إحدى الشابات: «لا أحب البقاء في البيت والإصغاء إلى نشرات الأخبار والتحاليل الإخبارية التي يتابعها والدي في شكل مستمر لأنها تُغْرِقُني في حال من الخوف الدائم على المستقبل أحاول أن أتناساه، كما أنني صرتُ أهرب من ذلك السكوت السائد بين والدي وانعدام الفرح والبسمة في بيتنا وكأن الحِمل الاقتصادي كله يقع على عاتق عائلتنا نحن فقط».

ويأتي هذا الشرخ داخل العائلات اللبنانية ليضاف إلى نزفِ مستمر منذ بضع سنوات ويتمثل بالهجرة التي تطول الأبناء في شكل خاص أو رب الأسرة ما يُحْدِثُ فراغاً داخل الأُسرة يصعب ملؤه ويولّد فيها حالة مستمرة من الشوق والحزن والخوف من تحوُّل الهجرة الموقتة إلى دائمة تقطع الأواصر بين العائلة وأبنائها.

… مأساة متعددة الوجه لا تخلو عائلة لبنانية من تشظياتها، وقد تكون أخطر تداعيات الأزمة التي تطول «بلاد الأرز» وأشدّها خطَراً على وجودها ومستقبلها لأنها تطول الإنسان و«الخلية الأمّ» للمجتمع… العائلة.

السابق
أسرار الصحف ليوم الثلثاء في 7 آذار 2023
التالي
المهدي المنتظر..موعد مع زمن النقاء وعصور الرخاء