وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: فرقة مياس.. بشارة الحياة الجديدة

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

كنت مثل أكثر اللبنانيين أتابع بشوق بالغ الحلقة الأخيرة من America Got Talent، التي تعلن فيها النتائج النهائية للفائز الأول بين عشرة متسابقين يتمتع كل منهم بموهبة خاصة ومميزة، ما جعل المنافسة قوية وشديدة.  ساورني أثناء الحلقة خوف: من أن حظوظ فرقة مياس ستكون أقل من بعض المتنافسين الذين أظهروا قدرات وإمكانات ذاتية لافتة، ومن أن ذوق المشاهد الأمريكي الذي يفضل الــ entertainment أي العروض المُسَلِّيَة-المرحة ذات الأداء المباشر، أكثر من العروض الجديدة عليه وربما غريبة بعض الشيء على خلفيته وثقافته.

مياس منذ حضورها الأول، لم تأت لتنافس وحتى لتفوز، بل جاءت لتقدم مشهد، صورة، لوحة حياة، نص متخم بالدلالات، ودوال تفيض بالمعاني

سألت نفسي السؤال الآتي: ما الذي يجعل فرقة مياس تتميز عن غيرها من المواهب المتنافسة، والتي يرشحها أن تفوز باللقب؟ أي إذا كتب لهذه الفرقة أن تفوز، فعلى أي أساس؟ انتبهت إثر هذا السؤال أن فرقة مياس لم تقدم نفسها موهبة خاصة لتقارن بباقي المواهب ويتم على أساسها التفاضل والمقارنة بين المواهب العشرة المتنافسة. أي لم تكن قضية تعيين الأكثر موهبة والأكثر حرفية، فمياس منذ حضورها الأول، لم تأت لتنافس وحتى لتفوز، بل جاءت لتقدم مشهد، صورة، لوحة حياة، نص متخم بالدلالات، ودوال تفيض بالمعاني.

لم تجذب فرقة مياس الحضور والمشاهد لمجرد الموهبة وجودة الأداء وتناسق الإيقاع، رغم توفر كل ذلك في الفرقة، بل أدخلتهم جميعاً إلى عالم آخر لم يتوقعوه، عالم خلاق، مبتكر، فنان، يفيض حيوية ومشاعر وتطلعات وآمال.  عالم  انجذبوا إليه وحلوا ضيوفاً فيه، فتقلصت المسافة بل تلاشت بين العارض والمعروض له، بين الرائي والمرئي، حتى صاروا واحداً داخل مدى وجود مشترك، أحس كل من حضر وشاهد أن له داخل هذا المدى شيئاً من حقيقته المفقودة أو المنسية أو المسروقة منه أو المُتأمَّلة، شيئاً من ماضيه السري، حزنه الصامت، رغبته المشتتة، فرحه الخجول، حريته المربكة، أحلامه المستحيلة، وانتظاراته البعيدة.

جاءت “مياس” بضمير مثقل: بجرح وطن، وجع شعب، ذاكرة موت لا تنمحي، غضب يريد أن يتفجر في كل الإتجاهات

كانت فرقة مياس أكبر من لعبة تنافس أو مزاحمة بين مواهب. جاءت بضمير مثقل: بجرح وطن، وجع شعب، ذاكرة موت لا تنمحي، غضب يريد أن يتفجر في كل الإتجاهات.  لكن ما فعلته مياس أنها لم تأت لتستدر عطفاً أو شفقة، ولا لتلعن الأقدار، ولا لتحث على انتقام أو عقاب، ولا لتحفز على الضغينة. ما فعلته أنها تحولت وحولت الذين شاهدوها ولو لدقائق معدودة إلى أناس آخرين يحيون حيوات جديدة، معنى آخر، واقع مختلف، أفق تغيير، نمط عيش مبتكر.  خيالي نعم لكنه ممكن وجائز، مبتكر وصناعي لكنه كامن فينا كمون المتوثب للظهور والتحقق. 

قدمت فرقة مياس نفسها لا كموهبة أو حِرفة أو جودة أداء فحسب، بل كحدث، فعل ابتكار، قوة خلق

قدمت فرقة مياس نفسها لا كموهبة أو حِرفة أو جودة أداء فحسب، بل كحدث، فعل ابتكار، قوة خلق. أي تركيب ودمج مبدعين بين المواهب المتعددة، مشهدية اضمحل وذاب واحتجب بداخلها الموهوبون والمواهب والطاقات والأنوات،  سواء من كان على المسرح أو خلفه، قبل العرض أو أثنائه.  كان الجميع وحدة فوارة تشع بالكثرة، وكثرة فائضة من الإشارات وحركة الجسد والأنغام تتلاقى جميعها وتتشابك في لغة واحدة سيالة ومتدفقة، وتتآلف وتتماوج في إيقاع مضطرب، هاديء وعنيف، لتفصح عن سحر وجود منسي، وتبوح ببشارة الإنسان الجديد القادم، الإنسان الذي لا يكتفي بمقاومة ما يقيده ويعيقه، بل الإنسان الذي يجرؤ على تجاوز ذاته باستمرار.

استحقت فرقة مياس اللقب، لا لجهة أن مواهبها أفضل المواهب، بل لأنها حدث غير مسبوق في البرنامج يحمل بداخله طاقة تغيير للعالم

استحقت فرقة مياس اللقب، لا لجهة أن مواهبها أفضل المواهب، بل لأنها بحسب مؤسس البرنامج سايمن كاويل، حدث غير مسبوق في البرنامج يحمل بداخله طاقة تغيير للعالم.  أما نحن اللبنانيون، فقد أحيت فرقة مياس في داخلنا صورة وطن بهيج ومبهر،  لكنه وطن في غربة أبدية عن أرضه ومائه وشمسه، وطن منفي إلى أرض الأحلام البعيدة.    

السابق
بعدسة «جنوبية»: توترات أمام قصر العدل للمطالبة بإخلاء سبيل مقتحمي بنك «لبنان والمهجر».. «اليوم حاسم»!
التالي
بعد نفي بعبدا.. ملحم خلف يؤكد تدخل عون وتطيل قرار «شورى الدولة»!