حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: ليس اعتصاماً

حارث سليمان
يخص الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

ينبري كثيرون الى الادلاء بآراء واقتراحات، تعتبر ان المادة ٤٩ من الدستور اللبناني غير واضحة وغامضة، وتحمل في طياتها التباسا يسمح بتعطيل جلسات انتخاب رئيس الجمهورية، وهي دعوات يختلط فيها الخبث بالارتجال وعدم الاختصاص، والنيات الساذجة بالغرور او الطوية الحسنة في بعض الأحيان، كما تنطلق من خشية من مواجهة الحقائق والرغبة في التهرب من مواجهة الرئيس نبيه بري والاعيبه، وانتهاكه لأحكام الدستور وكنه مواده، واستيلائه عنوة على مهمة وصلاحية، لم يعطه اياها اي نص ولم تكلفه بها اي سلطة، وهي مهمة تفسير الدستور وتطبيقه من جهته وحسب اهوائه.

تمترس بري اثناء مناقشة صلاحيات المجلس الدستوري، بان “مجلس النواب سيد نفسه”، بمخالفة ما ورد في اتفاق الطائف

وعلى الرغم من ان وثيقة الوفاق الوطني التي أقرت في مؤتمر الطائف، قد اناطت بالمجلس الدستوري مهمة تفسير الدستور، واختبار دستورية القوانين الصادرة عن مجلس النواب، بناء لطعن يقدم من جهات متعددة، كما أناط بالمجلس الدستوري، مهمة البت بطلبات الطعن بنتائج الانتخابات النيابية، فقد تمترس بري اثناء مناقشة صلاحيات المجلس الدستوري، بان “مجلس النواب سيد نفسه”، بمخالفة ما ورد في اتفاق الطائف، ونزع مهمة تفسير الدستور من المجلس الدستوري، وايكاله الى مجلس النواب.

فبحسب مقولة “سيد نفسه”، يستطيع المجلس الدستوري نزع نيابة نائب واحد او عدة نواب، طعن خصومهم بنتائج فوزهم في الانتخابات، كما يستطيع اسقاط قوانين تم اقرارها في المجلس النيابي، بما في ذلك قانون الموازنة التي تقره الحكومة، ويصدر بقانون عن مجلس النواب، لكن هذا المجلس لا يستطيع تفسير الدستور اللبناني، وحل خلافات قائمة بين أطراف المنظومة السياسية حول سبل تطبيقه.

لم يكتف بري بان يخالف وثيقة الطائف، بل اعتبر ان مكتب المجلس، يمكن ان يحل مكان البرلمان نفسه

لم يكتف بري بان يخالف وثيقة الطائف، وان يوكل لمجلس مؤلف من ١٢٨ نائبا، قد لا تتعدى نسبة من يحمل خبرة وتجربة او اختصاصا دستوريا ال ١٠ % من عديده، في احسن الاحوال، بل اعتبر ان مكتب المجلس، يمكن ان يحل مكان البرلمان نفسه في تفسير الدستور، وقد فعل ذلك دون اي مبرر قانوني او اجراء تشريعي، ثم احل لنفسه منفردا، ان يتجاوز مكتب المجلس مرة اخرى، ويصبح المرجع الوحيد في تفسير مواد الدستور، والافتاء والاجتهاد بها كيفما شاء، وحسب ما تجري رياح مصالحه وتحالفاته وانحيازاته.

فهل يعود تعطيل انتخاب رئيس الجمهورية، لخلل وغموض في المادة ٤٩، يضاف اليه وجود خلاف سياسي، حول شخصية الرئيس العتيد وانتماءاته السياسية؟!

المادة ٤٩ ليست مادة جديدة ادخلت بعد الطائف، بل أن النص الذي يقول ” ينتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السري، باكثرية ثلثي مجلس النواب في الدورة الاولى ويكتفى بالأكثرية المطلقة في دورات الإقتراع التي تلي”.

لعل ابرز انتخابات رئاسية شهدت صراعا سياسيا حادا، كانت انتخابات الرئيسين الياس سركيس و سليمان فرنجية

النص كان موجودا بكل حذافيره منذ سنة ١٩٢٩، وقد جرى انتخاب كل رؤساء جمهورية لبنان على اساسه، خلال الانتداب الفرنسي قبل الاستقلال وبعده، وقبل الطائف وبعد الطائف، وفي أغلب الانتخابات الرئاسية الماضية، كان هناك خلاف سياسي حاد، حول شخص الرئيس المنتخب بين قوى سياسية عدة، ولعل ابرز انتخابات رئاسية شهدت صراعا سياسيا حادا، كانت انتخابات الرئيسين الياس سركيس و سليمان فرنجية، فالاول انتخب اثناء معارك الجبل في ايار ١٩٧٦، وانتقل النواب الى قاعة الانتخاب تحت وابل القذائف المتفجرة، اما انتخاب فرنجية سنة ١٩٧٠ فكان باكثرية نصف نائب فقط ٤٩/٥٠، في ظل قوة النهج الشهابي الذي وقف ضد فرنجية، ودعم سركيس.

اما الوضع الدستوري القائم اليوم لانتخاب رئيس الجمهورية، فتعالجه المادة ٧٤ من الدستور اللبناني، والتي تنص على”اذا خلت سدة الرئاسة بسبب وفاة الرئيس او استقالته أو سبب آخر، فلأجل انتخاب الخلف يجتمع المجلس فورا بحكم القانون…” وهذا يعني بوضوح ودون التباس ان المجلس ليس بحاجة لدعوة من رئيس المجلس بل يجتمع بحكم القانون…

يحدد الدستور آليات التئام المجلس، كهيئة ناخبة لانتخاب رئيس الجمهورية في ثلاث حالات مختلفة:

  • الحالة الاولى: الاجتماع بناء لدعوة رئيس مجلس النواب. تكون الجلسة بناء لدعوة رئيس المجلس، وهذه الحالة مداها فترة زمنية، تمتد بين شهرين وشهر واحد، وتسبق نهاية ولاية رئيس الجمهورية.
  • الاجتماع حكما وقد نصت المادة ٧٣ على : ” قبل موعد انتهاء ولاية رئيس الجمهورية بمدة شهر على الاقل وشهرين على الأكثر، يلتئم المجلس بناء على دعوة رئيسه لانتخاب الرئيس الجديد، واذا لم يدع المجلس لهذا الغرض، يجتمع حكما في اليوم العاشر الذي يسبق اجل انتهاء ولاية الرئيس.
  • الحالة الثالثة: الالتئام بحكم القانون : أن يداوم النقيب ملحم خلف ود. نجاة عون في القاعة العامة لمجلس النواب بحكم القانون، طبقا للمادة ٧٤ من الدستور اللبناني فهي دعوة مفتوحة لجميع زملائهم النواب، لالتئام المجلس كهيئة ناخبة لا تبرح مكانها، قبل انتخاب رئيس الجمهورية… وحيث تنص المادة ٧٥ من الدستور :” ان المجلس الملتئم لانتخاب رئيس الجمهورية، يعتبر هيئة انتخابية لا هيئة اشتراعية، ويترتب عليه الشروع حالا في انتخاب رئيس الدولة دون مناقشة او اي عمل آخر.
    الدستور ليس غامضا، لمن التزم تطبيقه بنصه وروحه، والسيادة هي اولا سيادة الدستور والقانون.

الخطوة ليست اعتصاما يتطلب تأييدا او تعاطفا، بل هي خطوة على طريق طويل، لا بد ان ترتسم مراحله، وتبنى خريطة تحركاته خطوة خطوة استنادا للدستور، والخطوة ليست صرخة احتجاج واحراج، لكي يغير حزب الله وبري موقفهما ويذهبان للقبول برئيس اصلاحي وسيادي، وليست مناورة انتخابية هدفها الترويج لانتخاب شخصية سياسية او غير سياسية، حتى يرفع لتأييدها، شرط الاتفاق على مرشح رئاسي للمعارضة، وهي ايضا ليست خطوة شعبوية تقاس بعدم جدواها بانجاز الانتخاب الرئاسي.

إقرأ أيضاً: حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: لبنان المتراس.. خواء الداخل والارتهان للخارج

الخطوة هي دعوة لالتحاق كل النواب والمكوث في القاعة العامة، حتى اكتمال نصاب الجلسة والشروع بانتخاب رئيس الجمهورية، في دورة اولى ثم ثانية ثم ثالثة حتى يفوز الرئيس الموعود..

كل هذا الفشل العميم الشامل، يعود الى انتهاك احكام الدستور، والى تكليف بري بتفسيره وبتطبيقه

الخطوة هي ادراك متأخر، للسبب الجوهري في فشل دولة لبنان، فتعطيل الانتخابات في رئاسة الجمهورية، كما تعطيل مؤسسات الدولة ومرافقها وادارتها وخدماتها ورسومها المالية، واجهزة رقابتها الادارية والمحاسبية وقضائها وتفتيشها المركزي، ان كل هذا الفشل العميم الشامل، يعود الى انتهاك احكام الدستور، والى تكليف بري بتفسيره وبتطبيقه، وبهندسة العلاقة السياسية بين اطراف المنظومة، واول عودة الروح الى لبنان عودة الروح الى دستوره، واجبار مغتصبه على اطلاق حريته، واقامة خلف وعون في قاعة مجلس النواب، هي اول قطرة في نهر إعفاء بري، من مهمة تفسير الدستور والافتاء والاجتهاد في تشريحه.

السابق
خاص «جنوبية»: الدولار الى 60 ألفاً بانتظار اول شباط.. و«جشع» التجار يضخمه 5 آلاف!
التالي
بعدسة «جنوبية»: محيط مصرف لبنان يلتهب.. واستنفار للجيش