السعوديون الشيعة… تغيرات لا تخطئها العين! (حصار خطاب التطرف-1)

ولي عهد السعودية والكويت

السعوديون الشيعة، مواطنون يعيشون على أرض المملكة العربية السعودية، وهم جزء من التركيبة الاجتماعية المتعددة، التي يمثل تنوعها عنصر قوة، في وطنٍ يمتد على بقعة جغرافية واسعة، تقطنها مذاهب وثقافات عدة، هي اليوم تسعى لأن تتكامل مع بعضها، وتتحاور، وتندمج، وتشارك في التنمية والتغيير والإصلاح، وتتعايش سلمياً تحت سقف القانون العادل، وفق مبدأ “المواطنة الشاملة”، لأن الجميع سعوديون أولاً وأخيراً، وبناء على ذلك فهم سواسية، لا فضل لأي مذهب أو منطقة أو قبيلة على أخرى، فهذه الهويات الفرعية ليست إلا جزءاً من تكوين الهوية الوطنية العُليا، التي تشكل الحاضنة الأوسع لجميع السعوديين. 

دائماً في حواراتي وكتاباتي ما اُقدم كلمة “السعوديون” على المذهب، لأن الهوية الوطنية هي الإطار الذي يجمع مختلف مكونات الدولة، وهي ما يفترض أن يُقدم المواطنون أنفسهم من خلالها، بوصفهم بشراً يشتركون في أرضٍ واحدة، وجنسية واحدةٍ، وقيادة واحدة، وولاء واحدٍ لوطنٍ يضمهم جميعاً، لهم فيه حقوق وعليهم واجبات. 

اقرأ أيضاً: البوابة الخليجية: مدخل الأسد لفك العزلة الخارجية

هذه الأفكار كنتُ قد تناولتها وسواها، بكثير من التفصيل، في حواريَّ مع معين جابر وميديا عازوري، ضمن بودكاست “سردة”، في حلقة بثت 26 شباط (فبراير ) الماضي، لقيت أصداء واسعة، كثير منها مؤيد لما طرح من آراء، والبعض معترضٌ عليها. الحق في الاختلاف طبيعة بشرية، يجب أن نؤمن بها، ولذا، ما قُدم في الحوار هو وجهات نظر لا أزال مقتنعاً بها، ولا أرى النقد الذي وجه له  كافياً لكي أبدل آرائي أو أتراجع عنها، خصوصاً أن جزءاً من هذا النقد كان مسيساً أو يستند لوقائع باتت من الماضي، وجزء منه نابعٌ من المكيدة والعداء للدولة السعودية!ليس المراد هنا المساجلة مع الناقدين، أو الرد عليهم، وإنما فتح نافذة أوسع للحوار حول “السعوديين الشيعة”، والتغيرات التي مروا بها طوال سنوات، وتحديداً بُعيد إطلاق “رؤية المملكة 2030″، العام 2016، وهو المشروع الذي يروم إحداث تغيرات جذرية اجتماعية وثقافية واقتصادية وإدارية. 

هذه الرؤية عندما أعلن عنها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، طرحها كمشروع نهضوي يعمل على تحقيقه على أرض الواقع، وليست حملة ترويجية من أجل تحسين الصورة أو الدعاية المؤقتة. 

“الرؤية” كي تنجح لا بد أن تتوافر لها ظروف عدة، من أهمها البيئة الاجتماعية المستقرة، البعيدة عن التعصب والطائفية والانغلاق، ولذا كان الأمير محمد بن سلمان صريحاً جداً في مواجهته لـ”التيار المتشدد”، عندما قال في “منتدى مبادرة مستقبل الاستثمار”، تشرين الأول (أكتوبر) 2016، إن “70 في المئة من الشعب السعودي هو دون الثلاثين سنة، وبكل صراحة.. لن نضيع 30 سنة أخرى من حياتنا في التعامل مع أفكار متطرفة.. سوف ندمرهم اليوم وفورا”، مضيفاً: “نريد أن نعيش حياة طبيعية.. حياة تترجم ديننا السمح وعاداتنا وتقاليدنا الطيبة.. ونتعايش مع العالم ونساهم في تنمية وطننا والعالم.. فهذا أمر أعتقد أنه اتخذت خطوات في الفترة الماضية واضحة، وأعتقد أننا سوف نقضي على بقايا التطرف في القريب العاجل”. 

إذن، “القضاء على التطرف” هو أحد مستهدفات “الرؤية”، لأن “التشدد الديني” لا يمكنه أن يتعايش مع المتغيرات الإصلاحية المراد إنجازها؛ ومن أجل ذلك بدأت المؤسسات الرسمية السعودية المعنية بملف “التطرف” في مواجهة الحركات الإسلاموية، سواء تلك المتورطة في “الإرهاب” أو المحرضة عليه، وتحديداً “التيار السروري” و”الإخوان المسلمين” و”داعش” و”القاعدة” و”خلايا العوامية” و”حزب الله الحجاز”، أي جميع تلك التشكيلات التي تروج للعنف أو تستخدمه وسيلة للوصول إلى السلطة! 

لقد كان الخطاب الطائفي، إحدى الوسائل التي كانت تستخدمها الجماعات المتشددة من أجل بسط نفوذها، وتحشيد الأتباع، وهذا الخطاب عمل على إحداث مشكلات عميقة، خصوصاً أنه مورس لسنوات وعلى نطاق واسع في وسائل الإعلام والمساجد ومنابر الجمعة، وروج له عبر الفتاوى والمطويات والمنشورات التي كانت توزع. 

هذا الخطاب الطائفي لم يكن يستهدف السعوديين الشيعة وحدهم، بل استهدف حتى السعوديين السنة من غير السلفيين، وطال بنقده الحاد بقية المذاهب الإسلامية الأخرى؛ بل هو خطاب إذا أمعنا النظر فيه، سنجد أنه كان يعادي كل من اختلف معه فكرياً وسياسياً حتى وإن كان من داخل البيئة ذاتها والأسرة الواحدة، وأدى ذلك لأن يعادي المرءُ أهله، وأن يهجرَ ويُفسقَ الأخ أخاه وقرابته! 

لقد كان الخطاب السلفي المتشدد، يكفرُ السعوديين الشيعة والصوفية والعلمانيين والليبراليين وحتى العاملين في بعض أجهزة الدولة، كالعاملين في القطاعات الأمنية: الشرطة، المباحث العامة، الجيش، وكان “المتشددون” ينظرون لهؤلاء جميعهم بوصفهم كفاراً يستحلون دماءهم، ويعتبرون أنهم “جند الطاغوت” بحسب توصيفاتهم. 

أبعد من ذلك، ذهب غلاة المتشددين إلى تكفير القيادة السياسية للمملكة، لأن الهدف هو تقويض نظام الحكم، وضرب أساس الدولة، من أجل الوصول إلى السلطة. إذن، التكفير الذي عانى منه السعوديون الشيعة، عانى منه أيضاً سواهم من المواطنين، كلٌ بدرجات مختلفة، بحسب الظروف الأمنية والسياسية المتغيرة طوال العقود الماضية. 

هذه الأجواء المضطربة، هي نقيض “رؤية المملكة 2030″، ولذا، فإن الأمير محمد بن سلمان عندما يقول إن “السعودية لم تكن كذلك قبل عام 1979.. السعودية والمنطقة كلها انتشر فيها مشروع الصحوة بعد عام 79 لأسباب كثيرة.. ليس المجال اليوم لذكرها.. فنحن لم نكن كذلك.. نحن فقط نعود إلى ما كنا عليه.. الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح على العالم، وعلى جميع الأديان، وعلى جميع التقاليد والشعوب”، فإنه يسعى لترسيخ مبدأ التعددية الرافضة للأحادية والاقصاء، لأنه يريد لـ”الرؤية” أن تنجح، وهو نجاح لا يمكن أن يكون تاماً إذا لم يتم حصار الخطابات الطائفية بـ”قوة القانون”. 

عندما تحدثت في بودكاست “سردة” وقلتُ إن القانون في السعودية يمنع أي خطيب من أن يصعد على منبرٍ ويكفّر المسلمين الشيعة أو السنة، فتلك حقيقة قائمة اليوم؛ لأن التغيرات التي أحدثتها “الرؤية” عملت على تحييد “دعاة الكراهية” عن منابر المساجد، ومنع استخدام دور العبادة لبث الكراهية. ومن يرصد خطب الجمعة في “الحرم المكي” و”المسجد النبوي” والجوامع الرئيسة في السعودية سيقفُ على صحة ذلك.  

حتى أولئك النزر من الوعاظ الذين يتجاوزن القانون، ويحرضون على الكراهية، ويتم رصدهم، يجري استدعاؤهم والتحقيق معهم، وتوجيه الاتهام لهم بعد التثبت من قيامهم بالجرمِ، وإحالتهم للنيابة العامة، لأن السلم الأهلي بمثابة “الخط الأحمر” الذي لا يجوز العبث به. 

المجتمع السعودي عانى طوال سنوات من التحشيد الطائفي، ولذا، طبيعي جداً أن تكون آثار ما لهذه الخطابات المذهبية عالقة في العقول لدى شرائح من المواطنين، إلا أن الدولة كجهة مسؤولة عن تنظيم الفضاء العام، خطت خطوات هامة نحو كبح هذا “الجموح الطائفي” لدى المتشددين، وحاصرت سردياتهم العنيفة، وحدت بشكل واضح وفعال من استخدامهم للمساجد وحلقات تحفيظ القرآن ووسائل الإعلام العامة في الترويج للعنف والكراهية. 

هنالك من يروج لخطابات طائفية عبر “وسائل التواصل الاجتماعي”، إنما هؤلاء أغلبهم إما عبر معرفاتٍ وهمية، أو تابعون لأجهزة مخابرات أجنبية، أو شخصيات متطرفة تعيش خارج السعودية، لأنها تعرف أنها إذا عادت سيتم محاسبتها قانونياً. فيما السعوديون الذين يحرضون على الكراهية عبر “السوشال ميديا” يتم محاسبتهم وفق “نظام مكافحة جرائم المعلوماتية” والأنظمة الجزائية المتعلقة بالجرمِ المرتكب. 

في السعودية، تتعزز قيم “المواطنة” و”تكافؤ الفرص” يوماً بعد آخر. لا أحد يدعي أن المملكة وصلت إلى غايتها المرجوة، وأننا أصبحنا مجتمعاً ملائكياً يعشقُ بعضه بعضاً كعشقِ مجنون بني عامرٍ لمحبوبته ليلى! إلا أن الطموح كبير، والعلاج الناجع والدائم يحتاج وقتاً، والأكيد أن الخطوات الإصلاحية تسير بوتيرة مستقرة ودائمة في الاتجاه الصحيح، وهذا هو الأهم .. وللحديث تتمة.

السابق
انخفاض طفيف للدولار صباحاً.. هكذا افتتح السوق السوداء
التالي
المسيّرات الإيرانية… من أوكرانيا إلى المغرب