«شوشو».. نصف قرن على غياب الظاهرة المسرحية الفريدة

الفنان المسرحي الكبير اللبناني حسن علاء الدين (شوشو)، مولود في بيروت عام 1939، وتوفي في بدايات الحرب الأهلية في الثاني من شهر تشرين الثاني/نوفمبر 1975. كان في السادسة والثلاثين من عمره، في عمر الشباب المتحمس للعمل والابداع.

وأنا، كاتب هذه السطور واحد من أبناء جيل لم يستطع متابعة مسرح شوشو الا بالنادر المتأخر، ذلك انه غادر الحياة ونحن في عقدنا الاول. ورغم ذلك العمر القصير الذي جمعنا به،وصلتنا ، حينها، اعمال الراحل وكنا نتلقفها بالشاشة الصغيرة ،بالأسود والابيض بفرح عارم. فأحلام شوشو خاطبت جيلنا والاجيال التي سبقتنا بكثير من الزخم والحب الكبير.

بدأ حسن علاء الدين مسيرته المسرحية في فرقة شباب هواة، ووجد طريقه الى الإذاعة والتلفزيون حين تعرف الى الفنان الراحل محمد شامل عام 1965، وحلّ محلّ الراحل عبدالرحمن مرعي رفيق محمد شامل.

بنى شوشو خشبة مسرحِه في كرم يقع في منطقة كركول الدروز (وفق رواية محمد شامل)، وأعد مع فريق شاب (4 شباب) مقاعد الإسمنت وسرعان ما ازدحم المكان بالناس.
منذ البداية، ظهر شوشو كائناً خرافياً غريباً، يظهر بين الناس بشاربيه الطويلين وجسده النحيل، كحدث مسرحي بحد ذاته، على رأسه قبعة أو طربوش، ويتحرك حركة غريبة.
نطق”شوشو” بجسده وبحسه فبدأ نشاطه في برنامج إذاعي للأطفال، حيث لم يكن له شاربان. كان ممثلاً حراً وهو يخترع تلك اللهجة البطيئة “المخرفة”.

ظهر شوشو كائناً خرافياً غريباً، يظهر بين الناس بشاربيه الطويلين وجسده النحيل، كحدث مسرحي بحد ذاته

كان شوشو ذلك الممثل الطري البريء (الأبله)، الذي يثرثر ويرسل طوفاناً من الضحكات. ونجح شوشو الإذاعي نجاحاً كبيراً.
بعد ذلك عمل شوشو مع محمد شامل في برامج تلفزيونية وإذاعية منها برنامج “شارع العز” و”يا مدير” و”الدنيا هيك”، لكن لم يكمل من مشروع “الدنيا هيك” لأنه كان يريد نصاً يقدم نجم المسلسل الرئيس، في حين محمد شامل كتب نصاً جماعياً.

بعدها تحول شوشو الى تقديم مسرح شانسونية في أحد ملاهي بيروت ثم في بعض مناطق السياحة والاصطياف.
عام 1965، أنشأ شوشو المسرح الوطني بعد لقائه مع نزار ميقاتي حيث أسسا معاً المسرح الوطني، ولم يتوقف حسن نهائياً عن العمل في الإذاعة والتلفزيون وفوق ذلك خاض غماراً سينمائياً فاشلاً.

نهض شوشو بالمسرح الوطني وكان نجمه الدائم. في المرحلة الأولى (1965 ـ 1970)، كان نزار ميقاتي شريكه الرئيسي (كمخرج ومؤلف) وفي المرحلة الثانية (1970 ـ 1975) كانت مرحلة الانطلاقة الذروة في تكوين فرقة وتكوين جمهور مسرحي، وتأسيس لنظام مسرحي يومي بلون شخصية فنية كبيرة.

نهض شوشو بالمسرح الوطني وكان نجمه الدائم

لمع شوشو في اقتباسات نصوص موليير في “البخيل” و”مريض الوهم” وفي الاختبارات العديدة لأعمال لابيش، وفي مسرحية توباز لمارسال بانيول.
كان المسرح نشاطاً حضارياً في الإنتاج على الآخر وشهدت الستينات اقتباسات مسرحية مهمة، فمعظم المسرحيات التي كانت تقدم هي مسرحيات مترجمة أو معظمها مسرحيات نالت شهرة في الغرب وتنتمي الى المسرح الكلاسيكي. مرحلة شهدت ازدهاراً وتفجر مراحل واتجاهات فنية وأدبية في تحولات اجتماعية واقتصادية مهمة عززت شروط الحياة المادية وشكلت اقبالاً جماهيرياً ملفتاً على الأعمال المسرحية.

قدم شوشو كوميديا حية بمزاج رائع. كوميديا نظيفة قدم على الحركة الذكية واللعب البارع فلا ابتذال ولا سوقية. لكن بدأ شوشو مقلداً في مسرح الشانسونية وواصل ذلك بأعمال تمثيلية مع نزار ميقاتي وفارس يواكيم وجسد لاحقاً نوعيات مختلفة.
كان الجسد النحيل هو الحدث المسرحي، يجري خلفه المشهد، ويكسر ركوده المتباطئ، حين يمشي شوشو بإيقاعه المضطرب ويموه الزي حتى الثرثرة.
شخصية مشدودة العصب، متوترة، متفجرة على أشياء وأغراض عادية، في المقارنة مع الأعمال الطليعية التجريبية أو الملتزمة.

شخصية دينامية “نحتية” على مدار السنة

بعدما ترك نزار ميقاتي العمل مع شوشو 1970، دخل شوشو مرحلة النضج التي قادت الى اجتذاب كبار الكتاب والمخرجين، ورعاية أقلام الصحافة الكبيرة.
تعاون شوشو مع فازليان في الاخراج. ولفازليان اهتمامات في المسرح الجدي، فكانت مسرحية “اللعب على الحبلين”، ثم كوميديا ديللارتي، ومسرحية “كافيار وعدس” لوجيه رضوان، في التقدم نحو المسرح الاجتماعي السياسي.
بعدها تعاون شوشو مع سيد بدير ومحمد سلمان ومحمد كريم وروجيه عساف.

وتواترت الأعمال المسرحية: “جوّه وبرّه” لموليير و”حبل الكذب طويل” لفولدوني، و”فوق وتحت” لفارس يواكيم و”الدنيا دولاب” (لجيمس باربي) إخراج سيد بدير، و”وصلت لتسعة والتسعين” اخراج محمد سلمان (اقتباس عن مسرح البولفار.
محمد كريم اخرج ثلاث مسرحيات هي “طربوش بالقاووش” (سلفانا فرنون) ومسرحية “فرقت نمرة” و”واو سين” (مسرح البولفار).
أما روجيه عساف فأخرج المسرحية الشهيرة “آخ يا بلدنا” عن أوبرا القروش الأربعة لبرشت المأخوذة بدورها عن أوبرا الشحاذين لجون غابي، و”خيمة كراكوز” من تأليف فارس يواكيم. فيما أعد محمد شامل مسرحية لشوشو هي مسرحية “وراء البارفان” وأخرجها محمد كريم.
مسرح شوشو تدرج ببطء وفي سياق فوضوي، عفوي وتلقائي، لم يستوعب في 10 سنوات، ولم يهضم تماماً مراحله، ووجد نفسه فجائياً أمام تنوعيات على ايقاعات مختلفة وأمام جمهور مديني كبير في مستوى “آخ يا بلدنا” لم يكن مسرح شوشو ايديولوجياً مباشراً ولا مسرحاً تحليلياً للأوضاع الاجتماعية ـ السياسية.

كان شوشو يجازف في مسرح التنظير والبريشتيه أمام جمهور شعبي

كان جزءاً من النقد اليومي مسرح الفرح والنطق بالدهشة والتعبير عن حالات جزئية وبتفضيلات محددة على هذا المستوى أو ذاك بشيء من المباشرة السياسية والاجتماعية، تراكم حالة مسرحية ناشطة في المرحلة الثانية وكجزء من نسيج مديني حساس ازاء قضايا حريات التعبير والديموقراطية.
كان شوشو يجازف في مسرح التنظير والبريشتيه أمام جمهور شعبي، لكن مساعي شوشو المغامرة لاقت قابليتها على التجديد والتطوير لشاب لا يريد أن يكرر نفسه كثيراً، وسرعان ما خاض غمار التجربة على براعة وموهبة، فكان “محترف بيروت للمسرح” الذي لعب دوراً هاماً، وانتهى صامتاً.
دخل حسن علاء الدين اللعبة المسرحية بعفوية كاملة، اكتشف نفسه، كما اكتشف الناس، جسده النحيل يتواطأ على النطق والضحك والدهشة والغرابة، ولسان قوي سليط، لاذع على ارتجال وعفوية وتباطؤ كلمات.

فوضى الجسد تقاطعت مع فوضى شبكات من الافكار المتذبذبة ومع تجمع في طور التشكك المديني، ومع مسرح هو عبارة عن “جريدة يومية” فيها البلدي والمحلي كما فيها النص التجريبي الحديث.
علاقة شوشو بالمسرح توطدت في الستينات وتطورت تراكمياً، ليبني أشياء مهمة على بدايات المسرح منذ منتصف القرن التاسع عشر مع مارون النقاش وفرق محلية عربية ودولية، ثم ان علاقة شوشو مع المسرح هي علاقة نسيج مسرحي مديني مع منير أبو دبس، وانطوان ملتقى وجلال خوري وريمون جبارة وشكيب خوري، وروجيه عساف ونبيه أبوالحسن، هي علاقة ارث ثقافي. مع ان شوشو بقي خارج جمهور المسرح اللبناني الجديد ظاهرياً، وتردد أمام المسرح الأيديولوجي البرشتي ونوازع الالمام السياسي الشمولي والحاد بالعمق مع الواقع اللبناني.

بقي شوشو على مسافة ما على هواه ومزاجه وايقاعاته، ظاهر فردية مستقلة نسبياً، أي الكوميديا التي تقف على شفير الدراما، المسرح غير الطامح لحلول جاهزة وواقعية لواقع هو ابن تناقضاته بالضرورة التي أوصلت الى الحرب الأهلية.
مما لا شك فيه أن مرحلة الستينات عندما ظهر شوشو كانت فيها المدينة تنهض شمولياً، علماً أن الاستنتاجات مقيدة سوسيولوجياً وغير قاطعة على شخصية بنت على أمجاد عمر الزعني وعلي العريس والثنائي شامل ومرعي.
ان مسرح شوشو كان جزءاً من الايقاع العام المسرحي الناشط والى جانب مسرح الاخر. لكن الأهم ان شوشو كان مخلصاً مع نفسه كممثل هزلي موهوب وبمزاج رفيع أولاً، وحتى الرمق الأخير.

“مسرح شوشو” بناه وسط بيروت، قريباً من ساحة البرج في العام 1965. ولم يكن يدري أنه يسير بخط مواز مع مسيرة استعادة منطق المدينة الذي ينهض طبيعياً منذ ما بعد احداث 1958. فكان شوشو ظاهرة الوسط المديني المزدهرة، وهي لحظة مهمة حتى خارج النقد والتحليل، مع اصرار شوشو انه “يقدم ما لا دخل فيه من قريب أو بعيد بالسياسة”.
قد لا يمكن الا النظر في ملحمة الجسد في فرح الناس وبعدها الدخول في عمق الصورة وفي مفارقة كيف ان المسرح في “آخ يا بلدنا” يستقوي على النظام الامني، ما جعل شوشو “فنان الشعب”، ظاهرة فنية مغامرة وجريئة في ارض ميدان خصب لأفكار تتنازع توازناتها الداخلية في مواجهة التدخلات البوليسية والتفاوت الاجتماعي الكبير بين الاغنياء والفقراء أي جغرافيا الألم والفروقات الاجتماعية وزنار البؤس الذي أحاط بالمدينة.

لم ينجح شوشو كثيراً في حقل السينما علماً أن فيلمه فندق السعادة حقق نجاحاً

لم ينجح شوشو كثيراً في حقل السينما علماً أن فيلمه فندق السعادة حقق نجاحاً، وعلى الرغم من انه كان يبدي تعلقاً كبيراً بالافلام السينمائية.
لكن توصيفات شخصيته الفذة بقيت مسرحياً في المهرج والكوميدي والكراكوز والهذلي، والدرامي في لحظات ضوئية، تلك المرئيات الجميلة في ضمير مسرح شوشو الذي شكل جسراً وانقلاباً نمطياً في العلاقة بين الطبقة الفقيرة والطبقة المتوسطة.
وبنى علاقة مهمة مع جمهور راكم حضوره في اكثر من 25 مسرحية الى برامج تلفزيونية وعدد من الاعمال النهائية التي لم تترك اثراً كبيراً باستثناء المسلسل التلفزيوني “المشوار الطويل” الذي لعب فيه دوراً درامياً هائلاً.
شوشو علق في ذاكرة الناس والمدينة، لمن يعرفه مباشرة، ولأجيال لم تعرفه، لذلك يمكن مقاربة ذكرى غيابه كظاهرة سجلت نجاحات هامشية وانسانية.

مات شوشو فقيراً ومديوناً لأقرب الاصدقاء والمقربين منه، معززاً فشله التجاري، لكن رؤية وجهه في مسرحه وأعماله، رؤية الرجل تجسد للمهتم والمتابع ترجمة لفرح فنان كان يملأ المكان المديني الافتراضي جدلاً.
رجل يرتدي ضحكته، يقفل شاربيه، يحرك اصبعه..
غادر الحياة، انسحب باكراً، شاباً (36 سنة)، رجلاً مدينياً بامتياز، من عناد واصرار الشباب وافكاره المباشرة مع نهر الامراض والهموم والسهر الطويل والافراط في التدخين والاسراف في القهوة، عوارض القلق المديني الذي يبدأ بالخشبة ويثبتها بالموت.

يبدأ كوميدياً وينتهى درامياً في تنفس المدينة، تنفس الحزن الجنوني الذي راكم حرب الرجل وقتاله على الخشبة، لكي يمتلئ فراغ المكان من النوع الذي يقول ان بيروت هي المسرح.
(أعماله)
— في المسرح:شوشو بك في صوفر.مريض الوهم.شوشو عريس.الدكتور شوشو.الاستاذ شوشو.شوشو والقطة.حيط الجيران.شوشو والعصافير.الحق ع الطليان.صبر تحت الصفر.البخيل.محطة اللطافة.اللعب على الحبلين.كفيار وعدس.فرقت نمرة.جوه وبره.فوق وتحت.وراء البرفان.وصلت للتسعة وتسعين.حبل الكذب طويل.طربوش بالقاووش.آخ يا بلدنا.خيمة كركوز.الدنيا دولاب.
في السينما:شوشو والمليون.يا سلام ع الحب.مغامرات السعادة.سلام بعد الموت.زمان يا حب.سيدتي الجميلة.
— في التلفزيون:حلقات فكاهية.المشوار الطويل.يا مدير.شارع العز.
— وفي الاذاعة كانت له اسكتشات فكاهية متنوعة.

السابق
«شعبنا ليس سعيداً».. لاعب منتخب إيران: نأمل أن نكون صوتاً للشعب
التالي
سلامة يمدد «التلاعب الحكومي» بسعر الصرف..و«بيت حزب الله» الرئاسي يتصدع!