لقمان سليم ضحية ذاكرة مثابِرة

لقمان سليم

يتساءل المرء في دواخله: كيف وصلنا إلى هذا الحضيض؟ كيف يتجرّأ رجال النظام اللبناني على قتلنا وسرقتنا وإفقارنا وطردنا من بيوتنا وبلدنا؟ كيف يسْتبسلون في تحويل لبنان إلى مقبرة جماعية وخراب عمراني… من دون أي حرج؟ من دون أي رادع؟ من دون أية محاسبة؟

ويتابع: من أين أصل البلاء؟ من لبنان الكبير؟ من الرأسمالية؟ من الإمبريالية والاستعمار والصهيونية؟ من مجازر جبل لبنان الطائفية؟ من الإمبراطورية العثمانية؟ من الفتوحات الإسلامية؟ من الفينيقيين؟ وهكذا.. يتوغّل في التاريخ، للإمساك بالمسؤول عن مصائبه. يذهب بعيداً جداً، إمعاناً في الشرح والتفسير، فيلتقط “الجذر”: قايين وأخاه هابيل. وجريمة قتل الثاني للأول. كأول جريمة في التاريخ تبعاً للكتب المقدسة والمكرَّسة. أصل الشرّ البشري. وينسى في معرض حماسته للشرح والتفسير، أن ضمير هابيل وبّخه، فعاقبه، وقضى بذلك على أمله بأن يصطفيه الله بدل أخيه هابيل.

اقرأ أيضاً: خواطر في لقمان.. هل يَحْتاج اللبنانيون إلى ميتاتٍ كَثيرَةٍ لِيَنْتَبِهوا؟

مهما يكُن، وبما أننا بشر، مخلوقات فانية، ليس في وسعنا أن نرسم التاريخ المتسلسل للشرّ الصرف. ولا في وسعنا محاسبة أوائل القَتلة، وإنزال العقوبة عليهم. فقط بعض المجازر القريبة تاريخياً أخذت حقها من الإدانة. مثل المجازر بحق اليهود أو الأرمن. وأُنزلت بمرتكبيها عقوبات تعويضية، منها المالي ومنها المعنوي. ولكنها كانت كشوفات منتصرين، أقوياء. ومن ناحية أخرى، نحن نملك محطة مستوفية الشروط، إذا ابتغينا تاريخاً محدّداً نبدأ به في الإجابة عن تساؤلاتنا: تاريخ نهاية الحرب الأهلية، أي منذ ثلاثين عاما تقريبا.

لماذا هذا التاريخ بالذات؟ لأن هذه النهاية توَّجت زعماء المليشيات الطائفية المنتصرة في هذه الحرب حكاماً علينا، حتى الآن. أي المليشيات الشيعية والدرزية. استلحقتها بعد ذلك بخمس عشرة سنة المليشيات المارونية. وبدل المليشيات السنية، الضعيفة في أثناء الحرب، والمندثرة تماماً في نهايتها، كانت زعامة “جديدة”، وجدت ضالّتها في تقسيم العمل بينها وبين بقية الزعامات المليشياوية، من أكثرها ضراوة، إلى أقلها.

في نهاية الحرب الأهلية. ماذا فعلنا نحن “مواطني” هذه الدولة المثخنة بالجِراح العميقة؟ أردنا أن ننسى. أردنا العودة إلى الحياة بأي ثمن. كأن شيئا لم يكُن. أردنا أن “نتكيّف”، مفتخرين بأننا “شعب – فَيْنيق”، ينبعث دوماً وأبداً من رِماده. ورحنا نسهر، نسعد بالحياة، ونتلقف أية لذة من ملذاتها. بشراهة، بنوع من الجوع القديم، بالعجلة، من دون ضياع أية دقيقة، طلاب الحياة على مصراعيها. كأن العمر يداهمنا، فنغضّ الطرف عن كل الإرث الثقيل للحرب. وما كانت تضيف شيئاً تلك الاستذكارات الموسمية، المؤقتة، المتقطعة، التي كانت تدفع هذه المجموعة أو تلك للمشاركة في وقْفة، أو بيان، أو فعالية، من أجل قوانين أحوال شخصية أو دستور أو قانون أو طائف.. نوع من رفع العتَب بأننا قمنا بما علينا. وبأننا لن نذهب أبعد من ذلك، تجنباً لـ”الفتنة”. وهي الرديف التهويلي للحرب الأهلية.

كانت “لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين” في تلك الحرب تمرّ أمامنا، ولا ننتبه إليها إلا عندما تقضي نحبها واحدة من عضواته، بعد بقية عمر قضته بحثاً عن ابنها المخطوف في أثناء الحرب. لا يهزّ “سكينتنا” العدد المهول للمخطوفين والمفقودين الذين كانت تطالب هذه اللجنة بالكشف عن مصيرهم: 17 ألفا. 17 الف مواطن، لا نعرف عنهم شيئا، وقد انتهت الحرب منذ ثلاثين عاماً.

اغتيال لقمان سليم كان مثل ضربة وعي على رؤوسنا. ماذا فعل الرجل لـ”يستحق” القتل، بحسب تعبير قائد الذباب الإكتروني الممانع؟ لأنه فضحَ حزب الله في قضية انفجار المرفأ، وحسب؟ هل لأن هذا الفضح كان موثقا؟ وهل كانت بقية المنظومة ستسكت عن قتله لو كان الدافع الواحد إليها، هو “مجرّد” إسكات للأصوات الرصينة التي تتَّهم حزب الله بالمسؤولية عن إنفجار المرفأ؟

لقمان سليم كان أخطر من ذلك عليهم. قبل انفجار المرفأ، كان ينْبش في ذاكرة الحرب الأهلية. كان يمشي منذ سنوات بعكس التيار: إنه يريد التنقيب عن ذاكرة هذه الحرب، بالبحث عن تفاصيل الجرائم التي ارتكبتها المليشيات في أثنائها، وقد باتت حاكمة. وهذا البحث كان سيفضي حتماً إلى إثبات تورّط “المسؤولين الرسميين” في جرائمها. بين مرتكبيها وبين بالِعِين موسَها.

المؤسّسة التي أنشأها لقمان سليم، “أمم للأبحاث والتوثيق”، كانت هذه غايتها. وتفرّع عنها ما سمّاه “ديوان الذاكرة”. وراحَ يبحث عن “من قتل من؟”. كان يجمع كل ما كُتب وصُوِّر وسُجِل من وقائع الحرب الأهلية. بيانات، مقالات، كتيّبات، معطيات: الإخفاء القسري، الخطف، التعذيب، السجن، المقابر الجماعية، الإعدامات، التهجير. يجمع العناوين، يفرزها، يحفظها، يحميها من الغُبار والرطوبة، يمَكْنِن بعضها، ويصوِّر بعضها الآخر. وصف أحدهم نتاجها بـ”الخزانة المواطنية”، تكون مفتوحةً أمام الإستعمال العام. وهي خزانة رُتِّبت بضمير التأني والدقة، لا يقارَن إلا بما كتَبه هو، لقمان سليم، أو ما نشره في داره، “الجديد”، الزاخرة بالأعمال اللامعة.

كان يقول: “لا يحق لأحد أن يصادر الماضي، فهو الذي يصنع الحاضر. ولأننا مواطنون، ولنا حق التدخل في الحاضر، فلنا أيضاً حق التنْقيب في الماضي ومحاولة فهم ما جرى. وفي النهاية، لن تكون هناك رواية واحدة، وأي محاولة لفرض رواية واحدة هي مشروع توتاليتاري”. وفي العام 2008، أطلق لقمان سليم موقع “ديوان الذاكرة اللبنانية”، حيث يؤرْشف لقضية المخطوفين والمفقودين خلال الحرب الأهلية. على موقعه الإلكتروني، يلخص مشروعه بالقول: “ندّعي أن “ديوان الذاكرة اللبنانية” دليل إلى “السلم” و”الحرب” لا إلى واحد منهما دون الآخر”.

لقمان سليم مثقف عضوي بامتياز. رغم سخريته المرّة من التعبيرات الماركسية، هو الشيوعي القديم، كان يأخذ من الجدلية أداة فلسفية يصيغ بها تناقضات العالم. ويتوسَّل الواقع الحي، الناس، قصصها، مأساتها، مساراتها. يتفاعل وجدانه وعقله معها، ويخلص إلى النتيجة: لا تنسوا يا جماعة اننا خارجون من الحرب. وأن الذين خاضوها، هم سادتنا الآن. وأن علينا أن تنذكّر ذلك، دائماً، بالوثائق، لا بالتفجّع. وهو الذي خاضَ معركة حياته ضد الإفلات من عقاب جرائم الحرب، وقع شهيداً برصاص الفالتين منه.

سُكِت عن اغتياله، كما جُمِّدت كل إجراءات التحقيق بشأنه، لأن مشروعه كان يهدّد المنظومة بأسرها، من الصميم. المنظومة المحلية، اللبنانية، السورية والفلسطينية، فلقمان مثقف مشرقي، لا لبناني فقط.

لقمان سليم تركَ لنا ميراثاً نعتزّ به: ميراث الذاكرة الحيّة. النسيان مثل الفراغ، مثل العبودية. يجرّ الناس إلى تهْلكاتٍ لا تفهمها، لا تملك الحجة، ولا الكلمة، لا تستطيع إزاءها شيئاً. طالما أن جذرها ضائعٌ في متاهات التواريخ الملفَّقة أو المُهمَلة. ومن صادرَ ذاكرة الناس كمن حرَمها من كل أشكال المقاومة، والأنَفة.

نسيان جرائم الحرب الأهلية هو الذي يسمح لهؤلاء الممْسكين بخوانيقنا بأن يستمرّوا بقتلنا حتى هذه اللحظة، بحرية تامة، ومن دون أية محاسبة، من دون أي عقاب.

السابق
احتدام «حرب الكمائن» الرئاسية..والاحتقان الشعبي يشتدّ!
التالي
«حارس صدام» قدّم معلومات كشفت مكان اختبائه في تكريت!