حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: لبنان المتراس.. خواء الداخل والارتهان للخارج

حارث سليمان
يخص الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

كان يطيب لبعض المفكرين العرب، وخاصة الكاتب المصري محمد حسنين هيكل، ان يطلق على لبنان في علاقته بالمشرق العربي صفة “شرفة العرب”، او “نافذة المشرق الى العالم”، وكانت تطرب لهذه الصفة ولهذا الدور، شريحة لبنانية كبيرة، تبدأ من نخب مثقفة اتقنت طريقة التعامل مع الغرب، لغات اجنبية وجامعات متطورة، ووكالات تجارية وخدمات مالية وبنوك، ووساطة أعمال عمرانية هندسية، وساهمت في توفير مستشفيات ورعاية صحية عالية الجودة، و قد كانت تتنافس في جو الحرية النسبية المتاحة، وتمتد الى مؤسسات اعلامية وفكرية، ودور نشر ومطابع كتب ومجلات، تجعل من بيروت عاصمة مستمرة للثقافة والمسرح والفنون والأفكار العربية الجديدة، كما تنتشر في بيروت، وكالات دور ازياء من كل انحاء المعمورة، وماركات مواد تجميل عالمية، ومحال بيع وتسويق عطور مشهورة، و مراكز صناعة مجوهرات غالية القيمة والفكرة، و معارض احذية وجلود، وتجهيزات كهربائية وسلع الكترونية، وخدمات سياحية وفندقية، اضافة لمطاعم واماكن لهو واستجمام وتزلج…

إقرأ أيضاً: حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: التغيير في لبنان بين المنتظر والمرجأ

نافذة المشرق العربي هذه، كانت متنفسا للعرب، وحاجة ضرورية لخلق فضاء يحاكي تقدم الاجيال العربية، وتفتح وعيها السياسي والاجتماعي، وخروجها من عزلة مجتمعاتها المغلقة، بسبب من سيطرة تقاليد القبيلة تارة، او استبداد الامن تارة اخرى، او سيطرة رجال الدين على المجال العام، وتنميط السلوك الاجتماعي بدواع ايديولوجية، او عقائد دينية محافظة، او استبداد امني يمارسه جنرالات جيوش الانقلابات الثورية، ووكالات بطش المخابرات المتعددة.

كان لبنان نافذة لرياح اخرى مختلفة عن السائد في الداخل المشرقي، تُنعِشُ من سئم العيش في وحدانية الخيار المتاح في كل دولة، عبر سلطات اسرية واستبدادية، وشرفة يطل منها اعراب الداخل، على منجزات العصر وتقدم مجتمعاته وانجازات علمائه.
كانت هذه الشرفة، مجالا للحرية والتثاقف والابداع في مجال الفن، ولرفعة الاناقة والتمدن والحداثة، في مجال المأكل والملبس والجمال والانوثة، و افقاً واسعا لطموحات الشباب واحلامهم، في مجال العلم والمعرفة والاختصاص، وملاذا آمنا لكل صاحب خوف من حكامه، او وجع وعلة يبرأ من امراضِه، ويشفى بارفع تقنيات الطب والعناية الصحية…

لعل هذه الصورة الوردية لوطن الارز، لم تكن الا واجهة خارجية براقة لماعة لواقع داخلي، يخفي حقائق كاملة اخرى

ولعل هذه الصورة الوردية لوطن الارز، لم تكن الا واجهة خارجية براقة لماعة لواقع داخلي، يخفي حقائق كاملة اخرى، من عدم العدالة في توزيع الثروة والخدمات والازدهار، وفرص العمل بين المدن والارياف، ومن تمركز شديد للنشاط الاقتصادي وخدمات الصحة والتعليم والسياحة في بيروت الكبرى دون غيرها، وفي تأخر مضطرد وتدن في عوائد القطاعات الانتاجية في الزراعة والصناعة…

على مر سنوات وعقود، تحولت الشرفة او النافذة هذه مع الوقت ومرور الأجيال، من فتحة اطلالة او موقع استشراف واضطلاع، الى جسر عبور وقناة تواصل وتفاعل، كان الغرب الرأسمالي الأوروبي والشرق الشيوعي أيضا، مهتمين بلبنان لانهما يهتمان بالمشرق العربي ودوله، خاصة في العراق وسورية، وكانت مكاتب شركاته في بيروت، تعمل من اجل دخول اسواق السعودية والإمارات والكويت وقطر وسلطنة عمان، ومن اجل ايجاد سبل لاختراق اسواق مصر والسودان…

تحولت الشرفة مع الوقت من فتحة اطلالة او موقع استشراف واضطلاع، الى جسر عبور وقناة تواصل وتفاعل

لم تكن علاقة العالم باطراف السلطة في لبنان في ذلك الوقت، طوائف واحزابا وشخصيات، علاقة تحالف او صداقة او اعجاب، كما تهيأ لبعض النخب اللبنانية، او كما حاولت ان تشيع طروحاتها بعض الجماعات الطائفية، فخارج لغة المجاملات اللطيفة، لم تكن العلاقة تحمل صفة التساكن والاقامة، فلا يقيم احد على شرفة منزل حتى لو زارها، ولا ينام على سرير نصبه في نافذة مشرعة على حائط، واما الجسر فهو اداة عبور تصبح خلف من يعبر، ويجد العابرون دائما وسيلة عبور اخرى، حين يجبرون على الوقوف طويلا على جسر مأزوم مشلول الحركة…

في سبعينات القرن الماضي، احدثت حرب تشرين سنة ١٩٧٣ وما تلا ذلك، زلزالا وضع المنطقة برمتها على مسار مختلف وغير مسبوق ؛ اسعار النفط، كامب ديفيد وزيارة السادات لاسرائيل، اتفاق فصل القوات مع الاسد في الجولان، خطاب عرفات في الامم المتحدة، ثورة الخميني في ايران والحرب العراقية الايرانية، ثم اجتياح اسرائيل لعاصمة لبنان في بيروت سنة ١٩٨٢…
خلال اقل من عشر سنوات حصلت احداث جسام، كان لبنان يتخبط بدماء ابنائه وسكانه!! وكانت دول الاقليم تتجه خطوة خطوة، لبناء بدائل عن وظيفة لبنان ودوره وخدماته.

اتت تجربة رفيق الحريري لتعاود اعمار ما تم هدمه، ولتحاول اعادة لبنان

لم تكن الحرب اللبنانية التي امتدت اكثر من سبعة عشر سنة متواصلة، خسارة بالانفس البشرية والاموال والعمران وخراب اواصر العلاقات الاجتماعية والاسرية، و انهيار سلم القيم الآمرة بالفضيلة والصدق والاعتدال والانتماء الوطني فحسب، بل كانت الخسائر افدح كلفة وابهظ ثمنا، في مجال إهدار الفرص المتاحة والتأخر عن مواكبة تطورات المنطقة، وتحديث اليات الحكم والادارة والتنمية، وإجادة استعمال التقنيات الجديدة والابتكارات المكتشفة.
خلال تلك السنوات العجاف، فقد لبنان الكثيرَ من مجالات ريادته، كما فقد فرادة دوره في قطاعات اخرى، واتت تجربة رفيق الحريري لتعاود اعمار ما تم هدمه، ولتحاول اعادة لبنان الى ما كان عليه قبل الحرب، كتجربة في حال نجاحها، لا تستجيب لتعويض الزمن الفائت، ومواكبة التقدم الاقليمي المنجز وتوالي الوقائع في دول الجوار.

لم ينتبه شعب لبنان، انه حين كانت ربوعه تشتعل بحروب الاحياء والزواريب، كانت مراكز الثروات المالية في العالم، تنتقل نسبيا الى دول العرب و الخليج، بعد ارتفاع اسعار النفط، وكانت مراكز الانتاج الصناعية الكبرى تنتقل، من الغرب واوروبا الى الصين ونمور آسيا في الشرق الادنى، بعد اعادة تحديث الصناعة وتخليها عن الحاجة الى المناجم والتعدين وتطوير استعمال الربوتات فيها، وان لبنان الذي كان مركز تسوق اقليمي، ومعبرا ومصبا للنفط الخام العراقي والسعودي، وكان مطاره ومرفأه وشركات النقل الجوي فيه، مرافق ناشطة تقدم خدمات عبور اقليمية أساسية، بحاجة الى استنباط دور متجدد، ووظائف اقتصادية مستدامة، ومن انتبه الى ذلك لم يكن في موقع التأثير والقرار.

ولم تنتبه نخبه التي استلمت سلطته بعد اتفاق الطائف ، ان لبنان هذا فقد ادواره دورا تلو الاخر، مع قيام كل مرفق او مرفأ او جامعة او مستشفى في مدن الاقليم وشواطئه، من جبل علي في الامارات، الى خطوط الطاقة والغاز والنفط في تركيا، الى شركات الطيران و الجامعات في القاهرة والرياض ودبي و عمان.

ولم تكن الميليشيات التي شكلت عماد هذه السلطة برعاية سورية، مؤهلة اصلا لمواكبة التغيرات العالمية العميقة، التي تلت سقوط المنظومة الاشتراكية، وسطوع خيار اقتصاد السوق وفتح أسواق التجارة العالمية الحرة، وهو تحد يفرض تحديثات عميقة قانونية وجمركية وقطاعية، تفتح باب التنافس على مدى العالم، وتلزم المنتجين الى اي قطاع انتموا، بمعايير الجودة ومقاييسها، كان دور لبنان الاقتصادي على صعيد المنطقة، بحاجة الى اعادة تعريف وتاهيل بدل اعادة احياء دور قديم.

خطوة تلو خطوة، تم تحويل الشرفة إلى موقع قتال، وتحولت النافذة الى متراس حربي

خطوة تلو خطوة، تم تحويل الشرفة إلى موقع قتال، وتحولت النافذة الى متراس حربي يتلقى القذائف ويواجه الهجمات، وتسابق العرب لدعم صمود لبنان ورعاية رحلته الميمونة، للانتحار في وظيفته الجديدة، والتي تقضي بان يكون تارة صندوقا لتبادل الرسائل الاقليمية الملتهبة، او طاولة يتم تسوية علاقات دول الاقليم مع الغرب فوق سطوحها، او متراسا اقليميا يتم من خلاله خوض حروب استباقية واستثمارها.

كان الدور الاقليمي الجديد في لبنان يتطلب المزيد من انكشاف الداخل اللبناني أمام الخارج الإقليمي، ويتطلب ذلك ثلاثة مسائل متلازمة :

١) فكفكة وتعطيل الدولة؛ مؤسسات ووظائف وطنية، وهتك معاييرها الدستورية وتقاليد حياتها الديموقراطية, وسيادة ثقافة الخروج عن الدستور او الاحتكام للقانون وانفاذ العدالة، واستبعاد رجالاتها وتصفية رموزها السياسية الجامعة( موسى الصدر ، كمال جنبلاط، رينيه معوض، رشيد كرامي، ريمون اده، نسيب لحود، حسن خالد الرفاعي، سليم الحص، حسين الحسيني، المفتي حسن خالد، ثم رفيق الحريري).
٢) خواءا في الاقتصاد والانتاجية، عبر سياسات الفوائد المرتفعة والفقاعات العقارية، والجرائم البيئية وتكبير حجم الاقتصاد الريعي، وتسهيل تبييض الاموال وعوائد الجريمة المنظمة، وترسيخ اقتصاد اسود مواز، يستنزف موارد الدولة ويخنق الاقتصاد الشرعي الحقيقي.

٣). ترسيخ الطائفية والمذهبية وتحويل المذهب من جماعة ايمانية وعقائدية، الى هيكلية منظمة، تنافس الدولة في وظائفها وخدماتها، واختصار الجماعة بأحزاب، تحفظ استتباب هيكلة الطائفة وتنظيمها وعسكرتها بالعدوى والتوالي، وتعميم الظاهرة وايجادها حيث تغيب، كأداة لامساك الوطن وتسهيلاً لإرتهان الطوائف للخارج.

لبنان المتراس، سيبقى ساحة يعبث بها الخارج عبر أحزاب الطوائف، ولبنان الوطن هو لبنان المواطنة والسيادة والمساءلة والدولة؛ بمؤسساتها ودستورها وقيمها الديمقراطية، ورجالاتها الذين نفتقد نماذجهم في كل أزمة.

السابق
بعدما لامس الدولار «الأسود» الـ٥١ الفاً.. هل من تعديل بمنصة «صيرفة»
التالي
الدولار يقفل على ارتفاعه الجنوني.. ويتخطى الـ50 الفاً!