وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: لبنان.. تأسيس المستقبل على كارثة

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

من يشاهد الثقة العارمة لدى الأحزاب السياسية في لبنان، والمواقف الصلبة وحرارة النشاط السياسي التي لا تخمد فيه، إضافة إلى حدّة السجالات بين القوى المتنافسة، يظن أن لبنان ينتشي بديمقراطيته وينعم برفاهه ويزهو بتطوره، الذي يجعله نموذج وطن استثنائي وحكم متميّز وقادة يصعب وجود أمثالها في مكان آخر. بل يظن أن لبنان في طور أخذ فكرة السياسية والحكم والسلطة، إلى مستوى جديد أكثر تطوراً وغير مسبوق كونياً في المفاهيم والممارسة والابتكار.

طبعاً هي صورة كاريكاتورية لوطن، وقع في أسوأ كارثة عرفها اقتصاد بلد منذ أكثر من قرن، وأسوأ ظروف حياة عرفها مجتمع إنساني، وأسرِ أخسِّ شخصيات قيادية وعمومية يمكن تخيّلها تقرر مصير بلد.

إقرأ أيضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: انتفاضة 17 تشرين.. الإمكانات والإخفاقات

ورغم ذلك تدار الحياة السياسية ومفاصل الحكم ومؤسسات الدولة، بنحوٍ منفصلٍ عن كل تلك المآسي. كأن ما حصل وما هو قائم، لا علاقة بمن يحكم وليست من مسؤلية أي سياسي، وكأن الكارثة الراهنة جاءت من خارج أهل السلطة والحكم، من مصدر شيطاني، أو بسبب تعويذة ساحر شرير، ولم تكن يوماً بسبب سوء إدارة، أو فساد داخلي أو زبائنية علنية أو نهب مقنع. بل كأن من يحكم ويملك القرار هو أول الضحايا، وأول من وقع عليه وبال الانهيار وآثار المصيبة، ليخرج علينا واعداً كل مصاب ومتضرر بأن ينتقم له، ومتوعداً كل متآمر ومذنب بالانتقام منهما، رغم فشل القضاء حتى الساعة في تحديد هويتهما.

كأن الحكم لا تدبير حكيم لمجتمع، بل لعبة عضّ الأصابع، معركة منتصر أو مهزوم

كأن غرض السياسة وممارسة السلطة في لبنان، لا علاقة لهما بإدارة مصالح وطن أو رعاية شأن عام. وكأن الحكم لا تدبير حكيم لمجتمع، بل لعبة عضّ الأصابع، معركة منتصر أو مهزوم، مواجهة غالب أو مغلوب، حلبة كسر أو انكسار، حرب قاتل أو مقتول، ساحة إثبات رجولة، سباق فروسية. كأن الدولة ليست مؤسسة عامة معقلنة وغير مشخصنة، بل هي مجرد جائزة للمنتصر، وأَمَةُ (جارية) للفاتح، وكسب حلال للغالب، ومُلك مباح للغازي، وهدية تقدير للفائز.
كأن القيادة سمة من يحصد أكبر عدد من الضحايا والمكسورين والمهزومين، وصفة من يَثْبَتُ على موقفه مهما كان ضعف منطقه، ومهما كانت أضراره مهلكة مثل الطوفان الكاسح. كأنها (أي القيادة) غاية لوجودنا، أو كأننا خلقنا لأجلها، أو كأن وجودها ينتشلنا من عدم اللامعنى واللاقيمة، فلا يعود ولاؤنا الأبدي وطاعتنا المطلقة لها يكفي مديونيتنا لها.

هي قطعان متعددة، لكن لا يصدر عن جميعها إلا صوت واحد

كأن المجتمع أو الشعب قطيع كبير، تم تقسيمه إلى قطعان متعددة، تم وشمها بألوان زاهية مثل الأصفر والبرتقالي والأخضر والأبيض وغيرها، ليتم تمييزها عن بعضها البعض، وليكون لكل منها راع يرعاها ويجني نماءها. هي قطعان متعددة، لكن لا يصدر عن جميعها إلا صوت واحد، ثغاء واحد للنعم واللا، القبول والرفض، بل لكل صنوف التعبير والمعاني والصور الوجدانية.

قد يرى البعض أن ما يحصل هو من آثار الكارثة التي حلت بلبنان منذ عدة سنوات، وهي مسلكيات طبيعية تبدأ بحسب تصوير علماء نفس المصيبة: بتبلد الشعور، الذي يليه الإنكار، ثم الإحتجاج، ثم الكآبة، ثم تستقر على قبول المصيبة والتكيف معها.

تجاوزنا طور المراحل الطبيعية في تلقى المصيبة، لندخل طور الأعطاب الذاتية، التي لم يعد بالإمكان معها تمييز المزيف من الحقيقي

لكن ما حصل في لبنان، هو أن تعاقب الكوارث الواحدة تلو الأخرى، حال دون أن تتم كل مصيبة دورة اكتمال آثارها وعوارضها، بل بقينا في منطقة تبلد الشعور العام، الذي يؤدي إلى انفصام الوعي والشعور عن الواقع وعن مجرياته، ويطلق العنان للخيال في خلق عالم وهمي مواز وبديل عن الواقع الفعلي، بالتالي تتعطل ملكة العقل والتفكير، التي تمكننا من الوعي بحقيقة وأسباب المصيبة والمسعى العاقل للتغلب عليها. ما يعني أننا تجاوزنا طور المراحل الطبيعية في تلقى المصيبة، لندخل طور الأعطاب الذاتية، التي لم يعد بالإمكان معها تمييز المزيف من الحقيقي، الوهمي من الواقعي، الخرافي من العقلي.

نحن أحوج ما نكون إليه هو وصاية أهل رشد وعقل

حين تتعطل الطاقات الذاتية على استيعاب الكارثة وتموت دوافع الخروج من المصيبة، تبدأ مرحلة الهلوسات التي تبدأ بتصوير الكوارث إنتصارات والمصائب إنجازات، ونعمد نتيجة لذلك، إلى اعتبارها أساس كل سياسة فاضلة وحياة مستقيمة. بالتالي، وبدلا من تأسيس واقع يقوض أسباب الكارثة، تصبح الكارثة أرضية لكل حاضر وشرطاً لأي مستقبل. عندها لا يعود هنالك من معنى لإصلاح أو مسوغ لثورة، لأنهما أي الإصلاح والثورة ملاذ الأصحاء ووسيلة العقلاء، أما في حال لبنان ووفق ما يحصل الآن، فنحن أحوج ما نكون إليه، هو وصاية أهل رشد وعقل، نجحوا في اختبار بناء أوطانهم ومغامرة تأسيس دولهم.

السابق
طقس كانون يصدم اللبنانيين.. لا منخفضات قوية متوقعة!
التالي
بايدن يطلب شيا للعمل في إدارته.. من يخلفها في لبنان؟