غسان سلامة: مخاض مؤلم لعالم جديد

غسان سلامة

بداية العام الجديد، حملت “المجلة” أسئلة سنة 2022 والسنوات اللاحقة، إلى وزير الثقافة اللبناني الأسبق وأستاذ العلاقات الدولية والمبعوث الأممي غسان سلامة، بحثا عن إجابات وعن خيط يربط التطورات في سياق تاريخي ومحاولات استشرافية للمستقبل.

من لندن إلى باريس، كان لا بد للقاء أن يبدأ في مقهى باريسي. نستعيد ذكريات دمشق وبيروت وما تبقى منها. نقف على أطلال “الهلال الخصيب”. نتذكّر سنوات وعقودا خلت. لقاؤنا الثاني كان في اليوم التالي، في منزل سلامة. بالقرب من جدار مدروز بكتب التاريخ، وتحت خيمة من المهمات السياسية والديبلوماسية والأممية، يجلس سلامة الخارج للتو من تحدٍّ صحي، في ثنايا كرسي وثير مستعدا للتأمل والتحدث بصوت عال. وننشر هنا ملخص الحديث الذي نشر في النسخة الورقية من “المجلة” والنص الكامل المخصص للنسخة الرقمية:

شمس باريس المتسلّلة عبر النافذة إلى فناء الصالون، لم تكن كافية لبث الطمأنينة. ثلاثة أسباب لـ”قلق عميق”، تتعلق باستخدام القوة في العلاقات بين الدول والأزمات الاقتصادية المتفاقمة والتغير المناخي.

يأخذ رشفة قهوة، ويشير إلى “أمر خطر”، يتعلق بـ”تتفيه” استخدام السلاح النووي، ذلك أنه لا يمر يوم واحد في حرب أوكرانيا التي اندلعت في 24 فبراير/شباط 2022، من دون أن نسمع فيه بـ”النووي”.

اقرأ أيضاً: لبنان شقّ مساراً تطبيعياً مع سورية فوق أنقاض الكارثة الطبيعية

هذا النوع من “التتفيه” أمر في غاية الخطورة، خصوصاً مع ملاحظة أن العالم يمر بمخاض ولادة نظام جديد. يقول سلامة: “إننا نستشعر أوجاع مخاض ولادة النظام العالمي الجديد. الأوجاع تشير إلى تغيير بنيوي وليس إلى تغيير سطحي في تركيبة النظام العالمي، ولكن يصعب علينا أن نرى (ملامح) الوليد”.

العالم مريض

في خضم أزمة “كوفيد- 19”، كان سلامة يعاند المرض ويتغلب عليه. أما العالم، الذي يراه، فهو “معتلّ ومريض”، وتبيّن لاحقاً أنه بات على العالم أن يتعايش مع الجائحة بالمعنى الواسع للكلمة. لكن ما إن خرج العالم من عباءة الوباء، حتى دخل في سلسلة من الأزمات والمواجهات المقلقة. صحيح أن القائمة طويلة، لكن يمكن الحديث عن ثلاثة أسباب: “الأول، هو التغير المناخي الذي يجعل من صعود مياه البحار وإمكان أن تُغطى مساحات من اليابسة أمراً مقلقاً. هذه التغيرات غير طبيعية بمعنى أنها من صنع الانسان.

التغير المناخي أمر من الصعب أن نقول إنه مجرد فرضية علمية. إنني مقتنع به مئة في المئة لكن مصدر القلق هنا سياسي. لأنه إذا كان معظم التغير المناخي سببه نشاط الإنسان فعلى الدول والحكومات أن تعالج هذه الظاهرة. وهي بدأت بذلك منذ “بروتوكول كيوتو” قبل 30 سنة إلى مؤتمرات واتفاقات مؤتمر باريس، لكن التنفيذ غير موجود”. وفي الاقل غير كافٍ بالنظر إلى تسارع التغير المناخي.

التنفيذ

لماذا التنفيذ غير موجود؟ لا شك أن هناك أسباباً كثيرة، بينها “التكلفة الباهظة للتنفيذ. ربما باستطاعة أوروبا أن تنتقل إلى اقتصاد لا يسرّع التغير المناخي لكن عدداً كبيراً من الدول الأخرى عاجز عن ذلك مالياً. ثانياً، لأن جزءاً من الرأي العام لا يزال غير مقتنع، أو غير مبالٍ، فلا يضغط في هذا الاتجاه.

ثالثاً، لأن هناك شركات متنفذة لا تريد لهذه السياسات أن تطبق، فهي بالتالي تعرقل وتحوّل وتموّل لوبيات لعرقلة ذلك. رابعاً، وهو الأهم، أن حروباً ومشاكل جيواستراتيجية تحصل، لا سيما قرار مقاطعة الغاز الروسي بسبب حرب أوكرانيا، تؤجل أيضاً هذا الأمر (أي، الانتقال الضروري لمصادر طاقة أقل تلويثاً للكرة الأرضية). الألمان مثلاً كانوا على وشك إقفال ثلاث محطات نووية.

مع حرب أوكرانيا وتوقف تدفق الغاز الروسي أصبحت هناك عودة بإطالة جديدة لعمر المحطات النووية وعودة إلى الفحم الحجري الشديد التلويث، بحيث أن الصين بمفردها تنتج اليوم نصف الانتاج العالمي من الطاقة الخضراء بينما تؤجل دول متقدمة برامجها لأعوام أخرى.

مصدر القلق الثاني هو اقتصادي ومالي، ذلك أن سلامة يعتقد “أننا ندخل مرحلة انكماش في الاقتصاد العالمي مع تراجع في معدلات النمو في مختلف الدول التي نعرفها. وبالتالي مع النتائج المتوقعة لذلك، أي مع اضطرابات اجتماعية في تلك الدول، وسط انخفاض حجم الاستثمارات في الدول الفقيرة والنامية وخصوصاً مع اضمحلال المساعدات لا سيما الغذائية والدوائية التي تقدمها الدول الثرية إلى الدول الفقيرة. الرأي العام في الدول الثرية، مع ارتفاع الأسعار الذي نراه في أوروبا مثلاً أو في الولايات المتحدة الاميركية، سيكون أكثر بخلاً في المساعدات أو أقل تأييداً للاستثمارات في الخارج وأكثر تأييداً للسياسات الانطوائية والانعزالية في المجال الاقتصادي التي ستصيب حركة العولمة بمقتل”. استطراداً، لا يخفي “صندوق النقد الدولي” قلقه من أن العام الجديد سيكون “أكثر قساوة” على عدد من الدول وبعضها في منطقتنا العربية.

كسر الأعراف

السبب الثالث للقلق، لدى سلامة، يتعلق بـ”استعمال القوة”. إننا نعيش هذه الأيام الذكرى السنوية الأولى لحرب أوكرانيا. يوضح: “هناك خمسة أو ستة قرون من تراكم القوانين والأعراف في مجال حق اللجوء إلى القوة أو في مجال سبل استعمالها بطريقة مقبولة أخلاقياً. منذ القرن الخامس عشر نشأ تراث وأصبح له جانب شكلي ومكتوب تحول منذ نحو قرن إلى معاهدات واتفاقات مكتوبة أو متفاهم عليها. جاء انتهاء الحرب الباردة ليعطي أملاً بأن استعمال القوة سيصبح استثنائياً بل وصدرت الكتب والتحليلات التي تبشر بانتهاء الحروب تماماً. صحيح أن هناك عدداً من الحروب الأهلية نشبت بعد انتهاء الحرب الباردة في يوغوسلافيا وفي آسيا الوسطى وفي عدد من الدول الأخرى، لكن تم لجمها إلى حد كبير ولم تمتد إلى علاقات الدول الكبرى في ما بينها، بل رأينا أن الدول الكبرى تتعاون أحياناً لحل هذه المشكلات. أتذكر مثلاً أن اتفاق الطائف في لبنان نهاية الثمانينات ما كان ليحصل لولا الجو العالمي المؤاتي الذي نشأ وقتذاك”.

بالنسبة إلى سلامة، فإن أول نقطة تحول كانت عندما “كسرت الولايات المتحدة كل الأعراف والقوانين وقرارات مجلس الأمن بغزو العراق في ربيع 2003. هذا الغزو كانت أسبابه ربما الشعور المبالغ فيه بالقوة والشعور بأن هناك ظرفاً تاريخياً مناسباً للولايات المتحدة لكي تتخلص من بعض الخصوم الذين يزعجونها. لكنها كانت سابقة في غاية الخطورة لأن الدولة العظمى التي كان لها الدور الأكبر في بناء المؤسسات الدولية لا سيما الأمم المتحدة سنة 1945، هي التي تُقدم على خرق هذه الأعراف والقوانين وتقوم بحرب غير مبررة، بل غير قانونية كما قال الأمين العام السابق كوفي أنان”.

أدى غزو العراق في الواقع إلى أن “ينسحب استسهال استعمال القوة من الدولة الكبرى إلى دول كبرى أخرى”، حيث أن روسيا، بعد حرب العراق، هجمت على جورجيا واقتطعت جزءاً منها أنشأت فيه جمهوريتين مستقلتين، ثم بعد ذلك هاجمت أوكرانيا وأيضاً اقتطعت جزءاً من منطقة الدونباس وضمّت شبه جزيرة القرم ثم مناطق شرق أوكرانيا.

لم ينسحب سلوك الولايات المتحدة على روسيا وعلى الصين فحسب، بل انسحب أيضاً على دول “متوسطة القوة” مثل تركيا التي تدخلت في سوريا والعراق وليبيا وغيرها وهي موجودة في الصومال وفي عدد من الدول الأفريقية وبنت قاعدة في قطر.

وانسحب طبعاً على إيران التي لها أيضاً تدخلات في أكثر من مكان وهي تجاهر علناً بسيطرتها اليوم على القرار في أربع دول عربية. ثم انتقل هذا الأمر إلى دول أصغر أو ما يُسمّى “اسبرطات صغيرة”. هناك دول عربية صغيرة بدأت تتدخل هنا وهناك. وفي أفريقيا لديك على الأقل دولتان تستعملان القوة بصورة متكررة هما تشاد، التي نرى جنودها في غير مكان في القارة الأفريقية، وأيضاً رواندا بقيادة الرئيس بول كاغامي. إذاً، “اسبرطة الكبرى” خالفت القانون وتدخلت، فلحقتها “اسبرطات” أخرى من القوى الكبرى ثم لحقتها دول متوسطة ثم لحقتها أيضاً دول صغيرة. يرى سلامة “أننا رأينا في العشرين سنة الماضية استسهالاً لاستعمال القوة”.

مصير الرجل الأبيض

ماذا عن مصير الغرب وسيطرته التي اعتاد عليها العالم لعقود، إذا ربطنا بين مصادر القلق الثلاثة والحرب الأوكرانية والتوتر في تايوان؟ أليست كلها مؤشرات تدل على أن العالم الذي عرفناه سابقاً سينتهي وأن هناك مخاضا لشيء جديد؟ قبل أن يجيب سلامة، يذهب لإحضار جرعة إضافية من القهوة. يضع “الصينية” وفنجانين على الطاولة. يأخذ رشفة ويترك الفنجان في يديه، ويقول:

“عندما تتحدث عن مخاض أنت تتحدث عن ظهور وليد جديد. نحن نرى ونشعر بأوجاع المخاض ولا نرى وجه الوليد. هناك أوجاع من أسباب القلق التي ذكرت وهي تشير إلى مخاض، إلى تغيير بنيوي وليس إلى تغيير سطحي في تركيبة النظام العالمي، ولكن يصعب علينا، على الأقل في الراهن من الزمن، أن نرى الوليد”.

كي نضع الأمور في سياقها، لا بد من العودة إلى التاريخ. ويقول، إن ما نراه الآن، هو اندثار نظام دولي عمره نحو خمسة قرون بدأ باكتشاف الاوروبيين القارة الأميركية، وبالتالي هيمنتهم عليها وعلى الجزء الأكبر من آسيا وافريقيا.

في مطلع القرن التاسع عشر، كانت الصين والهند من أكبر الاقتصادات إن لم تكن أكبرها. لكن التفوق الغربي لا سيما بسبب الثورة الصناعية ثم الملاحة البخارية “سمح للرجل الابيض بأن يسيطر على معظم أنحاء المعمورة”. كان يمثل نحو ربع البشرية في مطلع القرن العشرين بينما يسيطر على أربعة أخماس الكرة الأرضية.

الآن، لم يعد الرجل الأبيض يمثل أكثر من 17 في المئة من سكان العالم ولم يعد يسيطر إلا على 30 في المئة من الكرة الأرضية. ويعود هذا إلى استقلال العشرات من الدول وإلى استعادة دول كبرى لمواقعها السابقة للانتشار الغربي.

العسكرة

ماذا عن العسكرة؟ يقول سلامة: “لا يزال الغرب بقيادة الولايات المتحدة في الصدارة، والتحدث عن أفول التأثير الغربي على المجريات العالمية أمر سابق لأوانه. لكن قوى جديدة تنمو بسرعة مدهشة لا سيما في آسيا مثل الصين والهند واندونيسيا ناهيك بدول اقليمية في الشرق الأوسط مثل تركيا، ولهذه الدول مطامح واضحة”.

في المقابل، فإن الدول الأوروبية خصوصاً ألمانيا طلقت نوعاً ما منطق القوة وتبنت فكرة العولمة المسالمة بحيث رأينا أن الجيش البريطاني بات أقل عدداً مما كان عليه أيام القائد البريطاني أوليفر كرومويل (في منتصف القرن السابع عشر)، وأن أعداد العسكر التي يمكن لأوروبا تعبئتها باتت أقل من دولة آسيوية متوسطة واحدة.

صحيح أن حرب أوكرانيا أيقظت الأوروبيين بعنف من أوهامهم عن عالم مسالم يهتم بالتفوق التكنولوجي والصناعي دون كبير اهتمام بوسائل القوة، حسب سلامة، “لكن صحوتهم جاءت متأخرة بعض الشيء باستثناء دول مثل بولندا وأوكرانيا حيث الاستثمار في القوة العسكرية لم يتوقف لحظة في السنوات العشر الماضية. أليس مذهلاً أن تكون الصين وتركيا وإيران تصدّر المسيرات بالآلاف إلى دول أكثر تقدماً؟”.

إن تمكن الغرب من الحفاظ على موقع مقبول في النظام العالمي، لا يعود إلى أسباب القوة التقليدية كما كان الأمر سابقاً، بقدر ما يعود إلى التحديات الداخلية التي يواجهها خصومه، كلٌّ لأسبابه، إضافة إلى “انعدام وضوح التصور المشترك بين هؤلاء الخصوم حول ماهية نظام دولي بديل من النظام الذي تمكن الغرب من تأسيسه ومن فرضه خلال القرون الماضية”.

البديل الصيني

هل تشكل الصين بديلاً من النموذج الغربي؟ يجيب سلامة بسؤال: “ماذا يجمع بين روسيا والصين والبرازيل وجنوب أفريقيا؟ لا يجمعها شيء. نحن نعلم تقريباً النسق الذي أنشأه الغرب في العالم وطوّره، ولكن ما هو النسق البديل؟ من السهل التحدث عن أفول الغرب ولديك معايير كثيرة عن أفول الغرب لكن ما هو البديل؟ هل تكفي الدعوة إلى الاستقلال الوطني كقاعدة لنظام دولي بديل كما يفعل الروس أو الصينيون خصوصاً؟ استقلال ماذا؟ والعلاقات الدولية مبنية على ماذا؟ هل المنظمات الحالية ستُدفع إلى الهامش أو سيستولي عليها الأقوياء الجدد؟”.

يمكن القول، إن هناك “مخاضاً نراه ولا شك في خطوط بيانية واضحة”؛ صعود لبعض الناس، تراجع أكيد لآخرين، لكن، بالنسبة إلى سلامة، ما هو البديل من النسق الغربي الذي فرضوه علينا؟ فكرة الدولة الحديثة فكرة غربية، فكرة الديموقراطية فكرة غربية، فكرة الأمم المتحدة فكرة أميركية، ما هو بديل هذه المؤسسات والأعراف والقوانين التي مصدرها في الأساس غربي، ما هو البديل؟ هل يكفي أن نقول أنا لا أسير في قضية المثليين بينما الغرب المتهالك يهتم بحقوق المثليين وأنا لا أقبل بذلك لأن ثقافتي مختلفة، هذا لا يكفي، هذا نوع من الممانعة، أو قل من الاستقلالية القيمية، لا يكفي لتصور أسس مختلفة للنظام الدولي القائم.

لا شك في أن الصين تحاول باعتبارها قوة صاعدة، أن تقدم نموذجها. هذا ليس شيئاً جديداً، “لكن ماذا تفعل بقرون من تعلق الناس بحرياتهم؟ ماذا يقولون للناس الذين يريدون المزيد من الحرية، وتعوّدوا على مستويات من الحرية؟ هل تقول لهم: خلص، انتهى، نحن نعود إلى عصور الديكتاتورية وحكم الفرد أو الحزب أو ما شابه؟ يمكن تبرير الدولة التنموية المتجبرة إنما إلى حين فقط. فنحن نعيش في زمن انتقال الأفكار والمعلومات وسبل العيش عبر وسائل التواصل الحديثة ويبدو لي أن هناك صعوبة في أن تتمكن الدول من إقفال مجتمعاتها في وجه الأفكار الواردة وصور الحياة عبر العالم، وبالتالي منعها من إبداء الرأي المختلف أو المطالبة بحق إبداء الرأي”.

 خرائط جديدة – قديمة

لا يقل تطور الصين عسكرياً عن صعودها الاقتصادي الجبار (تضاعف حجم اقتصادها سبع مرات بين 2001 و 2021)، فهي باتت تملك أكبر بحرية عسكرية في العالم (على الأقل بعدد السفن) وثالث قوة جوية، وهي، إن استمرت في بناء الرؤوس النووية بالوتيرة نفسها فستصبح موازية لاميركا ولروسيا في المجال النووي بعد عشر سنين أو خمس عشرة سنة من الآن.

يبقى السؤال الكبير وهو كيفية تموضع الجبار الصيني: هل سيكتفي بمنطقة نفوذ اقليمية في محيطه المباشر؟ هل سيدخل في حلف حقيقي مع روسيا؟ هل سيتمكن من منع اميركا (التي لا تملك حالياً حلفاً آسيوياً مماثلاً لحلف شمال الاطلسي/ الناتو) من تطويقه بالتحالف مع اليابان والهند وفيتنام؟ هل تنزلق مناوشاته الحدودية مع الهند إلى عداء مفتوح أو إلى حرب دامية؟ هذه أسئلة لا جواب راهناً عنها لكنها ستحدد بالضرورة جوهر النظام الدولي قيد النشوء.

لا شك في ان تموضع الهند، سيكون عاملاً محورياً في السنوات المقبلة، بالنظر إلى انها على وشك أن تصبح أكبر دول العالم من الناحية الديموغرافية، وقد تتمكن من أن تصبح ثالث اقتصاد عالمي خلال أربع أو خمس سنوات. الهند التي عرفنا على مدى عقود كانت تعتمد أساساً على موسكو في مجال السلاح وتتبنى سياسة عدم الانحياز في المجال الديبلوماسي. لكنها باتت تنوع في مصادرها للسلاح ولا يمكنها أن تبقي على حيادها السابق إن اشتدت المواجهة بين اميركا والصين أو إن تأسس تحالف متين بين الصين وروسيا. هذه عناصر ستدفع الهند للتقارب مع الغرب بهدف موازنة الصين.

هناك سعي لإعادة رسم خرائط ما قبل سيطرة الغرب، حسب سلامة. بالنسبة إلى بكين، تايوان انفصلت لمصلحة اليابان. لفترة كانت تايوان جزءاً من الامبراطورية اليابانية في القرن التاسع عشر عندما قوي ساعد اليابان ثم أصبحت في حماية أميركية بعد هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية. لا شك في أن هناك في الصين من يعتقد أن عملية انهاء الهيمنة الغربية على النظام الدولي يجب أن تبدأ بعد “استعادة” هونغ كونغ، باستعادة تايوان إلى أمها الصينية.

ما يحصل في أوكرانيا هو أن هناك جزءاً واسعاً من الرأي العام الروسي يعتقد أن ثمة دولاً لا وجود حقيقياً لها، نشأت فقط بسبب السيطرة الغربية على النظام الدولي.

تايوان وأوكرانيا

ما الجامع بين تايوان وأوكرانيا؟ يجيب سلامة: “المشترك بين الأمرين هو العودة إلى ما قبل الهيمنة الغربية. صحيح، هو استكمال وتسريع لعملية انحسار النفوذ الغربي عنهما. هذا هو المنطق الذي يقودهما. لكن مياه النهر لا تجري مرتين، والعودة إلى عالم ما قبل الهيمنة الغربية نوع من الهذيان. إن كنت معارضاً لهذه الهيمنة فعليك أن تواجهها بأفكار ووسائل اليوم تماماً كما فعلت القوى المناهضة للاستعمار باستعمال الأفكار التي أنتجتها أوروبا نفسها للقضاء على استعمارها”.

صحيح، لكن أميركا أيضاً تقوم بالكثير لتأكيد عدم قبولها بهذا التراجع، بل إنها أخذت من الحرب الأوكرانية والتصعيد مع تايوان مدخلاً لإعادة شد العلاقة العابرة لـ”حلف شمال الاطلسي”. هذا تطبيق عملي للنظرية السائدة خلال الحرب الباردة، التي تقول إن نفوذ دولة كبرى لا يتراجع إلا وهي تحاول أن توقف هذا التدهور بطريقة عسكرية. و”هذا ما كنت تعلمته في الجامعة وما علمته أيضاً. هذه كانت الفكرة السائدة، هذا ما كان يسمى بـ”الفكر الواقعي الجديد”، وكان له منظّروه وأتباعه في السبعينات والثمانينات. ثم فوجئ العالم بأن قوة عظمى كبيرة كالاتحاد السوفياتي تتقلص مساحتها بطريقة دراماتيكية ويتقلص نفوذها في العالم بطريقة دراماتيكية ولا تُقدِم على حرب عالمية”.

ليست حرباً باردة

ما يجري بين أميركا والصين، ليس حرباً باردة، ذلك أن الحرب الباردة كانت تتميز بأربعة أمور:

الأول، الردع والردع المتبادل المبني على النووي من دون ذكر هذا الأمر. هناك قواعد للاشتباك إلى حدٍّ ما بين الجبارين.

الثاني، لا أنا بحاجة إليك اقتصادياً ولا أنت بحاجة إليَّ اقتصادياً. كان مستوى التبادل التجاري بين روسيا وأميركا لا يزيد على 50 مليون دولار في السنة.

الثالث، أما وقد منعنا الحرب في ما بيننا، فيمكننا أن نستعمل كل حروب الهامش لكي نثبت قوتنا وعظمتنا ونفوذنا. حروب بالوكالة: من كوريا إلى فيتنام إلى الشرق الأوسط إلى موزامبيق إلى انغولا إلى كوبا إلى نيكاراغوا… في كل أنحاء العالم مع تجنب الاصطدام المباشر.

الرابع، نحن لا نريد إعادة صياغة الحدود. الحدود تبقى كما هي، ولكن يهمنا التوجه الايديولوجي للأنظمة داخل الحدود. لا فرق لدينا إن كانت بنغلاديش ستستقل أم لا، أو إن كانت فلسطين ستنشأ أم لا، أو أن الأكراد يريدون دولة أم لا، هذه الأمور لا تعنينا. نقبل بالوضع الراهن الاقليميstatus quo لكن توجه الدول إن كانت مصر مع أميركا أو مصر مع روسيا فهذا أمر نعمل عليه بعضنا ضدّ بعض لكن لا نتلاعب بالحدود. ألمانيا الشرقية هنا وألمانيا الغربية هناك.

لا بأس بتسجيل ملاحظة مهمة، هنا، على عكس كل القادة الأوروبيين مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك ونظيرته الايطالية جورجيا ميلوني، فإن الرئيس الاميركي جو بايدن  كبير بالعمر ووعيه السياسي نشأ خلال الحرب الباردة، مما جعله أقل تأثراً بأوهام مرحلة العولمة المسالمة.

كسر المحرمات

يجب عدم الاسترخاء على وسادة الأمان، لأن العلاقات بين الدول العظمى “قابلة لأن تتدهور بصورة مخيفة”. مثلاً، ماذا لو وسّعت روسيا هجومها وقصفت دولة عضواً في حلف شمال الاطلسي (ناتو)؟ ماذا لو اصطدمت طائرتان حربيتان، اميركية وصينية، خصوصاً أنه بدا أنهما اقتربتا مسافة ثلاثة أمتار الواحدة من الأخرى في ديسمبر / كانون الأول الماضي؟ ماذا لو هاجم “الحرس” الإيراني سفينة تتبع الأسطول السابع الأميركي قرب مضيق هرمز؟

هناك حال من ليّ الذراع الشديد بين اميركا وعدد من خصومها لا سيما روسيا والصين وإيران، لكنه لا يزال داخل “الخطوط الحمراء”. حرب بالواسطة في أوكرانيا، استفزازات جوية وبحرية في بحر الصين، عقوبات مالية واقتصادية، لكن ماذا يضمن عدم حصول خطأ غير مدروس، ماذا يضمن عدم إقدام هذه الدولة أو تلك على تجاوز “الخطوط الحمراء” لتجنب هزيمة محتملة؟ لذلك المخاض ليس فقط موجعاً لهذا أو ذاك بل هو أيضاً مصدر قلق للجميع.

عليه، فإن النقاط الأربع التي ميزت عالم “الحرب الباردة”، لم تعد موجودة.

 أولاً، لم يعد النووي من المحرّمات بين الدول الكبرى.

ثانياً، هناك تواصل اقتصادي ومالي كبير جداً لا سيما بين الصين وأميركا، وإلى حد ما بين روسيا وأميركا، اعتماد متبادل اقتصادي ومالي.

ثالثاً، هناك لعب في الحدود في كل مكان. لم يعد هناك حدود لا نلعب بها بل نلعب بالتوجهات بينما المنظار الايديولوجي ضعيف جداً، فلا روسيا تعتبر نفسها وجهة الشيوعية ولا الولايات المتحدة فعلاً تسعى إلى نشر الديموقراطية.

ورابعاً، الحروب بالوكالة لا نعود إليها فقط، بل نمارسها بأنفسنا.

 أميركا دخلت بنفسها إلى العراق، وليس كما حصل سابقاً في الحرب العراقية – الإيرانية عندما حركت العراق ضد إيران. روسيا لم تحرك بيلاروسيا في اتجاه أوكرانيا، بل هي دخلت إلى أوكرانيا. بالتالي لم تعد الحروب حروب الآخرين ونحن نساعدهم من الخارج أو نحن من عوامل التمكين. نحن أطراف مباشرون في هذه الحرب. عندما يستفيق الرئيس فلاديمير بوتين في كل صباح، يسأل نفسه ماذا حضّر لي الأميركيون خلال هذا الليل لإزعاجي في أوكرانيا، وليس ما اخترع الأوكرانيون، بل ما يحضّر لي الاميركيون خلال الليل ليخربوا الغزو الذي أقوم به. لم تعد حروباً بالوكالة.

ماكدولاندز ودبابة

من الأمور التي تغيرت في السنة الماضية، هو ذاك الانقلاب في موقف اليابان وألمانيا من العسكرة. يتذكر سلامة زميلاً ألمانياً اخترع تعبير “القوة الخفيفة” وأعطى نموذجي ألمانيا واليابان بالذات على أنهما قوتان مركزهما قوي جداً في الاقتصاد العالمي (من الخمس الأوائل)، على الرغم من هشاشة وضعهما العسكري. صاحب فكرة “القوة الخفيفة” اسمه هانس مول وكان يعتقد أن القوة العسكرية لم تعد ذات أهمية في موقع الدول في الترتيب العالمي بعد انتهاء الحرب الباردة.

بعد ست سنوات، بنى عليها جو ناي الأستاذ في هارفرد فكرة “القوة الناعمة”. من منطلق السؤال من يحتاج إلى العسكر بعد الآن؟ وفعلاً إذا راجعنا بالأرقام، الهبوط في الموازنة العسكرية فظيع في مختلف دول العالم. القوة الناعمة أصبحت صناعة. فإذا كنت ضعيفاً عسكرياً تواسي نفسك بأنك تتمتع بالقوة الناعمة.

“القوة الناعمة” ماتت في بغداد سنة 2003 عندما طلع “المحافظون الجدد” بفكرة جديدة ثم طوّرت في كتاب “خطة البنتاغون” المشهور، لكن بول وولفويتز (نائب وزير الدفاع الأميركي الأسبق) كان مقتنعاً بها ومفادها أنه لا يكفي أن تكون نموذجاً يعجب العالم.

نموذج جو ناي، القائم على أن الكل سعيد بهذا النموذج ويريد أن يتناول وجبات ماكدونالدز، ومعجب بالدستور الأميركي ويتابع أفلام هوليوود…. لا يكفي. هناك ناس تحتاج أن تستعمل العسكر لاقتلاعهم. وهذه فكرة “المحافظين الجدد”.

وقتذاك، ومع هذه الأفكار ماتت “القوة الناعمة”. مع الماكدونالدز تحتاج إلى دبابة. هناك ناس لا تنفع معهم “القوة الناعمة” من أمثال رئيس فنزويلا نيكولاس مادورو ورئيس العراق صدام حسين، بل تحتاج أن تقتلعهم. هنا سقطت نظرية “القوة الناعمة”.

على الصعيد الفكري، جو ناي نفسه راجع نظرية “القوة الناعمة” وتخلى عنها، وقال إن المطلوب هو “القوة الذكية”، وهذه ما بين “القوة القاسية” و “القوة الناعمة”، أي أنك بحاجة الى ماكدونالدز ودبابة.

لا شك في أن التغيير الذي حصل في برلين وطوكيو بعد حرب أوكرانيا هو درس عملي لحجم التغيير. الدولتان النموذجيتان أتاهما ما يجعل وضعهما يتغير. في اليابان بدأ الامر من نحو 20 سنة. الياباني يرى أن الكوري يستفزه، والروسي ليس مستعداً للتفاوض على الجزر اليابانية. والكوري الشمالي يطلق يوماً بعد يوم صواريخه البالستية فوق الجزر اليابانية، والصين تكبر ويتعاظم نفوذها. هناك عملية إعادة نظر في الاكتفاء بالحماية الأميركية على الرغم من أهمية هذه الحماية الموجودة على الأرض اليابانية، وهناك إعادة عسكرة يابانية تجري على قدم وساق للتعويض عن أوهام العقود الماضية.

ما اعتمل تدريجياً في رأس اليابانيين على فترة عقدين أو ثلاثة، حصل في ثلاثة أيام بين 24 و27 فبراير/شباط 2022 في ألمانيا. خلال ثلاثة أيام استفاق الألمان على عالم آخر واكتشفوا أن ليس لديهم جيش وليس لديهم سلاح وهم في حالة تبعية للسوق الصينية وللغاز الروسي وعليهم أن يغيّروا مسلكهم بطريقة جذرية.

يقول سلامة: “إذا أخذنا ألمانيا نموذجاً، في أوروبا مسألتان تحدثان بعد حرب أوكرانيا: العودة إلى القوة القاسية أو القوة الذكية، وهناك في الوقت ذاته رغبة بالتخلي عن الاعتماد على الغاز والنفط الروسيين.

المسألة الثالثة أن هناك في أوروبا صعوداً واضحاً لليمين. هناك ما يحدث في أوروبا، ما بين الأزمة الاقتصادية ومشكلة الغاز والشتاء وصعود اليمين والإنفاق العسكري الزائد. نشعر أن أوروبا أيضاً قد تكون تسير في اتجاه شيء جديد”.

السابق
إرجاء جلسة مكتب مجلس النواب.. هذا ما اعلنه بوصعب
التالي
قرار من الـMEA للمسافرين إلى السعودية.. ماذا جاء فيه؟