التسامح السياسي في الإسلام

السيد علي الأمين

من خلال المتابعة لموارد استعمال كلمة (التسامح) في اللغة العربية يظهر أن ما يتناسب مع العنوان من تلك الإستعمالات هو معنى(التساهل) الذي يستبطن اليسر، ويقابله معنى الشدّة والضيق الذي يستبطن العسر، ولذلك يمكننا القول بأن (التسامح) هو المعنى الذي يقابله في القاموس السياسي المعاصر(التّشدّد)والتطرّف وعلى هذا فيكون المقصود من (التسامح السياسي) عموماً هو الصيغة التي تعتمد التساهل في نظم علاقات الشأن العام بين الأفراد والجماعات السياسية.

وفي الحقيقة أن هذه الصيغة تنبثق عن تعاليم إسلامية عامة هادفة لبناء شخصية الإنسان المسلم الذي تتكون منه الجماعة والمجتمع حيث إن من أهدافها قيام تلك الشخصية على أسس من التسامح في مختلف ميادين الحياة السياسية وغير السياسية، ولذلك جاء قول الله تعالى (رحماء بينهم) حكاية عن الصورة المثالية التي كان عليها المؤمنون الذين تشرّفوا بأنهم كانوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام ليعطي السمة البارزة للجماعة المؤمنة بالرسالة الجامعة لهم لتكون قدوة يحتذي بها كل المؤمنين.

برزت هذه العناية بإصلاح ذات البين من خلال جملة من التشريعات ذات الأبعاد الجامعة بين مكونات المجتمع المتعدّدة

وقد أخذ موضوع (التسامح )حيزاً مهما في الشريعة السمحاء حيث يجد الباحث في بدايات تكوين المجتمع الإسلامي في المدينة المنورة الاهتمام الجليّ والواضح بعنصر سلامة العلاقات الدّاخلية بين أفراد المجتمع وهو ما عبّرت عنه بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية (بإصلاح ذات البين) كما جاء في قوله تعالى فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين} (الأنفال)· وقد برزت هذه العناية بإصلاح ذات البين من خلال جملة من التشريعات ذات الأبعاد الجامعة بين مكونات المجتمع المتعدّدة والمؤلّفة بين قلوبها وبها تحقّقت نعمة الله على تلك الجماعات المتفرّقة المتناحرة والمتصارعة فجمعتهم بعد الإختلاف وأصبحوا أهل مودّة وائتلاف، كما حكى الله تعالى عن ذلك بقوله:واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءاً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً} آل عمران (103).

وقد جاء عقد المؤاخاة الذي قام به الرسول (ع) في المدينة المنوّرة بين قبائل الأوس والخزرج والمهاجرين والأنصار ليجعل من التسامح أساساً لقيامة المجتمع الجديد وعنواناً من عناوين دعوته الرّائدة التي اعتمدت على السلم قاعدة من قواعدها وبنداً من بنودها كما في قوله تعالى مخاطباً المجتمع الجديد{ يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السّلم كافة} البقرة: 208·

تعدّدت الروايات والأحاديث في السنّة النبوية الشريفة التي جعلت من التراحم والتسامح منهجاً في التربية يبعد الخلافات الحادّة والنّزاعات

وقد تعدّدت الروايات والأحاديث في السنّة النبوية الشريفة التي جعلت من التراحم والتسامح منهجاً في التربية يبعد الخلافات الحادّة والنّزاعات صوناً لسلامة المجتمع بكل مكوناته الدينية والعرقية واتجاهاته السياسية والثقافية، وقد جاء في بعضها: (المؤمن سهل الخليقة، ليِّن العريكة)و(أفضل المؤمنين إسلاماً من سلم المؤمنون من لسانه ويده وأفضل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) و(أفضل المؤمنين إيماناً أحاسنهم أخلاقاً الموطئون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون، ثم قال لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يحبّ للناس ما يحب لنفسه وحتّى يأمن جاره بوائقه) و(أفضل الإسلام من سلم المسلمون من لسانه ويده)·

(والمهاجر من هجر السوء والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة عبدٌ لا يأمن جاره بوائقه)·

رسّخت الشريعة التسامح من خلال جعل الأخوّة ركناً في بناء المجتمع الإسلامي

وقد رسّخت الشريعة التسامح من خلال جعل الأخوّة ركناً في بناء المجتمع الإسلامي وقد أدركت قيادة المجتمع المؤيّدة بالوحي الإلهي أن الأخوّة لا تكون إلاّ حيث يكون التعدّد والكثرة وهذا يعني الإختلاف بحسب العادة في الطبائع والآراء والأفكار والتطلّعات والرّغبات وغيرها من الأمور التي قد تؤدي إلى الخلاف والنزاع الّذي يعصف بالوحدة المطلوبة ويعرّضها للتفكك والانقسام فيما لو تركت أسباب الخلاف دون علاج· ولذلك عملت الشريعة على إيجاد تشريعات وتوجيهات للمحافظة على هذا الركن الركين الذي يشكّل حجر الزاوية في استمرار الكيان المجتمعي واستقراره فأمرت بالإصلاح بين الناس والحث عليه واعتبرته في طليعة الأعمال التي ينبغي القيام بها كما جاء في قوله تعالى: لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً} (النساء114)
وكما جاء في قوله تعالى: إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون} (الحجرات، 10)·

ومن الأحاديث ما ورد عن النبي (ع) :<ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصّدقة، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين وفساد ذات البين هي الحالقة، ولا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين>· وفي حديث آخر عن أبي أيوب الأنصاري: (قال ألا أدلّك على صدقة خير لك من حمر النعم ؟ قال: بلى يا رسول الله· قال :تصلح بين الناس إذا تفاسدوا وتقرب بينهم إذا تباعدوا) · وفي بعض النصوص الأخرى: (إصلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام)· والنصوص بهذا المعنى كثيرة·

إذا عدنا إلى القرآن الكريم فإننا نرى أن ثمة خطوطاً عدة ودائرة وسيعة يدخل فيها الجميع ودعوة إلى الوسطية والاعتدال

والمستفاد من النصوص الدينية وسيرة الحكم في الإسلام أن الحوار مع الرأي الآخر ونشر ثقافة التسامح والاعتدال في المجتمع ووضع الضوابط لأدب الخلاف بعدم التجاوز على الحقوق والحرمات بما لا يتنافى مع الحرية الفكرية، وقد أعطى الدين المساحة الواسعة التي تشمل مختلف التيارات الفكرية من دون إخراج بعضها عن الإطار الديني الذي يتّسع لمختلف الآراء والأفكار، وإذا عدنا إلى القرآن الكريم فإننا نرى أن ثمة خطوطاً عدة ودائرة وسيعة يدخل فيها الجميع ودعوة إلى الوسطية والاعتدال واعتماد الحكمة والموعظة الحسنة في إظهار الرأي والالتزام به والدفاع عنه، ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى {لا إكراه في الدين} و}ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} و}ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا}… وغير ذلك من آيات دالة على عدم جواز قمع الآخرين وإرهابهم.

لم يواجه الإمام علي تلك الجماعة عسكرياً إلا بعدما حاولت أن تفرض أفكارها بقوة السلاح

وبالعودة إلى تاريخنا فإننا نرى فيه الكثير من الصفحات التي تكشف عن منطق التسامح والحوار الذي اعتمده أئمة العلم والدين في استيعاب الآخرين ومناقشة آرائهم وأفكارهم في ظل الحكم الإسلامي . وقد كان الإمام الصادق (ع) يناقش الملحدين أمثال ابن أبي العوجاء والديصاني وحماد عجرد وأمثالهم ممن اشتهر إلحادهم وكان يبعث إليهم أحياناً من يجادلهم في أفكارهم لإقناعهم وإرشادهم إلى مواطن الضعف والخلل في معتقداتهم وكانوا يعيشون مع المجتمع المسلم من دون أن يواجهوا قمعاً لأفكارهم. وفي حياة الإمام علي (ع) بعض الشواهد على ذلك، منها: أن جماعة من الخوارج كانت تروج لأفكار تنسف الأسس الفكرية التي تقوم عليها حكومة الإمام علي ولكنه لم يمنع تلك الجماعة من إظهار أفكارها وآرائها بل كان يتصدى للكشف عن بطلانها. واللغة السائدة معهم كانت لغة الفكر والجدل الذي لا يتعدى الكلام. ولم يواجه الإمام علي تلك الجماعة عسكرياً إلا بعدما حاولت أن تفرض أفكارها بقوة السلاح وبعدما عرّضت سلامة المجتمع إلى الخطر وهددت الأمن والاستقرار بأعمالها المسلحة. ويروي لنا التاريخ حادثة وقعت في زمن خلافة الإمام علي تكشف عما ذكرناه من الانفتاح والنقاش الفكري مع المعارضين، وهي أن الامام علي كان يخطب ذات يوم في مسجد الكوفة بالناس وأثناء الخطاب قاطعه بعض الخوارج بقوله {الحكم لله! ليس لك يا علي} وأصبح هذا شعاراً سياسياً وفكرياً للخوارج يعتمدونه في رفض حكومة الإمام علي والترويج لأنفسهم. وقد تصدى الإمام علي لإبطال هذه الفكرة وقال {كلمة حق يراد بها باطل. نعم لا حكم إلا لله ولكن هؤلاء يقولون لا إمرة إلا لله، وإنه لا بد للناس من أمير بر أو فاجر…}. إن الإمام علياً بهذا الكلام حاول أن يبطل ادعاءهم هذا بالفكر والحوار وليس بالسلاح والوعيد والتهديد، فهو يقول: {نعم، الله هو المشرع للحكم ولكن الناس تحتاج إلى الأمير الذي ينفذ حكم الله تعالى. تحتاج إلى حاكم من البشر يعاقب المسيء ويثيب المحسن ويدير شؤون البلاد والعباد وهذه أمور يقوم بها البشر}.

وفي حادثة أخرى، كان الإمام علي مع مجموعة من أصحابه وكان هناك خارجي يعتقد كفر الإمام علي، وقد مرت امرأة أمامهم فنظر إليها أصحابه فقال الإمام في مقام التوجيه لأصحابه إن أبصار القوم طامحة فإذا رأى أحدكم امرأة أعجبته فليذهب إلى زوجته فإنها مشابهة لها، هذا مضمون الحادثة والحديث، وقد سمع الخارجي هذا الكلام من الإمام علي فأعجبه ذلك، وقال بصوت مسموع: قاتله الله كافراً ما أفقهه! وحيئذ قام بعض أصحاب الإمام علي وأرادوا أن يضربوا الرجل الخارجي بالسيف لأنه تجرأ على الإمام وحكم بكفره، ولكن الإمام علياً قال لهم: {مهلا إنما هو سب بسب أو عفو عن ذنب!}، وعفا عن الرجل الخارجي. وثمة شواهد عدة من حياة المسلمين السياسية تدل بوضوح على عدم جواز إرهاب الآخرين وقمعهم لمجرد أفكار وصلوا إليها أو لآراء أظهروها، ولدينا قاعدة دينية واضحة في هذا المجال وهي الحديث الشهير {الحدود تدرأ بالشبهات}، أي أن العقوبات لا تثبت على إنسان دخلت عليه شبهة من الشبهات جعلته يطرح أفكاراً تخالف السائد العام ويعلن عن آراء مرفوضة من الناحية الدينية، بل اللازم مناقشته لإزالة الشبهة التي دخلت عليه من خلال إبطالها وإظهار فسادها.

الإمام علي لم يقل عن الذين لم يؤمنوا بإمامته أنهم مرتدون عن الدين! ولم يعاقبهم على ذلك

وهذه تعتبر من الشواهد على التسامح وعدم الحكم بالكفر والارتداد على من لم يؤمن بإمام زمانه، فالإمام علي لم يقل عن الذين لم يؤمنوا بإمامته أنهم مرتدون عن الدين! ولم يعاقبهم على ذلك. والحوادث كافة التي ذكرناها تتفق مع الحرية الفكرية والدينية، وهي موافقة لقول الله: {لا إكراه في الدين} و}وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}. وفي كل الأحوال، لا يكون عدم الالتزام منافياً للإيمان ولا منافياً للإسلام لأنه دون الارتداد والإلحاد في الحكم، فإذا قبل الإمام علي بالخارجي الذي حكم بكفره ولم يرض بمعاقبته! وقبل الإمام الصادق الحوار مع الملحدين الذين كانوا يجاهرون بآرائهم! فكيف لا تقبل جماعة من المسلمين وبعض الأحزاب الدينية بالرأي الآخر الذي لا يلتزم بآرائهم وأفكارهم؟! ولذلك أعتقد أن المرجعيات الدينية يفترض أن يصدر منها توجيه وتعميم مستقل يؤكد على استيعاب الرأي الآخر والحوار معه واستبعاد التطرّف والتّشدّد معه وعدم جواز التعرض لأصحابه بالقمع والأذى لمجرد فكرة طرحوها أو اعتقدوها لأن في ذلك مجافاة وابتعاداً عن سماحة الإسلام في أحكامه ومقاصده المعبّرة عن رحابة أرجائه.

وقد كان دور الأئمة والعلماء تعليم الامة لأحكام الشريعة ونشرها والدفاع الفكري عنها وأما تطبيق الاحكام على الموضوعات وتنفيذها على الاشخاص فهو متروك للسلطات التنفيذية من باب لزوم نظم الأمر والحفاظ على النظام العام الذي تحفظ به الحقوق ولم يكن من حق اي جماعة دينية ان ترمي غيرها بالكفر والإنحراف او ان تقيم عليه حداً شرعياً متجاوزة دور السلطة القائمة وهذا هو الخطأ بل الخطيئة الكبرى التي وقعت فيها جملة من الحركات الدينية المعاصرة التي تحكم على غيرها بالكفر والارتداد وتعمل على تطبيق الاحكام وتنفيذها بدعوى حاكميتها وتنفيذها لأحكام الله متجاوزة بذلك دور السلطة الناظمة للأمر والتي لا بد منها في قيام المجتمعات والدول والاوطان كما جاء في كلام الامام علي (ع): (وانه لا بد للناس من امير بر او فاجر يعمل في امرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر ويبلّغ الله فيها الاجل ويجمع به الفيء ويقاتل به العدو وتأمن به السبل ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح بر ويستراح من فاجر).

نهج الدعوة والإرشاد

ولعل من اهم الاسباب لولادة هذه الظاهرة الخطيرة والجديدة في مجتمعاتنا الاسلامية هو تحول تلك الأحزاب عن النهج الذي درج عليه السلف الصالح من الائمة والعلماء في اعتماد نهج الدعوة والارشاد والتعليم لأحكام الشريعة الى نهج آخر يتم من خلاله استخدام العمل الديني في مشاريع الوصول الى السلطة والبحث عنها بكل ثمن ولذلك نرى وقوع الصراعات والنـزاعات الدموية بين حركات اسلامية في الكثير من بلدان العالم العربي والاسلامي بين دعاة يفترض ان يدعوا الى سبيل ربهم بالحكمة والموعظة الحسنة وقد تحولوا الى طلاب سلطة بالوسائل غير المشروعة اعتماداً على قاعدة ميكيافيلي في الحكم(الغاية تبرر الوسيلة) التي زاد عليها بعض رجال الدين حين قال(الغاية تنظف الوسيلة وتطهرها).

وقد نصبوا انفسهم قضاة للشريعة دون تنصيب لهم من احد وأقاموا محاكم التفتيش عن عقائد الناس وأفكارهم يصدرون الاحكام في خصومهم دون محاكمة وفي ذلك الاخلال بنظام المجتمع وتعريضه لأفدح الخسائر والاخطار التي تنذر بالسقوط والانهيار وهم بطريقتهم هذه لم يخرجوا عن نهج التسامح والتساهل فحسب،بل خرجوا بسبب تشدّدهم عن قواعد النظام العام واحدثوا الفرقة والبغضاء داخل المجتمع الواحد والدين الواحد والامة الواحدة وهم يقرأون قوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) آل عمران: 103 وقوله تعالى: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا من بعد ما جاءهم البيان) آل عمران: 105، وغيرها من الآيات والروايات الداعية إلى حسن المعاملة بين الناس.-١-
—————————
-العلامة السيد علي الأمين-كتاب خطاب الإعتدال في مواجهة ثقافة التطرف-ص-١٤٧-

السابق
«رسالة محبة وسلام » من أمام قصر عدل زحلة
التالي
لموظفي القطاع العام.. اعلان هام من «المالية»