وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: النظام الإيراني وبراعة صنع الأعداء

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

ثمة غرابة وتخبط ملفتان في سياسة النظام الإيراني على الساحة الدولية والإقليمية، لا على المستوى اليومي والإجرائي، وإنما على المستوى الاستراتيجي والبعيد المدى. هي سياسة لا يستخلص منها سوى أن إيران تتقن صناعة الأعداء وتوسيع رقعتهم، وتأخذها سياستها وقراراتها من فشل إلى آخر، وتتسبب لها بعزلة دولية خانقة، لن يخفف من شدّتها الدعاية الإعلامية المركزة التي تعتمدها لإظهار إيران على أضخم من واقعها الفعلي وإمكاناتها الحقيقية، ولن يشفعه التصلب الأيديولوجي الذي يتسبب بثقة نرجسية زائفة، ووعي ملتبس حول حقيقة الأمور ومنطق الأحداث.

النظام الإيراني، فقد سارع إلى التورط المباشر بهذه الحرب وصيرورته طرفاً فاعلاً فيها، عبر تزويد روسيا بعدد هائل من الطائرات المسيرة

لعل أهم نموذج لذلك، هو التورط الإيراني في الحرب الأوكرانية. ففي الوقت الذي آثر حلفاء روسيا، بالأخص الصين، الوقوف على مسافة من هذه الحرب، كي لا يتحملوا تبعات قرار أخرق ومجنون اتخذه بوتين، لجهة أنه يتسبب بأذى كبير لاقتصادها، ولجهة أن الأفق السياسي لهذا الإحتلال مسدود وستكون تبعاته مدمرة لروسيا نفسها. أما النظام الإيراني، فقد سارع إلى التورط المباشر بهذه الحرب وصيرورته طرفاً فاعلاً فيها، عبر تزويد روسيا بعدد هائل من الطائرات المسيرة.

هي خطوة يمكن أن تكون قد استفزت الولايات المتحدة، ولكنها لم تتضرر منها، لأن هكذا طائرات تتميز بمستوى تقني متدن، بل بدائي، بالقياس إلى الصناعة الأمريكية أو الأوروبية لهكذا نوع من مسيرات، ولم تغير من مسار الحرب شيئاً بحكم بدائية هذه المسيرات بالقياس إلى التقنية الفائقة للأسلحة التي تزود بها أوكرانيا. بل هي خطوة أعطت الأمريكيين، ذرائع مجانية لممارسة مزيد من العقوبات والحصار على النظام الإيراني.

قد يشبع هذا التورط زهو قادتها، وينسجم مع ذهنية الحرب الكونية التي يعتقد قادتها أنهم يخوضونها ضد “الشيطان الأكبر”

هو انحياز مجاني لا عوائد إيجابية فيه لإيران، وتورط غير محسوب ستكون تبعاته المستقبلية مكلفة جدا لإيران على الصعد السياسية والاقتصادية. قد يشبع هذا التورط زهو قادتها، وينسجم مع ذهنية الحرب الكونية التي يعتقد قادتها أنهم يخوضونها ضد “الشيطان الأكبر”، وقد يلبي رغبتها المتعجلة والمتهورة، في إظهار نفسها لاعباً دولياً فاعلاً في منطقة نزاع لا علاقة لها به، أو تعويم نفسها منتجاً ومصدراً عالمياً للسلاح، أو الإيحاء بأنها باتت في مصاف الدول المتقدمة. لكنها جميعاً ادعاءات بعيدة عن الواقع الإيراني الفعلي، وتتسم بالخفة والتزييف الإعلامي، تستثير التندر لدى الدول الصناعية المتقدمة، بالأخص فيما يتعلق بصناعاتها العسكرية.

هذا لا يعني أن إيران كشعب وموارد فاقدة مقومات التطور العلمي والتقدم الصناعي، إنما للقول أن التطور والتنافس التقني والصناعي، عملية بطيئة وهادئة وصامتة، يتحقق وفق استرتيجية تنموية مدروسة وعلمية، وتكوين سياسي مختلف عن نظام ولاية الفقيه، ليكون بالإمكان إظهار أفضل ما عند الشعب الإيراني من طاقات وإمكانات، لا أن يحدث النظام داخل شعبه انقسامات واصطفافات، ويمارس تصنيفات إقصائية بين ولائي وغير ولائي، وتخويناً وقمعاً وحشياً لحسم أي جدل داخلي.

هي جميعها مقومات، تسهم في تأسيس بنية إنتاجية وقدرة إبداعية، تمكن إيران من التنافس الصناعي والنهوض الإقتصادي، الذي يخفف من نسبة اعتمادها على النفط ومشتقاته الكيماوية، التي ما تزال بحدود الثمانين بالمئة. لكنها، وفق المعطيات والمؤشرات المتوفرة، ما تزال بعيدة كل البعد عن التحقق.

بعد التعامل الأوروبي البارد مع التظاهرات داخل إيران، باتت دول الإتحاد الأوروبي الأكثر دعماً وتأييدا للحراك الداخلي

أما العوائد السلبية لهذا التورط، فهو أنه أثار حفيظة الاتحاد الأوروبي، الذي رأى في احتلال روسيا لأوكرانيا تهديداً لأمن أوروبا كلها، وبمثابة كسر توازنات دولية دقيقة وتصدع لاستقرار أوروبي قائم. الأمر الذي تسبب بتغير في اللهجة والسياسة الأوروبية تجاه إيران. فبعدما كانت تختلف عن تشدد الولايات المتحدة تجاه ملفها النووي، سارع الإتحاد الأوروبي إلى نعي أي اتفاق نووي معها. وبعد أن تحفظ الاتحاد الأوروبي على العقوبات الأمريكية على إيران، باتت أوروبا تستعجل وضع عقوبات قاسية وعمدت إلى إدراج عدد كبير من شخصيات النظام ومؤسساته وفي مقدمها الحرس الثوري في خانة الإرهاب. وبعد التعامل الأوروبي البارد مع التظاهرات داخل إيران، باتت دول الإتحاد الأوروبي الأكثر دعماً وتأييدا للحراك الداخلي، والأكثر تجريماً لتعامل السلطة الإيرانية مع المحتجين الإيرانيين.

لم يربح النظام الإيراني تورطه مع روسيا ضد الشعب الأوكراني شيئاً، لكنه خسر الكثير بالمجان

أما الضرر الأخلاقي في انحياز النظام الإيراني إلى الاحتلال الروسي لأوكرانيا، فأقله أنه نسف كل ادعاءات الثورة التي قام عليها النظام، وأعلن نفسه ثورة مستضعفي العالم، ونقض السبب الذي من أجله أعلن الخميني عداوته للولايات المتحدة بأنها تدخلت في شؤون بلاده ودعمت الشاه، ومخالف لمبدأ المقاومة الذي روج له النظام الإيراني، ودعم وموَّل على أساسه المقاومة لمحاربة الإحتلال الإسرائيلي في لبنان وفلسطين. فالإحتلال حقيقة واحدة، والموقف الأخلاقي منه واحد أيضاً، لا يمكن أن يكون انتقائياً أو استنسابياً أو ظرفياً أو كيدياً أو انتقامياً.

لم يربح النظام الإيراني تورطه مع روسيا ضد الشعب الأوكراني شيئاً، لكنه خسر الكثير بالمجان. هو دليل إضافي على أن النظام الإيراني بات، بعد أربعة وأربعين عاماً من نجاح الثورة، على حكم الشاه، نموذج فشل متراكم الطبقات ومتعدد الابعاد.

السابق
بعدسة «جنوبية»: عشية ذكرى اغتياله.. سكون يخيّم على ضريح لقمان وصوت الحقيقة يصدح
التالي
قفزة كبير بتسعيرة منصة «صيرفة».. وتتخطى الـ٤٠ الفاً