«نظام التفاهة»

د. حامد الحمود

عندما شاهدت غلاف الكتاب، تساءلت بيني وبين نفسي: هل للتفاهة نظام؟ فقد اعتدنا أن يكون التافه هو ذلك الشخص الذي لا رأي له، أو أنه يردد كلمات لا يفهمها هو نفسه. لجأت الى القاموس فوجدت ان معناها «نقص في الأصالة أو الابداع او القيم» والذي كان قريبا من ظني. لكن مع ذلك هناك سلوكيات أو عادات مجتمعية عندما تزاول، تشجع الفرد أن يكون تافها، ويتحول تافها دون أن يدرك ذلك. لكن موضوع الكتاب أكبر من ذلك، فموضوعه هو نقد النظم السياسية والاقتصادية، التي بالرغم من نجاحاتها وتفوقها الاقتصادي، تتطلب أن يكون الشخص تافها بمعنى أنه لنجاحه في هذه الأنظمة يتطلب منه أن يفقد حاسته النقدية. ولكن قبل أن أخوض في متن الكتاب، لابد من الحديث عن الكاتب وعن المترجمة.

اقرأ أيضاً: الفنان التشكيلي شارل خوري.. حلة فلسفية «بلدية»!

الدكتور آلان دونو، أستاذ للاقتصاد في جامعة في مقاطعة كوبيك الكندية. وقد درس الاقتصاد في جامعة باريس، وكانت رسالته للدكتوراه عما قدمه عالم الاقتصاد الألماني جورج سيميل في العشرينيات من القرن الماضي الذي له رأي ناقد لانهماك الإنسان في جمع النقود «فالنقود لها اثر مشوه لأنها تركز نشاط العقل على وسيلة تجعله يفقد كل ادراك عقلاني لتنوع العالم». ويظهر تأثير سيميل من خلال اقتباسات دونو الكثيرة لاقتصاديين وفلاسفة وأدباء ألمان وفرنسيين، خاصة لهؤلاء الذين قدموا ابداعاتهم في النصف الأول من القرن العشرين وكانوا معاصرين لجورج سيميل، وهي فترة برز فيها مثقفون يساريون، مثل: روزا لوكسمبورغ، ووالتر بنجيامين، وحنا أرندت، وأعضاء مدرسة فرانكفورت للنقد الاجتماعي، أمثال: هربرت ماركوزه، وهوركهايمر وأدورنو. لكن في الحقيقة فإن ثقافته تمتد إلى مجالات أعمق وأوسع. لذا، أرى أن الكتاب مناسب جدا لطلبة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية ليكون مرشدا في انتقاء اطروحاتهم. وقبل أن أتوسع في الحديث عن الكتاب، لابد من الحديث عن جهود الدكتورة مشاعل الهاجري في ترجمة الكتاب، التي ذكرت في مقدمتها أنها استعانت بالنسختين الفرنسية والإنكليزية للتأكد من دقة ترجمتها. وعرفت أخيرا أن كاثرين براون التي ترجمت الكتاب إلى الإنكليزية، واجهت مشاكل كذلك في الترجمة، واضطرت إلى تجزئة بعض الفقرات وإعادة صياغتها، كما أنها وضعت مقدمة طويلة للكتاب.

الهوامش والشروحات

الدكتورة مشاعل لم تترجم الكتاب فقط، إنما وضعت مقدمة تبلغ ستين صفحة يمكن تطويرها لكتاب. كما أنها، للتسهيل على القارئ العربي، وضعت هوامش وشروحات يمكن أن تطور إلى مرجع لمعرفة الكثير عن المثقفين الأوروبيين وغيرهم الذين اقتبس منهم آلان دونو. فشرحت لنا معاني مثل Kleptocracy والذي نعيشه في الكويت أكثر من كندا. ووضحت معاني مثل البنيوية والتفكيكية، ومئات أخرى من المصطلحات والتعريفات بالكتاب والمفكرين. وأعانتنا بربط موضوع الكتاب بأفكار مشابهة من التراث العربي الإسلامي. فقد شاركنا الجاحظ وفريد الدين العطار والخوارزمي ومالك بن نبي في نقد نظام التفاهة. واقتبست من جمال الدين الأفغاني ما يوضح سهولة أن يكون المرء تافها، بقوله: «التسفل أسهل وأيسر من الترفع». وأن التافهين «يتصدرون الحياة العامة فيتناولون الأشياء لمجرد التفاصح والتشدق بها، حسب رأي مالك بن نبي». أما عن لغة التفاهة فعرفتها بـ«القدرة على ترك مسافة بين النفس والرأي، مع مقاومة الإغراء على الانتماء إلى معسكر فكري رغم القدرة على اتخاذ القرار». وتطرقت إلى ندرة المعلم الحقيقي الذي عرفته «بأنه ذلك الذي يساعد طلبته على ارتقاء تلك الربوة المعرفية ويكمل الدرب وإن آلمته ساعداه، وألا يخاف من أن يصبح طلبته بمستواه». وفي شروحاتها عن المفكرين الذين تأثر بهم دونو اسهبت لتنقلنا الى الجو الثقافي والسياسي الذي برز فيه هؤلاء المفكرون.  

التعاطف مع الطبقة الوسطى

هذا، ولا بد أن أضيف أن القارئ العربي سيفاجأ بموضوع التفاهة كما قصده آلان دونو، الذي يعيش في مجتمع متطور وراق ويقوده رئيس وزراء يعجب فيه الغالبية من العرب لمواقفه الإنسانية، خاصة فيما يتعلق باستقباله لآلاف من اللاجئين السوريين. فالكاتب ناقد لتفاهة مجتمع متطور بالنسبة لنا نحن العرب ولاشك ان تفاهاتنا اكثر تسفلا من تفاهاتهم. ونقد آلان دونو نابع من تعاطفه مع الطبقة الوسطى الدنيا، حيث يضطر الفرد للعيش في شقة صغيرة جدا، ويأكل البيتزا المثلجة، لأن وقته وقدرته المالية لا يسمحان له بالحصول على طعام أفضل. ومنذ أن تمكنت الأحزاب النيو ليبرالية في الغرب من الحكم، محولة النظام الاشتراكي النسبي في أوروبا الغربية وكندا إلى نظام أقرب في سياساته الاقتصادية إلى الأحزاب المحافظة زادت الفجوة بين الأغنياء والفقراء. هذا بينما وقفت النخبة المثقفة في الجامعات ومراكز البحث العلمي موقف المتفرج وفقا لما يراه دونو.

نسبية التفاهة

نسبية التفاهة تتضح أكثر عندما نتحدث عن شخصيات سياسية مثل توني بلير الذي قاد حزب العمال في بريطانيا إلى الوسط المتطرف كما يراه دونو، مفرطا بتراث حزب العمال المدافع عن الطبقة العاملة. والحقيقة أن توني بلير الذي مُنح عقدا استشاريا لتطوير استراتيجية لتنقل الاقتصاد الكويتي كي يكون اقتصادا منتجا، والذي تصفه تاتشر بأنه أفضل اختراع قدمته إلى المجتمع البريطاني بعد تنحيها عن قيادة حزب المحافظين، يعترف بأنه كان مخطئا بالتحالف مع جورج بوش الابن في غزوه للعراق. وكونه لم ينظر للأمور بصورة نقدية، فإنه يدخل ضمن التافهين في مقياس آلان دونو. وقد يحتاج دونو لأن يعيش فترة في العالم العربي، وأن يتعرف عن قرب إلى بعض دوائر السياسة والحكم ليدرك مدى نسبية التفاهة.

العابثون بالبيئة

وآلان دونو معاد للعابثين بالبيئة بهدف تحقيق الأرباح. وفي كندا هؤلاء هم أصحاب شركات التعدين بما في ذلك الشركات النفطية. وقد نشر كتابه هذا في عام 2015، وذلك بعد سنتين من الانفجار الذي حدث لقطار محمل بالمنتجات النفطية قرب بحيرة ماغناتيك، الذي تسبب في مقتل 47 شخصا، وحرق عشرات المنازل. ويشير إلى هذا الحادث في أكثر من موقع في الكتاب. ويمتد هجومه على هذه الشركات، وإلى استثماراتها في دول مثل هاييتي، إلا أني أعرف أن الشركات الكندية تنفذ عقودا استثمارية للتعدين في كوبا، أفادت كثيرا هذا البلد المحاصر من الولايات المتحدة.

الوسط المتطرف

هذا، ولفهم الكتاب، لابد من توضيح ما يقصده آلان دونو بالوسط المتطرف أكثر. لذلك فإن الناشر باللغة الانكليزية، ربما لنصيحة من المترجمة كاثرين براون، أشار إلى الوسط المتطرف في العنوان نفسه، فظهر الكتاب تحت عنوان: «التفاهة: سياسات الوسط المتطرف».

والوسط المتطرف الحانق عليه دونو، هو تلك السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تبنتها الأحزاب الاشتراكية الديموقراطية في غرب أوروبا وكندا خلال الثلاثين سنة الماضية، وتدخل فيها، فترى قيادة بيل كلينتون للولايات المتحدة، وهي فترة تأثرت فيها تلك الأحزاب بالنجاحات الاقتصادية التي حققتها الأحزاب اليمينية المحافظة في حقبة تاتشر وريغان. وينتقد دونو تلك الفترة التي كان الحزب الاشتراكي في فرنسا يقود البلاد في 2014، والتي كان رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس ينفذ سياسات محافظة، همها الأول إرضاء أصحاب الأموال، ويقتبس دونو نقد النائب الفرنسي الاشتراكي فيلوش لرئيس الوزراء فالس لهذا التوجه، حيث رأى أن فالس اشتراكي بالهوية الحزبية فقط ويميني بالممارسات، فوصف فالس Valls بأنه «على اليمين المتطرف من اليسار»، الذي هو أكثر إلى اليمين من أكثر الأعضاء يسارا في عائلة يمينية نموذجية.  

انتقاد الفجوة الهائلة

هذا، ومع اعجابي بعمق واتساع ثقافة آلان دونو، واعجابي بحاسته النقدية، وتعاطفه الكبير مع الطبقة الوسطى الدنيا في العالم المتقدم، هؤلاء الذين تدهورت دخولهم وساءت حياتهم مع نجاح الليبراليين الجدد في الوصول إلى السلطة، فإني أرى أنه في بعض الأحيان وصل إلى نتائج خاطئة لقصر خبرته العملية ليس في الصناعة والتجارة، وإنما حتى في علاقة الجامعات ودور البحث العلمي مع الشركات المتعددة الجنسية وأصحاب الأموال. فلا شك أن كثيرا من الشركات تسبب أضرارا بيئية في مجالات استثماراتها، وأشاركه في انتقاد الفجوة الهائلة بين دخول قياديها والطبقة العاملة فيها. لكن هذا الوجه السيئ لا يعني غياب وجوه مضيئة. فبالرغم من أن هذه الشركات تتوجه إلى تمويل الأبحاث لما يفيدها اقتصاديا، لكن هذا لا يعني أن فوائدها الاقتصادية لا تصل إلى المجتمع ككل. فهل من الضرورة أن تعتذر الجامعات لإرضائها بعض أهداف الشركات الضيقة من أجل تحقيق نجاحات في أبحاث تفيد البشرية ككل؟ هل سمعتم بالهنغارية كاتالين كاريكو Katalin Kariko، التي كانت نتائج ابحاثها حول Synthetic Messenger RNA وراء اكتشاف لقاح لكوفيد 19، والتي استنادا إلى نتائجها البحثية، تمكن العالمان التركيان الألمانيان أوغر شاهين وزوجته أوزلم توراجي من تطوير لقاح لهذا المرض. هل كانت جامعة بنسلفانيا ستتمكن من توفير مختبرات ورواتب لكاتالين دون تمويل من شركات لهذه الأبحاث؟

الكتابات الأكاديمية

هذا، ومع تفهمي لنقده لسطحية بعض البحوث، وربما لتفاهة بعض الأساتذة في بعض الجامعات، إلا أنه لا بد أن نعترف أن هذه الحضارة الإنسانية التي بلغت فيها من التقدم ما يبهر العقل، ما كان يمكن أن تحقق دون سهر ومثابرة أساتذة عظام في مجالات علمية مختلفة ومتكاملة بنفس الوقت. وفي نقده لخشيته اللغة المستعملة في بعض الأبحاث في العلوم الاجتماعية، يقتبس من بحث نشره ستيفن بنكر Steven Pinker، أستاذ العلوم الادراكية Cognitive Sciences في جامعة هارفرد بعنوان: «لماذا اصبحت الكتابات الأكاديمية متعفنة؟» Why Academic Writings Stinks? نشره في عام 2014، الذي ينتقد فيه الأسلوب واللغة المعقدة للأبحاث، والذي يؤدي إلى عزلة الكتابة الأكاديمية. لكن ستيفن بنكر ينشر كتابا في 2018، أي بعد ثلاثة أعوام من نشر كتاب دونو، وبعنوان: «Enlightment Now» التنوير الآن، يبين فيه مدى تفاؤله بالنجاحات التي حققتها البشرية نتيجة لتطور العلوم، ويعطي مثالا على هذا التطور، بتمكن البشرية من القضاء على الموت تقريبا بسبب المجاعات، والذي كان توماس مالثوس (1776 – 1834) مؤسس علم الديموغرافيا قد رأى أنه ضروري لإحداث توازن في عدد البشر. فمالثوس لم يتوقع زيادة إنتاج الأرض الزراعية بسبب تطوير الأسمدة الكيماوية، ولم يتوقع اكتشاف المضادات الحيوية و لم يتوقع ان تختار الطبقة الوسطى ان تنجب اطفالا اقل.

انتقاد التخصص

على عكس آلان دونو، نرى أن ستيفن بنكر متفائل من مستقبل النظام السياسي والاقتصادي والعلمي العالمي، بادئا كتابه باقتباسين، الأول للفيلسوف سبينوزا، والثاني للفيلسوف ديفيد دويتش، حيث يقول الأول: «هؤلاء الذين يتحكم المنطق في تحقيق رغباتهم، لا يبغون لأنفسهم ما لا يبتغونه إلى بقية البشرية»، والذي يتطابق مع حديث للرسول (ص) بهذا المعنى. أما الثاني دويتش فيقول: «كل شيء لا تمنع تحقيقه قوانين الطبيعة، يمكن إنجازه بتسخير المعرفة المناسبة».

هذا، من ناحية الجامعات ومراكز البحث العلمي وعلاقتها بالشركات والمجتمع، ومن ناحية أخرى، وجدت نفسي مختلفا مع آلان دونو في انتقاده إلى التخصص، إن كان على المستوى الأكاديمي أو على المستوى الاقتصادي، فعلى المستوى الأكاديمي، أجده لا يفرق بين سطحية الثقافة لدى بعض الأكاديميين، وبين التخصص الضروري لتطوير العلوم. واتذكر نقده للتخصص عندما أقابل أستاذ جامعي في التاريخ معرفته بالاقتصاد تقترب نحو الصفر، وعندما اقابل أستاذ في الاقتصاد لا يعرف حتى عن التاريخ الاقتصادي. وهؤلاء موجودون في منطقتنا أكثر من كندا. وأتفق مع دونو على أن الثقافة الاقتصادية ضرورية حتى للعامة من الناس. لذا يقتبس دونو من بيير باسكال بولانجيه، أستاذ الاقتصاد في جامعة باريس قوله: «إن جهل المواطنين بالاقتصاد هو في حقيقته تهديد للديموقراطية».

تخصصات بالتوليف

لكن يبقى التخصص ضرورة لتطوير العلوم الطبيعية والاجتماعية. والكل يعلم أن الفلسفة كانت إلى نهاية القرن التاسع عشر أم العلوم. حتى أن آدم سميث صاحب «ثروة الأمم» لم يكن اقتصاديا، بل كان أستاذا لعلم الأخلاق وليس بالاقتصاد. وأول ما درست مادة الاقتصاد تحت هذا الاسم كان في عام 1905 في جامعة كمبردج بعد أن نشر جورج مارشال الأستاذ فيها كتابه في علم الاقتصاد. وإن كان التخصص ضرورة في العلوم الاجتماعية، فهو أكثر ضرورة في العلوم الطبيعية والهندسة. فجيلي عندما درس الهندسة لم يكن في كلية الهندسة (هندسة طبية). لكن تداخل العلوم الطبية بالهندسة وتعقيد الأجهزة الطبية فرض هذا التخصص. كما أن هناك تخصصات تكونت بالتوليف وليس بالتمايز، أهمها العلوم الإدراكية والعلوم الاستراتيجية. ففي العلوم الإدراكية Cognitive Sciences يتداخل علم النفس مع الرياضيات مع علوم الكمبيوتر والعلوم الطبية. وفي العلوم الاستراتيجية تتداخل الفلسفة مع التاريخ مع الاقتصاد وعلم النفس. وفي زيارة لي أخيرا لكلية الهندسة في جامعة أميركية التقيت مع أستاذ أخبرني أن الجامعة ستبدأ من العام الحالي بتقديم تخصص في هندسة الروبوتات أوRobotic Engineering.

العملية الإنتاجية

كما أختلف مع دونو في نقده للتخصص في العملية الإنتاجية، الذي كان من أوائل من نادى به آدم سميث في «ثروة الأمم» في عام 1776، مبررا ذلك بعدم جدوى أن تنتج بريطانيا النبيذ، وأنه من الأفضل أن تستورده من فرنسا وتصدر إليها الحديد. هذا من ناحية التخصص المناطقي في الإنتاج، لكن سميث كذلك سبق الفرد تايلور صاحب كتاب «مبادئ الإدارة العلمية» الذي نشره في فيلادلفيا في الولايات المتحدة عام 1909، داعيا إلى تقسيم الوظيفة المعقدة إلى عدة وظائف بسيطة لا تحتاج إلى تدريب طويل لأدائها. وهذا التقسيم للوظيفة من المعقدة إلى وظائف عديدة بسيطة كان وراء خفض كلفة شراء السيارة من 20 ألف دولار عام 1918 إلى أربعة آلاف دولار تقريبا عام 1926، وذلك بعد أن أنشأ فورد خط إنتاجه الشهير في ديترويت، الذي قدم فيه الـT موديل للمستهلك.

هذا، وأتفهم حساسية آلان دونو من هذا التقسيم المبالغ، الذي كان له تأثر سلبي على نفسية العمال مسهلا التخلص منهم واستبدال غيرهم بهم، بهدف تحقيق أرباح أكثر لرب العمل. لذا، فالعلوم الاجتماعية والإدارية ناقشت موضوع اغتراب العمال Alienation وتحويلهم إلى أدوات. وعلى مدى الخمسين عاما الماضية، حصلت ثورة إدارية وعلمية ساهمت في إغناء أو إثراء الوظائف، إن كان ذلك على خطوط الإنتاج أو في المكاتب. 

دور الخبراء

هذا، وأعجبني آلان دونو في تحليله لدور الخبراء، وكيف يتم توظيفهم لخدمة أغراض أصحاب النفوذ السياسي. ويقتبس من إدوارد سعيد قوله: «إن الخبير يتصرف دائما وفق ما يعتبر سلوكا مناسبا مهنيا فلا تربك الامور، ولا تشرد بعيدا عن النماذج والحدود المقررة مع جعل نفسك قابلا للتسويق، وقبل كل شيء صالحا للظهور، ومن ثم غير مثير للجدل وغير سياسي وموضوعي». فالشخص التافه أكثر طوعا لمطالبهم. ويدعو دونو إلى الانفصال الجمعي عوضا عن الخضوع للفساد. مرددا قول روزا لوكسمبورغ: «إننا لا نقوم بعملنا الثوري للوصول إلى كارثة، بل لكي نتجنب الكارثة». لذا، يدعو إلى: «إنهاء ما يضر بالمصلحة العامة… أن يتوقف الدمار المستفيض للنظم البيئية وأن يتوقف الاستغلال غير المدروس للموارد الطبيعية»، مضيفا: «كلما كان هناك موقف يحررنا من حالات التفاهة المضنية، وُجدت فكرة تساعدنا في تطوير حياة ممأسسة بشكل كريم».

تحذيرات دونو

كما أنه يحذرنا كما حذر والتر بينجامين الذي فقد حياته في الأربعينيات من عمره هاربا من النازية: «ما الهدوء في هذا العالم إلا عارض لا يدوم». لكن ما يطمح إليه آلان دونو أن نقوم به مذكور في آخر فقرة من كتابه المميز:

«أن نتوقف عن السخط وأن ننتقل إلى عمل بلا هوادة لخلق توليف Synthesis من القضايا الوجيهة، وأن نلتقي مع آخرين في تجمعات بخلاف تلك الشللية والطائفية، وأن نسخر من الأيدولوجيات، وأن نتجاوز البربوغاندا التي تريد أن تدخل إلى ذواتنا، وأن نحولها إلى موضوعات مجردة للتفكير، وأن نتجاوز أساليب السيطرة التي تمارسها المنظمات وتحاول خلق بنى تشبهنا». وأن نكون راديكاليين في حاستنا النقدية.

وفي النهاية، ارجو أن نقرأ دون مبالغة بالشك ولا لإثبات رأي وعسى أن نهتدي بقول الجاحظ الذي أوردته الدكتورة مشاعل في مقدمتها للكتاب: «لم اكتب هذا لتقر به ولكن رواية أحببت أن تسمعها ولا يعجبني الاقرار بهذا الخبر وكذلك لا يعجبني الإنكار له، ولكن ليكن قلبك الى الإنكار أميل، وبعد هذا فاعرف مواضع الشك وحالاتها الموجبة له لتعرف بها مواضع اليقين والحالات الموجبة له».

السابق
القافلة التي ضُربت لم تكن تحمل نفطاً..إسرائيل مصممة على ضرب التسليح الإيراني في سوريا!
التالي
النفط السوري.. تعاون بين «أثرياء الحرب» وصراع أميركي ـ روسي!