حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: الإنتظام الدستوري.. إسقاط رهبة العنف

حارث سليمان
يخص الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

ينقل البعض عن الجنرال ديغول قوله “ان الدستور هو المغلف وان محتواه وروحه هم الرجال”، اي رجال الدولة الذي يخضعون تصرفاتهم وممارساتهم السياسية، لمعايير الدستور ونصوصه واحكامه.

والمعنى هنا، ان افضل نص دستوري في العالم لا يؤدي مراميه واهدافه، ان لم يكن في الجماعة السياسية التي تتعامل معه، رجال لديهم حس المسؤولية والعفاف القانوني والسياسي، الذي يجعلهم يسلمون طوعا بالانصياع لاحكام الدستور، وتطبيق القانون والانحياز للمصلحة العليا للوطن والشعب.

ويضمن النظام الديموقراطي البرلماني، احقية الصراع السياسي بين احزاب السلطة وعليها، ويضع اسس وقواعد اللعبة الديموقراطية وينظم استحقاقاتها، ويرسم السبل لتولي السلطة وتداولها، فالصراع السياسي بما هو تنافس، قد يصل حد التناحر بين البرامج والرؤى والخيارات امر ايجابي وخلاق، وهو مُنتج للحلول والخُطط وللبدائل الاكثرَ جدوى وفائدة، لكن الصراع السياسي شيء والصراع على تطبيق الدستور والاحتكام للقانون شيء آخر.

فمتى تحول الصراع بين الاطراف السياسية الى صراع على تفسير الدستور، أو نقاش لضرورة تطبيقه او عدم تطبيقه، ومتى تحول الصراع السياسي الى خلاف حول الاحتكام الى القانون او مخالفته، متى وصل بلد الى هذا الوضع، فان الازمة السياسية تصبح بنيوية شاملة، وتتهدد سلامة النظام السياسي وامكانية استمراره.

افضل نص دستوري في العالم لا يؤدي مراميه واهدافه ان لم يكن في الجماعة السياسية التي تتعامل معه رجال لديهم حس المسؤولية والعفاف القانوني والسياسي

ما عناه الجنرال ديغول في قوله، انه في غياب رجال دولة وطبقة سياسية، لديها معايير اخلاقية وقيم جمهورية سامية، فان افضل الدساتير لا تصلح الوطن، ولا تحل ازمات الناس، ولا تبني حاضرا مزدهرا، ولا تعد بمستقبل واعد ومأمول.

رجال الدولة قبل دستور الدولة، والسياسيون قبل السياسة، والقضاة قبل القضاء، وفشل الدولة يتأتى من فشل رجالاتها، وخواء السياسة ينبع من تفاهة سياسييها، واهتزاز ميزان العدالة سببه ومرجعه اهتزازات في ضمائر القضاة ونقص في هيبات وجوههم ووهن في شجاعة مواقفهم.

قد تحتاج الدساتير في عالم القانون والمعرفة، الى ملاحق تفسرها، والى كتب تشرح وتقلب معانيها، واحتمالات صلاحياتها، واصول نفاذها، ولذلك فان المحاكم الدستورية تتولى الاجتهاد والتفسير، ويجري الحرص على الفصل التام بين فقهاء الدستور ومفسريه، من جهة اولى، وبين الاحزاب والشخصيات التي تمارس العمل السياسي او تولي الحقائب الوزارية او المسؤوليات الادارية من جهة ثانية، فاللاعبون السياسيون ليسوا مخولين تفسير قواعد لعبتهم.

لكن اللعبة الديموقراطية تمضي قدما وتنظم الحياة السياسية وتوجهها دون صعوبة او عوائق، عندما تنطلق من مسلمة بديهية هي النوايا الحسنة لمجموعة الاطراف السياسية، ومن بديهية مرتجاة في سلوكهم وممارساتهم، بانحيازهم دون تردد للمصلحة العليا للوطن والدولة.

المحاكم الدستورية تتولى الاجتهاد والتفسير ويجري الحرص على الفصل التام بين فقهاء الدستور ومفسريه

في بلادنا لا تلجأ الاطراف السياسية الى مط نصوص الدستور، او إلى لَيِّ عنق مواده، او تجويف روحية مقاصده، الا بسبب التنكر والمكابرة لعدم  الإعتراف بالهزيمة والخسارة السياسية، ورفض تداول السلطة وتعاقبها، فالديموقراطية التي تعني “حكم الاغلبية” مطلوبة ومرجوة من  فريق يوم تكون الاغلبية في صفه، ومرفوضة منه يوم يفقد اغلبيته، فيتبنى الميثاقية، وهي ذريعة تعتمد لضرب حكم الأغلبية الديموقراطية التي انتجتها انتخابات نيابية، والميثاقية هي ذريعة لتمكين الاقلية من البقاء في السلطة والحكومة، بدل الذهاب الى صفوف المعارضة والمواجهة… واكثر تجليات هذه الذريعة سوءا، هي ضمان الثلث المعطل داخل السلطة التنفيذية او الحكومة!! 

 أما التسليم للاقوى في طائفته حزبا كان او زعيما، فقد تم اعتماده وتبنيه من اجل ايصال من لم يجتمع على تأييده نصاب وطني جامع، فتكون قوته في طائفته سببا لالغاء حظوظ باقي شخصيات طائفته، وتكون ايضا فعل اجبار لأحزاب الطوائف الاخرى على التسليم له بما لم يتمكن من جمعه بالإقناع والدراية والسياسة والخيارات.

إقرأ أيضاً: حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: آن للنفاق أن يدان.. وللابتزاز ان يردع

أما حكومات الوحدة الوطنية، فلم تكن يوما من أجل تمتين السلم الاهلي والعيش المشترك، ومواجهة النزعات الطائفية والغرائزية المتطرفة، ولا كانت من اجل تجاوز الانقسامات الاهلية ومعالجتها، بما يؤمن وئاما وطنيا وتفاعلا حيويا بين مناطق لبنان وجماعاته الاهلية، بل كانت هذه الحكومات ناديا لتقاسم واستباحة موارد الدولة واملاكها ومرافقها وعائدات خدماتها، كانت حكومات الوحدة الوطنية اشبه باجتماع نادي قصابين يجزرون بسكاكينهم لحم الدولة ويستبيحون كيانها، ويضمنون صمتا وتواطؤا من معارضة مفترضة انعدم وجودها بعد ان نالت حصتها . اضافة لكل ما تقدم فإن حكومات الوحدة الوطنية هي انتهاك لمبدأ الفصل بين السلطات، بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، وهي تجميد لاحدى وظائف السلطة التشريعية كسلطة رقابية، فحين تصبح الحكومة تجسيدا مصغرا للمجلس النيابي وصورة عن توازناته، فكيف يقوم المجلس برقابة ومساءلة صورته؟!

أما التلويح ببقاء رئيس الجمهورية في القصر الجمهوري، بعد انتهاء مدة ولايته وانقضاء سنواتها الست، فهي مخالفة صارخة للمادة ٤٩ من الدستور، تماما كما التلويح بان يقوم رئيس الجمهورية بسحب التكليف من رئيس الوزراء وتكليف شخصية مسيحية بتشكيل حكومة انتقالية، وهي هرطقة دستورية تتجاهل، النص الدستوري الذي اناط اختيار رئيس الحكومة ب” استشارات نيابية ملزمة”، فرئيس الجمهورية بعد تعديلات الطائف لا يختار رئيس الحكومة بل تختاره الاكثرية النيابية، وبناء على ذلك فان من لا حق له بالاختيار لا حق له بسحبه او التراجع عنه.

التلويح ببقاء رئيس الجمهورية في القصر الجمهوري بعد انتهاء مدة ولايته وانقضاء سنواتها الست فهي مخالفة صارخة للمادة ٤٩ من الدستور

لا تنتهي لائحة الممارسات التي تخالف الدستور وتتجاوز نصوصه، او تلتف على مقاصد وروحية مواده، وتلوي عنقه، فمن التشريع من اجل شخص واحد، عبر تعديل دستوري يسمح بالتمديد لرئيسي الجمهورية الياس الهراوي، واميل لحود ثلاث سنوات اضافية على مدة ولايتهما الاصلية، الى انتخاب قائد الجيش ميشال سليمان بمخالفة واضحة للدستور الذي يفرض استقالة قائد الجيش قبل سنتين من انتخابه، ( المادة ٤٩ الفقرة الثالثة) الى اعتبار نصاب جلسة انتخاب رئيس الجمهورية (وحدها دون غيرها من الجلسات) هو الثلثين من اعضاء المجلس النيابي، في حين ان النص الدستوري لا يتحدث عن نصاب جلسة الانتخاب، بل عن اكثرية موصوفة بالثلثين للفوز، في دورة الانتخاب الاولى، ثم اكثرية موصوفة اخرى النصف زائد واحد، للفوز في دورات الانتخاب التالية، في نفس الجلسة الواحدة، فاذا كانت الاكثرية الموصوفة للفوز هي نفسها نصاب الجلسة!، فهل يتغير النصاب القانوني للجلسة اثناء انعقادها؟!!

هل يكون انتخاب رئيس الجمهورية القادم خطوة تأسيسية في  مسار التلازم بين تحرير الارادة الوطنية ورفع هيمنة السلاح من جهة اولى والعودة للانتظام الدستوري من جهة أخرى؟

لم يكن ممكنا استمرار انتهاك الدستور وتطويعه والخروج عن موجباته، كل هذا الوقت وفي كل هذه الاستحقاقات، لولا الاستناد الى قوة الاكراه والعنف، والاغتيال السياسي، والتلويح بالسلاح واستعماله في مفاصل سياسية عديدة، ولذلك فان معركة تطبيق الدستور والعودة الى الانتظام في سياقاته، لا تنفصل عن معركة تحرير ارادة اللبنانيين من هيمنة السلاح والعنف وتداعياته، فهل يكون انتخاب رئيس الجمهورية القادم، خطوة تأسيسية في  مسار التلازم بين تحرير الارادة الوطنية ورفع هيمنة السلاح من جهة اولى، والعودة للانتظام الدستوري من جهة أخرى؟

هذا ما انجزه ديغول في فرنسا حين ضم الى معركة تحرير فرنسا من الاحتلال النازي، استواء الانتظام الدستوري لدولة حديثة.

السابق
القرار السياسي حُسم.. الحكومة ستولد هذا الأسبوع!
التالي
الدولار الى ارتفاع اضافي مع إقرار الموازنة اليوم.. و٤١٪؜ نسبة العجز