رفيق الحريري.. شهيد الإيمان بـ«نهائية» الكيان ومشروع الدولة!

رفيق الحريري

في هذه الأيام الكئيبة، حيث تعيش المنطقة مأساة الزلزال الكبير الذي ضرب كلاً من تركيا وسوريا، ووصلت تردداته إلى عدد من الدول خاصة لبنان، تحل على اللبنانيين الذكرى ال 18 ل “زلزال” 14 شباط 2005، الذي أودى بحياة الرئيس الشهيد رفيق الحريري، والذي لا زلنا نعيش تردداته وتبعاته حتى اليوم. 

غني عن القول أننا بإشارتنا ومقارنتنا هذه، لسنا في وارد التقليل أو الإستهانة بمأساة تركيا وسوريا – لا سمح الله – ولا بمعاناة مئات الآلاف من البشر المنكوبين، الذي باتوا في ظرف 45 ثانية، هي الوقت الذي إستغرقه الزلزال، إما قتلى وإما جرحى أو مشردين بلا مأوى، فيما أبيدت عائلات بكاملها عن وجه الأرض، فالوجع واحد والمصاب جلل، ولا يسعنا القول سوى لا حول ولا قوة إلا بالله، أمام ” غضب ” الطبيعة وتحولاتها وأسرارها. 

نقارن لنقول أنه إذا كان زلزال تركيا وسوريا من فعل الطبيعة وليس لأحد من البشر من يدٍ فيه مباشرة فإن زلزال 14 شباط كان بفعل فاعل شرير،

لكننا نقارن لنقول أنه إذا كان زلزال تركيا وسوريا من فعل الطبيعة، وليس لأحد من البشر من يدٍ فيه مباشرة، فإن زلزال 14 شباط كان بفعل فاعل شرير، إرتكب ما إرتكب عن سابق تصور وتصميم، ومع سبق الإصرار والترصد، كما يقال بلغة القانون، بهدف هدم أساسات وطن أسمه لبنان، الذي لم يزل حتى اليوم وبعد 18 عاما “تحت الأنقاض”، رغم كل محاولات الإنقاذ والإغاثة، التي كلفت المزيد من الدماء والدموع والخسائر، من الإغتيالات والتفجيرات إلى الحروب الداخلية والخارجية، إلى الوضع المأساوي الذي يعيشه اللبنانيون اليوم، وهم رهائن بأيدي عصابة من “مصاصي الدماء” ، لا تقيم وزناً ولا تحفظ حرمة لوطن أو شعب أو مؤسسات.  منذ اليوم الأول لجريمة إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه، كان واضحاً بأن الهدف لم يكن رفيق الحريري كشخص  رغم أهميته وثقله اللبناني والعربي والدولي، وإلا لكانت الأمور أخذت مداها وإنتهت بقتله، إنما المقصود – وهذا ما أكدته التطورات – كان ولا يزال هو رفيق الحريري – المشروع بما ومن يمثِّل، الذي كان على ما يبدو يقض مضاجع الكثيرين من المتربصين بلبنان الوطن والكيان، هذا الكيان الذي كان محط خلافات وصراعات وحروب، منذ إعلان إنشائه في الأول من أيلول عام 1920 بإسم دولة لبنان الكبير، على يد المفوض السامي الفرنسي الجنرال غورو، بعد إنتصار القوات الفرنسية يوم 24 تموز في معركة ميسلون، على جيش الحكومة العربية بقيادة الملك فيصل بن الحسين، التي كانت تتخذ من دمشق مقراً لها، وبعد أن كان سبق ذلك كله، منح فرنسا حق الإنتداب على سوريا ولبنان، وذلك في مؤتمر سان ريمو في نيسان من العام نفسه 1920، تنفيذاً لإتفاقية سايكس – بيكو المعقودة عام 1916 بين كل من فرنسا وبريطانيا.  يقول نواف سلام في كتابه “لبنان بين الأمس والغد” ، أنه ” في حين وجدت غالبية الموارنة في إعلان دولة لبنان الكبير تحقيقاً لمشروعها “القومي”، عاش المسلمون في غالبيتهم الحدث نفسه بمرارة بالغة، ليس بسبب إبادة مملكة فيصل العربية فحسب، بل لأنهم وجدوا أنفسهم وقد فُصلوا عن إخوانهم في الدين، وضُموا قسراً إلى دولة حاربوا فكرة قيامها، دولة أصبحوا داخلها في موقع الأقلية، إضافة إلى كونها دولة وُضعت تحت إنتداب السلطة، التي قضت على المملكة العربية، وهكذا بقيت فئة كبيرة من سكان لبنان على تحديها لشرعية هذا الكيان الجديد، وراحوا يعبِّرون عن معارضتهم للإنضمام إلى لبنان الكبير، عبر سلسلة مواقف، مثل رفض تسلم بطاقة الهوية الجديدة التي تُعرِّف عنهم بأنهم “لبنانيون”، وصولاً إلى حد إعلان المقاطعة لإحصاء عام 1921 ولمشاورات عام 1926 من أجل وضع دستور للبلاد”. 

منذ اليوم الأول لجريمة إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه كان واضحاً بأن الهدف لم يكن رفيق الحريري كشخص رغم أهميته وثقله اللبناني والعربي والدولي وإلا لكانت الأمور أخذت مداها وإنتهت بقتله

هكذا كان يبدو الوضع إذن، يوم إعلان لبنان الكبير وكأنه إنتصار للمسيحيين على المسلمين، خاصة مع الإمتيازات التي أعطيت لهم – للموارنة خصوصاً – بذريعة” الدور المميز للموارنة في تكوين لبنان ” تارة، وأخرى بذريعة أن الموارنة هم الأكثر عدداً بحسب إحصاء 1932 على قاعدة “النسبية العددية الطائفية”، لكن الوضع بدأ يتغير وبدأت نظرة المسلمين للكيان الجديد تتغير، وذلك مع ترسخ الكيانات الأخرى في المشرق العربي، التي كانت قد رُسِّمت حدودها بحسب إتفاقية سايكس – بيكو، وكذلك بسبب غياب أو ضعف الحركات الوحدوية العربية، التي تسعى وراء نفس الهدف، ما جعل هدف إستقلال لبنان وتحرره من الإنتداب، يتقدم لدى المسلمين لأول مرة على الوحدة العربية الشاملة، أو حتى الوحدة مع سوريا، ما جعل التفاهم مع المسيحيين حول مستقبل لبنان ممكناً، خاصة مع توسع النفوذ البريطاني على حساب النفوذ الفرنسي في المنطقة، وكانت لحظة التقاطع ما بين المصلحة البريطانية واللبنانية، فكان التفاهم عبر الميثاق الوطني الذي عقده الرئيسان بشارة الخوري ورياض الصلح، والذي يتخلى بموجبه المسيحيون عن الحماية الفرنسية، والمسلمون عن مطلب الوحدة مع سوريا كما هو معروف، إتفق اللبنانيون وتحلقوا حول الميثاق الوطني، فكان الإستقلال الأول، وبهذا يكون رياض الصلح الزعيم السني الأول، الذي صالَحَ المسلمين مع فكرة الكيان المستقل، ومن ثم أدخلهم دولة لبنان الكبير مع غيره طبعاً من زعماء الطوائف الأخرى الأصغر عدداً.  الإتفاق على الميثاق الوطني، رافقه تثبيت صيغة للحكم مبنية على “نظام طائفي” يكرِّس الإمتيازات الممنوحة للمسيحيين، التي أعطاهم إياها الإنتداب الفرنسي كما سبق وذكرنا، هذه الصيغة للحكم كانت بمثابة قنبلة موقوتة مربوطة، إلى الميثاق الوطني وتهدد بإنفجاره في أي لحظة، مع إحساس المسلمين بأنهم “مواطنون درجة ثانية”، خاصة مع التغير الديموغرافي والعددي في الخمسينات، الذي كان البعض من الموارنة يتخذون منه سبباً، لتميزهم عندما كانوا يمثلون الأكثرية العددية، فأستبدلوه في الخمسينات ب “الضمانات الضرورية للأقليات”، خاصة مع بروز قضية فلسطين والتغيرات في المنطقة مع طوفان الناصرية، ما جدَّد الحنين لدى البعض من المسلمين – وليس كلهم للأمانة – للوحدة العربية، فيما إتخذ البعض الآخر من التطورات في المنطقة وسيلة ضغط لإعادة التوازن إلى السلطة، الأمر الذي تجاهلته ولم تتجاوب معه، وتتداركه النخبة المارونية الحاكمة، ما أدى إلى تراكم الخلافات، ليدخل لبنان بعدها نفق الصراعات الإقليمية، خاصة بعد العام 1965 تاريخ إنطلاق الثورة الفلسطينية، بما خلقته من حماس ثوري وقومي في صفوف المسلمين، ترافق ذلك مع أزمة بنك أنترا عام 1966، التي كانت إيذاناً مبكراً وجرس إنذار، بأن عصر الإزدهار اللبناني الذي بدأ في الخمسينيات قد بدأ يتراجع.

فكان النظام في لبنان أضعف من أن يتحمل كل هذه المتغيرات فوقع المحظور على شكل حرب أهلية لبنانية عام 1975 ما لبثت أن تحولت إلى حرب أهلية عربية تداخلت وتشابكت فيها كل المصالح الإقليمية والدولية

كذلك نمو الحركات الطلابية والعمالية، التي كانت تعبِّر عن فشل النظام السياسي والإقتصادي، الناتج عن الجمود والفشل في إستيعاب القوى السياسية والإجتماعية الجديدة التي ظهرت، فبان العطب في النظام بشكل جلي، خاصة مع التطورات المثيرة في المنطقة بعد هزيمة 1967، وبعدها وفاة جمال عبد الناصر والحركة التصحيحية في سوريا وبروز منظمة التحرير الفلسطينية كقوة فاعلة على الساحتين اللبنانية والعربية، فكان النظام في لبنان أضعف من أن يتحمل كل هذه المتغيرات، فوقع المحظور على شكل حرب أهلية لبنانية عام 1975، ما لبثت أن تحولت إلى حرب أهلية عربية، تداخلت وتشابكت فيها كل المصالح الإقليمية والدولية، فإنقسم اللبنانيون وعادوا إلى نقطة الصفر، ما بين مطالب بالتقسيم مستعد للتعامل مع شياطين المنطقة والأرض لحماية “مجتمعه”، وبين مطالب بوحدة المصير والمسار، تارة مع الفلسطينيين وأخرى مع سوريا. 

في لحظة تقاطع مصالح عربية ودولية، عُقِد مؤتمر الطائف للحوار اللبناني في المملكة العربية السعودية، إنبثق عنه ما بات يُعرف بوثيقة الوفاق الوطني أو إتفاق الطائف، الذي لحظ بعض الإصلاحات في هيكلية النظام، وهي خليط من أفكار كانت قد طُرحت إبان الحرب الأهلية، كان الإتفاق ضرورة لوقف الحرب، التي بدأت تتحول إلى دمار شامل، مع تمددها إلى داخل كل طائفة خاصة المسيحية منها، لكن ككل إتفاق لبناني كان يحمل في جنباته عوامل تفجيره، في إتفاق الطائف كانت المعضلة هي وجود القوات الأجنبية الإسرائيلية والسورية على أرض لبنان، ما يجعل من تطبيق الإتفاق أمراً ليس بالسهل، ومرتبطاً إرتباطاً وثيقاً بالتطورات في المنطقة وما أكثرها، خاصة وأن هناك طرفاً يمثل إمتداداً لقوة أجنبية ثالثة، بقي على سلاحه بإسم مقاومة الإحتلال.

في العام 1996 دخل الحريري المعترك السياسي مباشرة عبر الترشح للإنتخابات النيابية عن مدينة بيروت على رأس كتلة فازت بأكثرية المقاعد، ما كرَّسه زعيماً سياسياً سنياً

 مع بداية تطبيق الإتفاق، كانت المنطقة تمر بمرحلة إنتقالية، بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي وحرب تحرير الكويت  وإنطلاق عملية السلام في مدريد بين العرب وإسرائيل، ما سمح للبنان بفسحة أمل وهدوء لمباشرة العمل، في هذه الأثناء ظهر رفيق الحريري، حاملاً مشروعه لإعادة الإعمار، وسط دعم عربي ودولي كبيرين، وبدا وكأن هناك إتفاقاً غير معلن، بأن تُلَزَّم السياسة والأمن لسوريا ورجالها في لبنان، بذريعة وحدة المصير والمسار على خط مفاوضات السلام، وأن يكون الإقتصاد من حصة السعودية، كشريك عربي في الإتفاق عبر شخصية رفيق الحريري لم تكن الأمور سهلة في ظل تباين شخصية رفيق الحريري القادم من عالم المال والأعمال، مع شخصيات متعددة لأطراف قادمة من عالم الحرب والميليشيات، تحظى بدعم ورعاية نظام الوصاية السوري على لبنان، في العام 1996 دخل الحريري المعترك السياسي مباشرة عبر الترشح للإنتخابات النيابية عن مدينة بيروت، على رأس كتلة فازت بأكثرية المقاعد، ما كرَّسه زعيماً سياسياً سنياً، فضلاً عن كونه شخصية إقتصادية تعنى بالسياسة الإقتصادية والمالية، وهو ما أثار على ما يبدو حساسية بعض الدوائر في النظام السوري، التي رأت في رفيق الحريري مشروع زعيم سني لبناني وعربي مستقبلي قوي، وهو ما لا يتلاءم مع مشروعها السياسي في كل من سوريا ولبنان، خاصة مع تعثر عملية السلام بالمنطقة، التي ذهبت بإتجاه الإتفاقيات المنفردة مع الفلسطينيين والأردن، ولموازنة قوة رفيق الحريري السياسية التي بدأت تكبر، ذهب النظام السوري إلى خيار إميل لحود رئيساً للجمهورية عام 1998، مع علمه المسبق بأن لا كيمياء شخصية بين رفيق الحريري وبينه، ما كان يوحي بالذهاب إلى صراع سياسي ما لبث أن وقع مع بداية عهد لحود.

إنكفأ الحريري وبدأ العهد الجديد بمحاربته عبر زج بعض الموالين له في الإدارة في السجن بتهم الفساد والهدر كانت جُلَها تهم كيدية

إنكفأ الحريري وبدأ العهد الجديد بمحاربته عبر زج بعض الموالين له في الإدارة في السجن، بتهم الفساد والهدر، كانت جُلَها تهم كيدية، هذه الممارسات ضد رفيق الحريري، أعطت نتائج عكسية، تمثلت بإكتساحه نتائج الإنتخابات النيابية عام 2000، ليصبح بذلك الرقم الصعب الذي يحمل ويعمل لتكريس فكرة “نهائية الكيان اللبناني ومشروع الدولة”، بالنسبة للبنانيين عموماً وللمسلمين السُنة خصوصاً، ليكون بذلك الزعيم السني، الذي كرَّس مفهوم الكيان بشكل نهائي في وجدان المسلمين السُنَّة – وهو ما ظهر جلياً بعد إستشهاده – بعد أن كان رياض الصلح، قد صالحهم معه بداية الإستقلال، وهو ما جرَّ عليه عداوة وحقد، الذين لا يرون في لبنان ولا يريدونه سوى ورقة في أيديهم، ليقامروا بها على طاولة المصالح الإقليمية خدمة لمصالح أطراف خارجية، لا تريد الخير للبنان وشعبه. وهذا الأمر، ما تُرجِم بزلزال 14 شباط 2005، بكمية حقد قاربت الألفين كيلوغرام من المتفجرات، كانت كافية لخلخلة أسس الدولة والكيان، منذ ذلك اليوم وحتى إشعار آخر ، عبر إغتيال رجل ظنوا أن بغيابه يستطيعون إعادة الناس إلى بيت الطاعة، والإنقلاب على المبادئ والقيم التي زرعها رفيق الحريري، في قلب وعقل كل لبناني حر شريف، بات يؤمن بلبنان وطن نهائي لكل اللبنانيين، وبمشروع الدولة المدنية الحديثة والحضارية، بعيداً عن العسكرة والتعصب والتخلف والجهل، دولة قائمة على التسامح ومواكبة العصر والعلم، لا دولة الشعارات الفارغة والأوهام المريضة والصوت العالي، كما نعيشها اليوم  دولة باتت في مصاف الدول الفاشلة على كل المستويات، دولة حولوها إلى أنقاض، بفضل غرورهم وتعنتهم وفسادهم الفكري قبل المادي. في الذكرى ال 18 لغيابه، يبدو رفيق الحريري حاضراً بقوة، في طموح كل شاب وفتاة من لبنان يسعيان لغدٍ أفضل، بينما هم غائبون عن أحلام وآمال الشباب، أموات في عيون غالبية اللبنانيين الذين سرقوا منهم الفرح والمستقبل، وإذا كان من نصيحة نسديها لهم، علَّها توقظهم من غرورهم وصلفهم، فلن نجد أفضل من قول الشهيد، “ما حدا أكبر من بلدو”، فهل يرعوون ويعقلون قبل فوات الأوان؟       

السابق
ندوة لـ«أقوى فاوندايشن» ومنصة «جسور»: لضرورة وقف الهجرة غير الشرعية
التالي
الدولار يواصل تحليقه.. ويتخطى عتبة الـ 68 الفا!